أتذكر هلع سكان القدس المحتلّة أوائل التسعينيات بسبب تداعيات حرب الخليج التي تبعها عدد من الصواريخ العراقية الموجهة ضد جزء من الأراضي المحتلة المأهولة بالعدو الصهيوني. كان الشعور السائد في ذلك الوقت بين الفلسطينيين/ات خليطاً من النشوة والخوف: نشوة من هبّة إحدى الدول الناطقة بالعربية لإغاثة فلسطين؛ وخوف من أن تمس أضرار جانبيّة بعض المناطق المأهولة بالفلسطينيين/ات. واستجابة لتلك المخاوف، همّ عددٌ لا بأس فيه من الفلسطينيين/ات بشراء كميات مهولة من المؤن الغذائية تحسباً للانقطاع أو الشحّ. بينما كنت جالسة في بقعتي المفضلة من المنزل، وهي المدخل، دخل والدي حاملاً شوالاً من طحين القمح الأبيض، وخاطب أمي قائلاً: «غلوا أسعار الخبز ولاد الكلب». على الرغم من أن كِلا والِديّ لم تكن لديهما خبرة في العجن والخبز من قبل، إلا أن تلك المسؤولية وقعت على كاهل أمي، التي اتخذت من العجن والخبز تحدياً وأصبحنا وأمسينا نأكل الخبز بوصفاتٍ مختلفة، كانت أفضلها تُعتبر الوصفة الأرخص ثمناً والأقل يبوسة. وانطلاقاً من التجربة الشخصية، ولأن «الشخصي سياسي»، يتناول هذا المقال سياسات الغذاء في بعض الدّول الناطقة باللغة العربية، ويشكّك في نوايا الدول التي تزعم دعم وحماية حقوق النساء في بلداننا بينما تقوم باستنزاف مواردنا وأجسادنا من منطلق العمل والغذاء سواسية، مسبّبة بذلك أضراراً فادحة للنساء في الجنوب العالمي بشكل أساسي.

في ظل الإطار الاستعماري الصهيوني في فلسطين كغيرها من بقاع العالم، عادةً ما تُلقى مسؤولية ترشيد استهلاك المؤن والمواد الغذائية على النساء. وبالإضافة إلى تلك المسؤولية، يشير عدد من الأبحاث إلى أن استهلاك النساء والفتيات للطعام في داخل المنزل أقل بكثير من استهلاك أقرانهن من الرجال والفتية. ويعزى ذلك الاختلاف في الاستهلاك إلى المعتقدات المجتمعية التي تدّعي أن حاجات الرجال الغذائية أعلى من النساء. في عام 1980، بحثت الأكاديمية النسوية كريستين دلفي في الممارسات الاستهلاكية للغذاء والفروقات الجندرية في تقسيم الغذاء من خلال دراستها لمجتمعات قروية في فرنسا، وبيّن بحثها أن الرجال في المنازل دائماً يحوزون على حصة الأسد من الطعام مقارنة بالنساء اللواتي يأكلن طعاماً يعتبر أقل مرتبة، فتُخبأ اللحوم والكحول للرجال. ولا تنحصر تلك المفارقات في الممارسات الغذائية بفرنسا، فقد بينت دراساتٌ أخرى كذلك، مثل تلك التي قامت بها الباحثة نيكي تشارلز، أن التفاوت في استهلاك الطعام ما بين الرجال والنساء هو أمرٌ سائد في مجتمعات أُخرى. فعلى سبيل المثال، وجدت تشارلز (1993 و 1988) من خلال أبحاثها في مناطق مختلفة في العالم أن بإمكاننا الوصول إلى الكثير من المعارف عن حيوات وتجارب النساء من خلال دراسة ممارسات الطعام والتغذية في المنازل. فعلى سبيل المثال، لا تدلنا الممارسات الغذائية في المنزل على موقعية النساء في داخل المنزل وحسب، بل قد تشير إلى القيم الطبقية الرمزية الملقاة على أنواع معينة من الأغذية. كما قد تكون دراسة ممارسات الطعام والتغذية في المنازل مدخلاً إلى معارف عن الأدوار المجتمعية المتوقعة من النساء. استنتجت تشارلز أن ممارسات الطعام في المنازل تعيد إنتاج العلاقات الجندرية بشكل يعزز الفروقات الطبقية بين الرجال والنساء في داخل وخارج المنزل. كغيرها من النسويات الماركسيات، كان هذا الاستنتاج مبنياً على أن المعاملة التي تتلقاها النساء تعكس انتماءهن لطبقة اقتصادية واجتماعية أقل مرتبةً من الرجال. وعلى ذلك تُنظِّر عدة نسويات للعلاقات الجندرية على أنها علاقات طبقية. ليست الصورة ببعيدة عن مخيلة القارئ/ة، فقد يتذكر أغلبنا مشاهد من بعض المسلسلات المصرية وخصوصاً تلك التي ترسم العلاقات الجندرية في المجتمعات الصعيدية، حيث تجهّز النساء سفرة الطعام ليأكل الرجال تحت أنظار النساء، ومن بعد انتهائهم من وجبتهم يُسمحُ للنساء أكل ما يتبقى على مائدة الطعام.

