كلّ من يقتل الطائر الفرّان أو يخرّب منزله ستنقضّ عليه العاصفة*

إدواردو غاليانو، ذاكرة النار

1949 دمشق – البلاغ رقم 4

«لجأنا مضطرين إلى تسلّم زمام الحكم مؤقتاً»

ترددت بلاغات الانقلاب السوري الأول عبر الإذاعة في شوارع المدينة، الأساسيات أولاً: افتتاحية تؤكد على زهد قادة الانقلاب في حكم البلاد واضطرارهم للقيام بذلك من أجل المصلحة العامة – وهي ذات النغمة التي سترددها بيانات كلّ انقلابٍ قادم –  ومطالبة الشعب السوري «بالهدوء والسكينة» ومن ثم التحذير من حمل السلاح، وفرض حظر التجول. بعد ذلك سيأتى بلاغ الرغيف، البلاغ الرابع، محذّراً من التلاعب بأسعار الخبز أو احتكاره ومتوعداً بعقوباتٍ شديدة لمنتهكي هذا البند. لم تكن الانقلابات قد أصبحت طقساً سوريا شائعاً، ولم يكن الخوف قد لازم اسم البلاد بعد. كان الناس يوقفون العسكريين المنتشرين في شوارع العاصمة ليسألوهم عن معنى «الانقلاب». بعد ثلاثة أشهر سيُساق حسني الزعيم، صاحب الانقلاب المتهوّر، المولع بمظاهر المهابة العسكرية، مع رئيس حكومته محسن البرازي، ليُرميا بالرصاص.

سيعتاد الناس بعد ذلك على تخزين أربطة الخبز في المنازل مع تباشير كل انقلابٍ وحدثٍ جديد، وفي أعوام المقتلة سيعمّد درب الرغيف بالدم في مناطق العصيان التي تُستهدف القذائف أفرانها في ساعات الازدحام، بينما تحفل منشورات الصحافة الرسمية بأنباء الجولات التفتيشية المرتبكة لوزارة التموين على أفرانٍ أخرى.

1990 موسكو – رغيف فخر الفلاحين الأسود

«هذه هي آخرة الشيوعية، بيوقفوا بالطوابير مشان هالرغيف الأسود»

لم تكن جارتنا العربية في روسيا، صاحبة هذه الشكوى، من أشد معجبي المخبوزات التي تنتجها أفران المدينة كما هو واضح، ولكن، ولإنصاف المرأة قليلاً وتفهّم مزاجها المتكدّر، لم يكن عام 1990 يمثل الفترة الأكثر إبهاجاً للحياة في موسكو. كان من السهل أن يدمغ الطعم اللاذع لخبز الشوفان الروسي الأسود حينها أوائل ذكريات الرغيف لدي، ساحقاً أي ذكريات لرغيف القمح الوطني السوري الوادع ذي النكهة المحايدة. كانت شرائح هذا الخبز من أساسيات المائدة مع قوالب الزبدة، ولكنّ التأدب واجب في حضرة مضيفيك: الصلاة على خبز الشوفان الأسود المرّ قبل الأكل لا شأن لها بشكر الرب هنا والآن، فاليد التي وضعته على الطاولة كيانٌ واقعي مُدرك إلى أقصى الحدود، لا طيف روحٍ علوية ما ورائية. هي ذات اليد التي استلطت عليها جداريات البعث الكئيبة في دمشق مسمية إياها اليد العليا في الدولة. الصلاة والسلام على مرارة رغيف الشوفان الأسود، فخرُ فلاحين يكسرون هذا الخبز مودةً كلما التقوا جديداً، وبقطعةٍ منه يغطون قدحاً زائداً عن عدد حاضري الجنازة وداعاً للراحل.

الصلاة والسلام على لينيغراد في سنوات حصارها تدفع بهذا الخبز احتمالات المجاعة، وعلى هائمين كارهين في موسكو يكسرونه على أقداح الفودكا لاعنين إصلاحات غورباتشوف الاقتصادية لعام 85، التي حاصرت المشروب الوطني رافعةً أسعاره.

