أنهى أبو أحمد من قرية كوكابيه في ريف عفرين قطاف موسمه باكراً هذا العام، ليحصل منه على «مونة بيته» فقط، بعد أن وزّعَ محصوله بين حصة المجلس المحلي والمعصرة وإتاوات للفصائل العسكرية وأجور للعمال، فضلاً عن سرقات يُرجِّحُ أن المسؤولين عنها هم مدنيون، في الغالب، يعملون لصالح تلك الفصائل، وهو ما اضطره لقطاف محصوله قبل النضج، بعد أن باءت كل محاولاته بالشكوى للمجلس والشرطة العسكرية بالفشل.
أول «المُعفّشين»، المجالس المحلية
كانت هيئة أركان «الجيش السوري الحر» قد أصدرت تعميماً في 19 أيلول 2018، موجَّهاً إلى الفصائل المنضوية تحت مسمى «غصن الزيتون»، نسبة إلى معركة السيطرة على عفرين، يقضي بـ «ترك مسؤولية قطاف وعصر الزيتون للمجالس المحلية في كل منطقة، وتسليم جميع قطاعات أشجار الزيتون لها».
وقد فرضت المجالس المحلية على المزارعين الحصول على رخصة لقطاف الزيتون، تتطلب إثبات ملكية الأرض وتقديم 10% من إنتاجها كضريبة لصالح المجلس، يتم تقاضيها من قبل مندوبين وزَّعتهم المجالس على معاصر الزيتون في المنطقة. وتُظهِرُ الصور التي حصلت الجمهورية عليها من واحدة من معاصر عفرين، عبوات زيت الزيتون وقد كُتبت عليها كلمة «مجلس».
في فيديو تم تداوله مؤخراً، تظهر رسالة من أهالي عفرين، موجهة إلى المعارض السوري جورج صبرا والعميد المنشق أحمد رحال أثناء حضورهما في ندوة، وتتضمن شكوى تتعلق بمحصول الزيتون في عفرين والانتهاكات التي تحدث. وقد اعتبر رحال في الفيديو أن النسبة التي حددتها المجالس هي إتاوة، ووصفها بالجريمة الشنيعة، متسائلاً بـ «أي حق تُفرض هذه الضريبة»، فالضريبة «تُفرض من قبل الدولة مقابل الخدمات، فما الذي تقدمه المجالس لأهالي المنطقة؟». وحمّل كل من رحال وصبرا المسؤولية للحكومة المؤقتة والائتلاف، لأن المشكلة ليست فردية على حد قولهما، بل هي مشكلة منطقة بكاملها، وعلى الجميع أن يتحمل مسؤوليتها.
من جهته، قال أبو حيدر (مزارع في عفرين) إن المجلس فرض عليه نسبة 10% من محصوله لقاء الحصول على رخصة لقطاف زيتونه، في الوقت الذي لم يستطع أن يقدم له ولأقرانه من المزارعين أي شكل من أشكال الحماية، وهو الأمر الذي أكده علي، من أبناء ناحية جنديرس، والذي قال «يأخذون حصتهم من المعصرة قبل أن نأكل ونشرب، ويتركون علينا مسؤولية حماية محصولنا وإرضاء لفصائل!».
فصائل غصن الزيتون، وضع اليد بقوة السلاح
بعد حصول أبي حيدر على رخصة القطاف خاصته، وشروعه بجني المحصول، تم منعه من قبل الفصيل العسكري في المنطقة، وعند مراجعتهم كانت التهمة الجاهزة له هي «تمويل الحزب» بحسب قولهم، والمقصود هنا هو حزب الاتحاد الديمقراطي. يقول أبو حيدر: «تمت تسوية الأمر بعد رضوخي لمطالبهم بدفع دولار واحد عن كل شجرة زيتون، صغيرة كانت أم كبيرة»، وهو ما اضطره إلى دفع 3000 دولار لعناصر الفصيل عن أشجاره، بعد أن راجع الشرطة العسكرية في عفرين لمرات عديدة، دون جدوى.