ولأن النساء غالباً ما يكنّ مسؤولات عن الطعام في المنازل، ولأنهن أقل رتبةً اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً مقارنة بالرجال، بسبب الأنظمة الأبوية القمعية الممتدة من المستوى العائلي إلى مستوى الدولة، لا يمكننا التكلم عن الأمن الغذائي العالمي واللامساواة العالمية في الوصول إلى الغذاء دون لفت الانتباه إلى النساء، ودون أخذ منظور نسوي تقاطعي يلقي الضوء على واقع ذلك التفاوت وتلك اللامساواة في حياتنا اليومية. ونقصد هنا بالمنظور النسوي التقاطعي نهجاً معرفياً يدقق النظر في تجارب النساء لا كتجارب منفصلة عن أنظمة قمعية أخرى، بل كمصدر معرفيّ عن أشكال وأوجه مختلفة للقمع كالأنظمة الطبقية والسياسية والأبوية المجتمعية وغيرها. وبالمثل، لا يمكننا التكلم عن الأمن الغذائي والشح الغذائي والفقر في منطقة ما دون تسليط الضوء على عولمة الاستعمار واقتصاد السوق الحرة، اللذين يؤديان أخيراً إلى زيادة الفجوات الاقتصادية لا على المستوى الظاهري فقط بل في أدق المستويات، كمستوى الدولة القومية والطبقة والعائلة الممتدة والعائلة النووية. ولا يمكننا أيضاً تحليل ذلك دون النظر إلى القيم التراتبية الثقافية لأنواع الغذاء المختلفة تاريخياً وثقافياً. هذا ويعطينا تأريخ الخبز تحديداً فكرةً دقيقة عن اختلاف المعاني الرمزية له كغذاء مثالاً على أهمية تحليل القيم الطبقية الملقاة تاريخياً على الطعام.

بحسب آخر نتائج علم الآثار، تم العثور على ما يُعتقد أنه بقايا لأول أشكال الخبز في التاريخ البشري في شمال شرقي الأردن ويتكون مزيج الخبز ذلك من الشعير والشوفان والحنطة. وتؤرخ تلك البقايا إلى قبل 14 ألف عام من تاريخ اليوم. هذا وتشير الأدلة أيضاً إلى أن الخَبز كان يعتبر عملاً شاقاً ومُكلِفاً، لما يتطلبه من تقشير الحبوب وطحنها وعجنها وخبزها وغير ذلك من تفاصيل ودقة الصناعة، مما يدل على أن قيمة الخبز الرمزية في ذلك الزمان كانت عاليةً جداً، وعلى أنه لم يكن طعاماً يتمكن من أكله الجميع في المجتمعات قبل الزراعية (UCL, 2018). أمسى الخبز في يومنا الحالي من أساسيات حمياتنا الغذائية في العالم بأكمله. فعلى سبيل المثال، كان الخبز الأبيض يُعتبر طعاماً للبرجوازيين لنقائه وصعوبة صنعه إلى أن أصبح مُستهلكاً على مستوى العالم، لتصبح قيمته الثقافية الرمزية أقل ممّا كانت عليه (Charles and Marion, 1988). تغيرت قيمة الخبز الثقافية الرمزية بعد أن أصبح طعاماً للجميع، وبعد أن أصبحت صناعته أسهل وأسرع مع الثورات الصناعية. وعادةً ما تصبح بعض الأطعمة مُنتَجة بوفرة لتلبية احتياجات الطبقات المترفة المتزايدة. فتعكس التغيرات في الممارسات والحميات الغذائية تغيراتٍ في موازين القوى العالمية وتوافر الموارد الأساسية، كما تعكس أيضاً الرغبات السلطوية والطبقية لكسب المزيد من القوة والمال. فبجعل الخبز طعاماً للجميع، تزيد الاحتياجات العالمية على القمح وغيره من الحبوب التي تستخدم لصناعة الخبز، ويزدهر سوق القمح الذي غالباً ما تسيطر عليه الطبقات المترفة ومُلاك مساحات كبيرة من الأراضي.

