التناقض الظاهر بين «المحارب» و«السلام» في اسم منظمة (Figthers For Peace)، الذي يعني «محاربون من أجل السلام»، مقصودٌ تماماً، لأن أعضاءها سبقَ لهم أن شاركوا في حروب، لكنهم بعد تجاربهم تلك يعملون اليوم على تنبيه العالم من أهوال الحروب.

يعمل أعضاء المنظمة من أجل السلام بوسائل متعددة، من بينها نشاطهم المسرحي في لبنان مع فرقة وصل، بعنوان «قصص حرب، مسرح إعادة تمثيل»، وهو مشروع يتضمن عروض مسرح تفاعليّ، ويُقدَّمُ منذ سنوات في عدة مناطق لبنانية، خصوصاً تلك التي عرفت أحداث عنف في فترة الحرب الأهلية، كا يتم تقديم عروض أيضاً في مخيمات اللجوء الفلسطينية والسورية. وإيماناً منها بدور المسرح التفاعلي في تشجيع المجتمع على الروي، تقدم فرقة وصل شهرياً عرضاً تفتح فيه الباب للجمهور ليتمكن من الحديث عن ذكريات وقصص الحرب، كان آخرها في فضاء زيكو هاوس في بيروت.

يبدأ العرض بدخول الجمهور إلى الصالة، ليجدوا على المسرح أربعة ممثلين، ومعهم مقدمة تتوجه بخطابها إلى الجمهور مباشرة، طالبةً من الحضور أن يدلوا بقصص، أي قصص يختارونها عن الحرب. «ماذا كنتِ تفعلين أثناء الحرب ؟»، «كنتُ أقاتل»، جاء أول أجوبة الجمهور اعترافاً صادماً من امرأة حملت السلاح خلال الحرب، وهكذا منذ الدقائق الأولى أصبح المحظور مقبولاً ومتجاوزاً، فما هي إذن صعوبات الحديث الأهلي عن الحرب بعدها؟

بعد أن ينتهي المتطوع من سرد قصته، يشرع الممثلون المؤدون الأربعة بتقديم حكايته مسرحياً، رمزياً، بأدوات وحركات بسيطة، لكنها تسمح للمتطوع صاحب القصة أن يتماهى معها، ويراها للمرة الأولى بين أيدي الآخرين، بما فيها من شجن وعواطف. آلتان موسيقيتان تشاركان، العود، والإيقاع، من خلال عازفين على يمين المسرح يعزفان خلفية المشاهد، ويتحكمان بالإيقاع في حال نضبت مخيلة الممثلين الفورية.

لكن ما هي حكايات الحرب؟

مهما بدت حكايات الحرب كثيرة ومعقدة ولانهائية، إلا أنها في مجال السرد الأدبي، تتمحور بين الحين والآخر على موضوعات مكرورة: المأساة، الدراما، المرعب، المريع، المازوشي والسادي، المذهل، الدمار، البالغ ذورة الكراهية. هل حكايات الحرب هي الفجائعيات إذن؟ وبما أننا في صالة مسرح، فالمثال الأصدق هو أن نسرد قصص جمهور صالة زيكو هاوس، الذين يمثلون عينة نموذجية للإجابة على سؤالنا.

هل حضرت نزاعاً مسلحاً من قبل؟

هل تمتلك ذكرى عن النزاعات المسلحة؟

أروِ قصة عن الحرب.

يحكي المشترك الأول أنه نزح ثلاثة عشرة مرة في حياته، خلال حروب متعددة مرّت على لبنان منذ العام 1975 حتى 2006، لكن الغريب أن ما الذكرى التي اختار روايتها من كل تجارب الحرب تلك، هي ذكرى بسيطة بقيت عالقة في ذهنه، في العدوان الإسرائيلي على لبنان تموز 2006، كان يستعدُّ للذهاب مع عائلته على البحر، لكنهم اضطروا إلى النزوح إلى الجبل. هذه هي ذكراه التي اختارها.

المشترك الثاني يتذكر حاجزاً مسلحاً ظهر فجأة في أحداث 7 أيار 2008 أمام بيته، أثارت رؤية الحاجز في نفسه قلق العودة إلى الحروب. والمشتركة الثالثة تتذكر كيف قطعت الصواريخ سلسلة تمارينها للدخول في صف البيانو في المدرسة في حرب 2006. مشاركةٌ أخرى روت عن تجربة قمع تعرضت لها في مظاهرات (طلعت ريحتكم) التي عمّت العاصمة بيروت في تموز 2015، واعتبرت أن القمع المُمارَس عليها كمتظاهرة كان بمثابة تجربة عنف مفرط تعرضت لها كما في حكايات الحروب.