أمّا أبو أحمد، فيقول إنه رفض الرضوخ لمطالب الفصيل في قريته، وفي كل مرة كانت تمر «عرباتهم» كانوا يقومون بالسطو على «جزء من المحصول» بقوة السلاح، دون حسيب أو رقيب أو حماية من قبل المجالس المحلية والشرطة، وهو ما دفعه لاستئجار «تاكسي عمومي»: «كلما قام العمال بقطاف شوال من الزيتون كنت أرسله مباشرة إلى المعصرة بالتاكسي». وبالرغم من الحل الذي اجترحه الرجل، فهو يقول إن أكثر من «20 شوالاً من الزيتون تمت سرقتها من أرضه».
مع سيطرة قوات غصن الزيتون على عفرين في آذار الماضي، قام كل فصيل بوضع يده على المنطقة التي سيطر عليها، ثم إحصاء الممتلكات والأشجار التي تعود ملكيتها للمنتمين إلى حزب الاتحاد الديمقراطي، عن طريق المكاتب الاقتصادية للفصائل وعن طريق «مخاتير» القرى الذين حددوا الملكيات. ومع حلول موسم الزيتون قامت الفصائل باستئجار عمال لقطاف محصول هذه الأراضي، وعصره أيضاً في المعاصر التي باتت تابعة لها بدورها بوضع اليد، ثم بيعها في السوق لصالح الفصيل.
وتبلغ مساحة منطقة عفرين 202.775 هكتاراً، منها 127000هكتاراً قابلاً للزراعة، ويشكل الزيتون المحصول الأهم في المنطقة التي تضم بحسب إحصائيات وزارة الزراعة لعام 2011 ما يقارب 10.572.800 شجرة زيتون، إلا أن تقارير صحفية، قدرت الأعداد الحالية بـ 18 مليون شجرة موزعة على سبعة مناطق.
السرقات جزء من المشكلة
ما أن تقترب الشمس من المغيب في عفرين، حتى تدخل المنطقة فيما يشبه حظر التجول، بسبب انعدام الأمن والخوف الذي يعيشه سكانها، بمن فيهم المهجرون والنازحون إليها، خاصة بعد انتشار حالات من القتل والخطف، إضافة إلى وجود الحواجز التي تسبب حالة من «الرعب» بحسب أهالي رفضوا ذكر أسمائهم خوفاً من الاعتقال، وهو ما مهد الطريق لانتشار السرقات، خاصة في أراضي الزيتون.
واحد من أهالي ناحية جنديرس قال إنه وفي كل يوم يذهب لقطاف موسمه يجد أشجاراً بكاملها تم قطافها ليلاً، مع وجود آثار أقدام وتخريب، من كسر للأغصان والأشجار، فالأهالي «لا يخرجون ليلاً حتى لو سُرقت منازلهم» يقول الرجل، الذي أضاف إن عمالاً مستأجرين، عائلات بأكملها قدمت إلى المنطقة، وبحماية الفصائل المسيطرة عليها، لسرقة المحاصيل.
يروي أبو علي أن ستين عائلة جاءت من خارج عفرين إلى قاطعٍ يضم ستة قرى في عفرين، لمعاينة «أراضي الحزب» حسب زعمهم، واستئجارها من قبل الفصيل الذي استولى عليها، إلا أنهم كانوا يقومون بقطاف الأراضي التي «ضمنوها» نهاراً، وسرقة أراضي الأهالي الآخرين ليلاً. «لم يعد الأمر سراً، بل بات علنياً»، يقول أبو علي، «فعند مرورك في الأراضي الزراعية تجد خياماً لأشخاص يحملون السلاح، متناثرة بين الأراضي بحجة حمايتها، وتجد أكواماً من الزيتون المقطوف أمامها».