في حديثنا عن الخبز لا يمكننا إغفال الموقع الذي تم فيه إيجاد أول مطحنة حبوب في التاريخ، أي مصر. كانت تُعَدُ الأراضي المصرية أكبر مُصّدِرٍ للقمح على المستوى العالمي، وفي وقتٍ ما كانت تعتبر «سلة غلال العالم» (Roebuck, 1950). فبعد أن حققت مصر اكتفاءها الذاتي من إنتاج القمح قبل الاستعمار البريطاني، أصبحت مُستورداً للقمح خلال فترة الاستعمار لتلبية احتياجات البريطانيين الاستهلاكية على أراضيها. واستمرت حاجة مصر للقمح بالتزايد سنوياً، إذ أصبح الخبز المدعوم حكومياً هو خبز القمح وليس خبز الذرة التقليدي، فزادت بذلك الحاجة لاستيراد المزيد من القمح. بالإضافة إلى ذلك. وقد بينت عدة دراسات أن استهلاك مصر المتزايد للقمح يعود لعدة عوامل، أهمها زيادة إنتاج واستهلاك المنتجات الحيوانية من اللحم والدجاج ومنتجات الألبان والبيض وزيادة الطلب عليها في السبعينيات تحديداً من قِبَلِ الطبقات المترفة، والتي كانت تستهلك أربعة أضعاف ما تستهلكه العائلات الفقيرة من تلك المنتجات (Ikram, 1980). وبسبب ازدياد استهلاك المنتجات الحيوانية، زادت تكلفة إطعام المواشي ورعايتها على أراضٍ تصلح للزراعة، إذ أن تكلفة إنتاج كيلوغرام واحد من اللحوم الحمراء يقارب تكلفة إنتاج عشرة كيلوغرامات من الحبوب (Soliman and Shapouri, 1984). ولذلك أصبحت منتوجات مصر القومية من الحبوب المصدر الأساسي لإطعام الحيوانات بدلاً من المصريين. ترافق هذا التغيير في الاستهلاك الغذائي مع تغيير في سياسات الحكومة الضريبية، حتى أمست المواد الأساسية المستوردة المدعومة معفيةً من الضرائب، بينما تم فرض الضرائب على المواد التي ينتجها المزارعون المصريون (Dethier, 1989). ولا يمكننا اغفال أثر ذلك تحديداً على النساء اللاتي غالباً ما يحصلن على الحصص الغذائية الأقل داخل المنازل. ولا يمكننا تجاهل أثر النظام الطبقي وتغير الممارسات الغذائية الاستهلاكية نزولاً عند رغبات الطبقات المترفة وعاداتهم الغذائية والدول الاستعمارية التي تزود الدولة المصرية بالديون لدعم الاستيراد المعفي من الضرائب، والتي تضغط على مصر لتصبح صادراتها الكبرى من المواشي، ما يولّد حلقة مفرغة يصعب من خلالها تحسين الأوضاع الاقتصادية في البلاد (Mitchell, 1988,1990). وتعتبر النساء من أكبر المتضررين من الأزمات الغذائية والاقتصادية في مصر. فبالإضافة لكونهن مسؤولات عن تحضير الطعام في المنازل، فإنهنّ يعانين أيضاً من سوء التغذية، مما يؤثر على قدرتهن على تلبية احتياجات أطفالهن الرُضع الغذائية. فبحسب تقرير لوزارة الصحة والسكان (2015) تعتبر مصر واحدة من الدول الست والثلاثين التي تعاني من  تسعين بالمائة من مشاكل سوء التغذية العالمية. وامتثالاً لرغبات الدول الدائنة، قامت الحكومة المصرية في عام 2016 بإيقاف تزويد الأمهات بحليب الأطفال المدعوم، مما أدى إلى مشاكل سوء تغذية ومضاعفة العبء على الأمهات، اللواتي كُنَّ يعانينَ أيضاً من عدم توفر إجازات أمومة كافية تسمح لهنَّ بتلبية احتياجات أطفالهن. ومن الوصم بالعار إذا قمن بإرضاع أطفالهن في أماكن عامة، مما يضطرهن إما إلى مغادرة سوق العمل أو العجز عن توفير الغذاء لأطفالهن الرضع (El Sharkawy and Farouk, 2018). وبحسب تقرير لمنظمة الصحة العالمية، تعاني حوالي أربعين بالمائة من النساء في مصر في عمر الإنجاب من فقر الدم ومن نقص حديد حاد.