لا يمكن تصديق أن هذه ستكون نوعية القصص التي سيرويها المجتمع حين يسمح له بالحديث بِحرّية عن حكايات الحرب، إلا أنه يبدو أن الروي لمجرد الروي، وبخيار شخصي بحت يعتمد على أهمية الذكرى أو القصة من عدمها، هو الغاية التي يسعى هذا النوع المسرحي لتحقيقها مع الحضور، الفاعلين، المشاركين. إنه الشفاء بالروي. الغاية من هذا المسرح مساعدة الناس على الروي، على تشارك التجارب من الماضي، والأهم على تقييمها عبر ردود الأفعال.

من المتخيل أن تكون حكايات الجمهور عن الحرب مليئة بالعنف وبالمأساة، لكن المفاجئ أن تُروى حكايات ساخرة من الحرب أيضاً. فمثلاً، اختارت المشتركة الأخيرة أن تروي على المسرح حكاية من الإعتداء الإسرائيلي على بيروت الضاحية في العام 2006. كان تنادي على عمتها كي تنتبه لأن هناك صاروخاً سيسقط فوقها، لكن العمّة ذُعِرَت أكثر حين فكرت أنه «صرصور»، قالت: «صاروخ مو مشكلة». كانت الحكاية الأولى التي تجعل من الحرب على هذا القدر من السخافة والأهمية من الآن نفسه.

يُخبرنا علماء اللغة والذهن، كم يلعب الروي، السرد، الحكي، دوراً في أنشطة التفكير. أن تعي الشيء، يعني أن تمتلك القدرة على سرده. في الحديث اليومي نُسرع جميعاً إلى روي القصص دون توقف: «آه وصلت أخيراً، كنت قد أتيت بالتاكسي…»، أخبارٌ من هذا القبيل تتحول إلى قصص. كم روينا للآخرين مثلاً أحاديثاً مع سائقي التاكسي، أو حكايات استيقاظنا متأخرين هذا الصباح.

أن تروي حكاية عن الحرب، يعني أن تتشكل الحكاية في الوعي، أن تُعبِّرَ عنها من خلال اللغة، أن تقسمها إلى أحداث، مشاعر، وردود أفعال. حين جاء علم النفس، أكّدَ على أهمية السرد، وعلى أهمية إخبار المعالج النفسي بالحكايات عن الذات. ولا يمكن أن ننسى هنا الطقس المسيحي الاعترافي، حيث الروي يحقق التطهير في غرفة الاعتراف الكنسية. لقد اختار الروائي غابريل ماركيز عنواناً لسيرته الذاتية، نعيشها لنرويها، ربما لأن فعل العيش نفسه يبدو مساوياً لفعل الروي.

صحيحٌ أن نشأة المسرح الأثيني تشي بالتفاعلية بين الجمهور والصالة، وأن المسرح طالما حاول أن يكون تفاعلياً، مؤثراً ومتأثراً بالحدث الاجتماعي وبالحضور في الصالة. إلا أن النقاد يعيدون استعمال هذا النوع من المسرح إلى تجارب المسرحي البرازيلي أوغستو بوال 1931 – 2009، الذي اتبع هذا الأسلوب في مسرح المقهورين، الذي يقول عنه د.سمير سرحان في كتابه تجارب جديدة في الفن المسرحي (2006): «الهدف الأساسي من تجربة مسرح المقهورین هو تحویل المتلقي، الذي غالباً ما یكون في المسرح التقلیدي السائد متفرجاً سلبیاً، إلى متلقٍ إیجابي یغیّر مسار الحدث الدرامي ویعید صياغته. وفي ذلك یقول بوال صاحب نظریة مسرح المقهورین، مقارناً نظریته مع أشهر نظریتین في تاریخ المسرح، أن المتفرج في نظریة أرسطو یسلّم نفسه إلى الشخصیة الدرامیة، بحیث تقوم هذه الشخصیة بأداء الفعل والفكر بالنیابة عنه. أما في نظریة بریخت فإن المتفرّج یسلم نفسه أیضاً للشخصیة الدرامیة، لتقوم بأداء الفعل بالنیابة عنه فيما یحتفظ لنفسه بحق التفكیر، وغالباً یكون هذا التفكیر متعارضا مع فكرة الشخصیة الدرامیة. والنتیجة في حالة أرسطو هي حدوث (التطهیر)، وفي حالة بریخت یصبح الهدف هو إیقاظ الوعي النقدي لدى المتفرج. أما مسرح المقهورین فیُركّز على الفعل أو الحدث ذاته ، والمتفرج في مسرح المقهورین لا یسلّم نفسه للشخصیة الدرامیة أو (الممثل) لیقوم بأداء الفعل أو الفكر نیابة عنه، بل یقوم بنفسه بدور البطولة، فیغیّرُ من مجرى الحدث الدرامي، ویقترح الحلول ویناقش احتمالات التغییر على المسرح الإنساني والاجتماعي والسیاسي».