أسعار متضاربة، والمزارع أكبر الخاسرين
إذا استثنينا الانتهاكات التي تحدثنا عنها سابقاً، يدفع المزارع ما قيمته 10% من إنتاجه للمجلس المحلي و5% لأصحاب المعصرة، ناهيك عن أجور العمال وإتاوات الفصائل. يقول أبو حيدر إن كلفة «تنكة الزيت» على الفلاح تتجاوز مبلغ 10 آلاف ليرة، وهو ما يزيد عن ثلثي سعرها في السوق، إذ يباع زيت عفرين بين 12-16 ألف ليرة بحسب جودته ونوعه.
ويعزو المزارعون سبب تراجع أسعار الزيت إلى إغلاق طرق التصدير نحو مناطق النظام، والإتاوات المفروضة عليه عند الانتقال نحو أسواق خارج عفرين، وأجور الشحن. إلّا أن السبب الأهم برأيهم مضاربة الفصائل على أسعار الزيت في المنطقة، فالفصائل لا يدفعون سوى أجور العمال، ويعصرون في المعاصر التي تم الاستيلاء عليها، ولا يدفعون الضرائب للمجلس المحلي ولا إتاوات للحواجز الكثيرة على الطرقات، كما لا يقومون بالعناية بالأرض وفلاحتها وتقليمها، وهو ما دفعهم لبيع «تنكة الزيت» بأسعار تتراوح بين 10-12 ألف ليرة فقط، ما أدى إلى انخفاض سعره وخسارة المزارعين.
تحطيب الزيتون الجائر، «مصدر دخل» جديد للفصائل
أصدر المجلس المحلي في جنديرس في 29/11/2018، وبالتعاون مع قوات الشرطة، قراراً يمنع بموجبه قطع الأشجار الحراجية في المنطقة، مؤكداً على أنه سيتم مصادرة الأخشاب وحجز السيارة لكل من يخالف التعليمات، وكانت الشرطة العسكرية في عفرين قد أصدرت قراراً مشابهاً في 21/6/2018، يقضي بمنع قطع أي شجرة في أي منطقة في عفرين وريفها.
إن دلَّ هذان القراران على شيء، فإنما يدلان على انتشار ظاهرة التحطيب الجائر في المنطقة، وهو ما أكده أهالي ناحية جنديرس، الذين قال بعضهم إن نحو ثلث المساحة الحراجية قد تعرضت للتحطيب خلال السنة الحالية.
وتُظهر صور خاصة بالجمهورية عمليات قطع الأشجار في الأحراش، وعن هذا الأمر يقول محمد (مزارع من جنديرس) إن عمليات التحطيب لم تطَل الأشجار الحراجية فحسب، بل تعدتها إلى الأشجار المثمرة، مؤكداً أن عمليات كبيرة لقطع الأشجار وخاصة الرمان واللوز والزيتون جرت في مختلف المناطق، دون رادع. يتابع محمد: «بعد الانتهاء من الموسم يتم قطع الأشجار لبيعها كوقود للتدفئة»، واصفاً هذه التجارة بـ «الرائجة حالياً»، إذ يبلغ سعر طن حطب الزيتون ما يزيد عن 60 ألف ليرة، وهو مصدر دخل كبير إذا قارناه بعدد الأشجار المقطوعة.
التحطيب الجائر في عفرين
التحطيب الجائر في عفرين
التحطيب الجائر في عفرين
في الآونة الأخيرة، أطلقت فصائل في عفرين حملة لـ «محاسبة الفاسدين» بدعم من القوات التركية، وقد أدت إلى اعتقال بعض الأشخاص وطرد واحد من الفصائل (شهداء الشرقية) إلى إدلب، لكن ناشطين يقولون إن ثمة جهات مشاركة في هذه الحملة، ارتكبت هي نفسها انتهاكات لم يحاسبها عليها أحد، من بينها الانتهاكات وأعمال السطو والاستيلاء على محصول الزيتون وغيره، وسيعني استمرار هذا الوضع أننا سنشهد تكراراً للمشهد في كل موسم قطاف لواحد من المحاصيل الزراعية، في الوقت الذي سيقتصر دور الشرطة والمجالس المحلية على فرض الرخص وجباية الإتاوات وإطلاق البيانات.