بينما يبين لنا مثال مصر تقاطع النظام الطبقي مع سياسات الدول التي يفترض أنها «داعمة» ونظام الاقتصاد الحر الذي يجعل الوصول إلى الخبز المصنوع من مواد محلية أبهظ ثمناً من المستورد، وكيفية تأثير تلك الأنظمة على حيوات النساء، يزودنا العراق بمثال على السيطرة المباشرة لقوات الاحتلال على المواد الأساسية لصناعة الخبز. فقد كان العراق قبل الاجتياح الأمريكي عام 2003 قد طور نظاماً زراعياً يعتبر تاريخياً لخزن وزراعة ومشاركة الحبوب. ولكن بحلول عام 2005 لم يعد بإمكان العراق تغطية خمسة بالمائة من احتياجه للحبوب. يعود ذلك العجز إلى القوانين التي فرضها الساسة الأمريكيون بعد الاجتياح، والتي لم تمنع فقط المزارعين العراقيين من خزن البذور وإعادة زراعتها، بل جعلت من ذلك التقليد الذي كان يمارسه حوالي سبعة وتسعين بالمائة من المزارعين العراقيين جريمة يحاسب عليها القانون (Focus on Global South and Grain, 2004). ومع فتح الباب لاستيراد بذور أمريكية، لم يسمح القانون للمزارعين العراقيين بإعادة استخدام تلك البذور في السنوات اللاحقة إلا إذا قدموا نسبة من الأرباح للشركات المُصَدِرة (Smith, 2005)، والتي غالباً ما تكون أمريكية. وفي الوقت نفسه زادت نسب سوء التغذية في العراق وارتفعت معها معدلات وفيات الرضع. يبيّن لنا مثال العراق تواطؤ القوى الدولية ومؤسسات الدول في الجنوب العالمي على خلق علاقة تبعية واتكال على الاستيراد في الجنوب العالمي، مما يؤدي إلى تدهور الوضع الاقتصاديّ بشكل يصعب التخلص منه. فالحبوب التي كانت تُستخدم لصُنع الخبز في العراق جرى استبدالها بحبوب معدلة جينياً تصلح لصناعة بعض الخبز والمعكرونة. وكما قالت الناشطة داليا وصفي في خطاب لها في عام 2008: العراقيون لا يأكلون المعكرونة، ولهذا قد تتطلب تلك التغييرات من النساء تعلم صناعة المعكرونة. كما تضطر العديدات من الأمهات، كأمي، تعلم وصفات طعام توفيرية تتلاءم مع الوضع الاقتصادي والسياسي السائد، مما يضيف على كاهلهنّ أعباء منزلية إضافية غير مدفوعة الأجر تتطلب كدحاً إضافياً، وهو ما يزيد من تجذرهنّ في المنازل وابتعادهنّ عن الفضاء العام.

وبناء على ذلك فإن التبعية الاقتصادية والسياسية التي تخلقها هذه الممارسات الاستعمارية تقود أيضاً إلى تغييرات في الممارسات الغذائية التقليدية لتلك الدول. ونظراً لارتباط الطعام والإطعام بالنساء، لا بد أن يتم تحليل تلك الممارسات من منظور نسوي تقاطعي يسلط الضوء على الأثر المباشر للاقتصاد والسياسة على تجارب النساء وحيواتهنّ. بالمقابل، لا يمكننا التحدث عن حقوق النساء في الجنوب العالمي أو في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من منظور ليبرالي تحرري لا يأخذ الاقتصاد والسياسة بعين الاعتبار. ولذلك لا يمكننا التحدث عن الخبز بدون النظر إلى أوضاع النساء، ولا يمكننا التحدث عن أوضاع النساء دون التحدث عن الأنظمة الاقتصادية والسياسية التي تعيد إنتاج اللامساواة العالمية والاعتماد الاقتصادي والسياسي على دول الشمال العالمي. بينما استغل الاستعمار موارد وخيرات المناطق التي استعمرها لينهض اقتصادياً من خلال سرقة تلك الخيرات من أماكنها ونقلها لبلاده، ما يزال أثره واضحاً على استنزاف خيرات تلك البلاد حتى يومنا الحالي، وبأشكال غير مباشرة تؤثر على عاداتنا وممارساتنا الحميمية في المنازل وعلاقتنا بالغذاء. في عدد كبير من دول العالم الجنوبي، أصبحت المنتجات المحلية والبلدية أبهظ ثمناً من تلك المستوردة، على الرغم من تكاليف النقل، بسبب اقتصاد السوق الحر وتحكم الدول الدائنة بممارسات الطعام والغذاء الذي يدخل أجسادنا. فتلك التبعية الاقتصادية هي استعمار لأجسادنا، ومن أكبر المتضررين/ات من ذلك الاستعمار النساء. هذه المقالة هدفت إلى تسليط الضوء على آثار ذلك الاستعمار على جانب واحد من ممارساتنا الحميمية وتغييرها علاقتنا مع الطعام، وسعت لتقديم نظرة مختلفة عن الاستعمار، الذي لا يقتصر على السطوة العسكرية والحربية بل ويعيش بيننا، في حقولنا ومطاحننا ومخابزنا وعقولنا وأجسادنا أيضاً.