إذن تهدف نظریة بوال إلى ترك المتلقین یعبّرون عن أفكارهم بحریة تامة، دون أن یتقیدوا بفكرة ثابتة من المجموعة المسرحیة التي تقدّم العرض، لیكتشفوا بأنفسهم مدركات جدیدة في أطروحاتهم ضمن منظومة وعیهم. وبطریقة غیر مباشرة، فإن أغستو بوال یدرّب المتلقي من خلال تدخله في مجریات العرض، وتغییر الفكرة وفقاً لما یراه صحیحاً، عبر القیام بالفعل ذاته على مستوي الحیاة».

يسمح لنا أدب الشهادات، المذكرات، والسير الذاتية، بالتعرف على الحكايات التي تختار الإنسانيةُ روايتها عن الحرب، لكن الموضوعات تتكرر، إذ يرتبط كثيرٌ منها بالأصوات مثلاً، فالحرب أصواتٌ من القصف، تقطع إيقاعية حياة من يعيش يومياتها. وهناك أيضاً قصص الحرب التي تعتمد على وصف المجازر، وقصص الحرب المتعلقة بالهجرة والنزوح والهرب من الموت إلى مكان آخر، وقصص التأقلم مع الواقع الجديد تحت الحرب. هنالك بشكل خاص كل شيء عُرِفَ أنه متعلق بالعنف خلال التاريخ، من قهر وذبح وجرائم وتطهير عرقي وإبادة جماعية. ولكلّ منها قصة وتجربة.

في قاعة زيكو هاوس تعددت الحروب المذكورة من تاريخ لبنان بين المشاركين، ورغم أنه كان هناك سوريون في الصالة، إلا أن أحداً منهم لم يشارك بقصة أو حكاية. والمرات القليلة التي ذكرت فيها سوريا، كانت كمعيار للخراب والدمار الكامل، بوصفها أشد حالات المبالغة في العنف التي يتخيلها المشاركون حين يتحدثون: «أنو يعني ما صار متل مو صاير بسوريا… أكيد»، لتبدو سوريا الرمز الأول لحكايات العنف في العالم، ولمشاهده البصرية.

يمكن أن تكون تجربة هذا العرض مُلهمة لتجارب مماثلة في سورية، حيث ضرورة إشراك الفن في  السلم الأهلي، والتصالح السياسي. هنا بإمكان المسرح أن يساعد المجتمع على التواصل والتعبير، وكيفية معالجة المشكلات. وأن يعيد عبر التفاعل في العرض المسرحي تشاركية في المشاعر والانفعالات، بعد أن عرف أفراده أقسى الانقاسمات والكراهية. في صالة زيكو هاوس، كان هناك ضحك ومحاكمات جماعية لأفكار وذكريات حميمية، عبر السرد، الروي، والجدل الذي يمكا أن يساهم في بناء المجتمع المستقبل.

إذن هي دعوة للروي الجمعي، تحديداً لما نعتقد أنها فظاعات لا يمكن التعبير عنها بالكلمات، أو جماليات صغيرة لا تُقيَّمَ بملقط جواهر الآخرين، أو شعور حسيّ بحت نعتقد أننا لن نتمكن من قوله باللغة، لكننا هنا لا نتكلم فقط على اللغة، الروي ليس لغوياً فقط، إنه عوامل عديدة متظافرة.

في مقاله بعنوان «مملكة البشر – القصص في ألف ليلة وليلة»، يكتب الناقد الأدبي تزفيتان تودوروف: «في أسلوب القصّ في هذا الكتاب، الشخصيةُ تساوي قصة، أي أن كل قصة تروي شخصية جديدة تظهر بين الحكايات. القصة تساوي الحياة، وغياب القصة يساوي الموت. كما في إحدى قصص ألف ليلة وليلة وهي قصة الكتاب القاتل، حيث الصفحة البيضاء مسمومة. لأن الكتاب الذي لا يروي أي قصة يقتل، وغياب القصة يعني الموت».

الغاية من كل ذلك هي التشجيع على الروي، لأن المجتمع يحتاج ببساطة لأن يروي ما عايشه بحرّية، ليستوعبه ويدركه. السبيل الوحيد هو أن نروي باستمرار حكايات الحرب، كي ندرك ماهيتها.