تنزل شرائح الخبز المرّ على الطاولة، مع قالب زبدة ومع التوتر الذي يشيع في الجو. كلمات يرددها الجميع بهستيرية: الانهيار، الهدم وإعادة البناء، عصابات شيشانية تثير الشغب في موسكو. لم أكن لأدرك في عمر السادسة بالطبع أي لحظة حاسمة تمر بها البلاد، كنت منصرفة إلى ممارسة أنشطة كانت لتجعل الأب القائد – أي أبٍ قائد – فخوراً: تعلم الروسية في المنزل من الكتب ذات الرسوم الملونة بالألوان الخشبية لمغامرات الأطفال فالوديا وبيوتر وناديا، والترفيه عن النفس بمشاهدة النسخة السوفييتة من توم وجيري (نو بوغودي «انتظر وحسب!»، حملت نسختها العربية اسم يا ويلك يا أرنب) وتدريب أسناني النامية على مواجهة خبز الشوفان الأسود وقسوة قوالب شوكولا ألينكا الشهيرة، أشهر منتجات مصنع أكتوبر الأحمر (بالطبع)، تمهيداً لأكبر مع أقراني، ممن أُنشئوا تنشئة صارمة حسنة، بأسنانٍ صلبة تمزّق مشاريع الرجعية. في الليالي التي كان يتغيب فيها أبي عن المنزل في رحلة عمل في هذه الفترة، كانت أمي تنصت بقلق لوقع أي خطواتٍ على سلم البناء، لم تكن مرتاحة للأسئلة الدائمة التي كنا نتلقاها من جيراننا الروس حول ما إذا كنا من «غروزني»، ولم يكن من الواضح ما إذا كان النفي والتأكيد على أننا عرب يمثل إجابة صحيحة، إذ لم يبد أن أساريرهم كانت تنفرج للغاية.

سألتُ أمي عن معنى الكلمة التي يرددها الجميع، البيرسترويكا. شكّلت يديها على هيئة كرةٍ في الهواء

– الهدم.

قالت، مباعدة كفيها

– وإعادة البناء

عاد كفاها ليُشكلا الكرة الوهمية.

مدّت السلحفاة المائية رأسها من الدورق المائي المكور فوق طاولة المطبخ على وقع النغمة الدرامية لدرس أمي، ثم عادت للملل تحت الماء.

1998 اللاذقية – خبز السكري (1)

بعد جولةٍ في سجونها عقب انهيار مشروع الوحدة مع مصر، أقسم جدي ألا يطأ أرض هذه البلاد مرة أخرى. كان الخوف قد لازم اسم البلاد حينها. غادر إلى ألمانيا الغربية حيث سبق وأن عمل في البعثة الديبلوماسية للجمهورية المتحدة وكوّن فيها معارفاً، ونفذ تهديده، إذ بقي في مدينة بون حتى توفي بعد أن نهب الزهايمر ذكرياته وحنقه على البلاد. نكث بوعده مرة واحدة، كانت المرة الوحيدة التي رأيته فيها، حين عاد هرماً في زيارة أخيرة للبلاد مع زوجته الألمانية. كان جسد الملاكم والعسكري السابق قد شاخ، وكان الحلم الحماسي بوحدة العرب قد تبخر، لتقتصر الزيارة على مجاملاتٍ عائلية والمنافسة التي احتدمت بين الأحفاد على التحدث بإنجليزية مروّعة مع الضيفة الألمانية المسكينة، وسط متابعةٍ قلقة من الأهل الذين كانوا معنيين بهذه المنافسة بالوكالة، ومنتظرين رؤية نتيجة ما تكلفوا عليه من مصاريف للمدارس الخاصة. في الحقيبة التي جلبها من ألمانيا، والتي نبشتُها دون حرج في غفلة منه، مُستكملة عمل الإخوة من عناصر الأمن الذين استقبلوه في المطار، بحثاً عما يؤكل من أشياء ربما جلبها معه من ألمانيا هرباً من واقع الحلوى محلية الصناعة بنكهة يوم الدينونة. لم أجد سوى أقراصٍ قمحية اللون موضّبة بغلاف نايلون شفاف.

وُبِخت كثيراً فيما بعد لنهبي مؤونة جدي أثناء فترة زيارته مما تبين أنه «خبز مرض السكري».

عشرون عاماً ستمضي بعد ذلك، وستمر يدي على رفوف المتاجر في بيروت بحثاً عن خبز جدي، كعكات الشوفان والأرز بديلاً عن الخبز العادي عالي السعرات كما أوصتني زميلاتي. ليس مهماً أن هذه الأقراص لا تخرج على دفةٍ خشبية من كوة النار، وأن لا رائحة لها. لم يعد أي من ذلك مهماً في تلك المرحلة، إذ كان شيء قد تحول إلى شبه مهزلة، وكانت هذه الأقراص التي استعان بها جدي دون طائل على السكري، عوناً وهمياً كذلك في بيروت في مواجهة وزنٍ زائد تَعِدُ به حياة الكآبة والتحديق في ساعاتٍ متواصلة من مسلسلات الجريمة على التلفاز متحاشيةً النشرات الإخبارية وأي مقطع مصور يحمل عنوان «مسرّب».

2014 برلين – الاقتصاص من الكاربز

سأصل إلى مطار فرانكفورت في أيلول 2014 كنقطة وصل تمهيدية لبداية فصلٍ جديد في برلين. رغم تقديري البالغ لأي مصدر من مصادر الكربوهيدرات المحفزة لهرمونات السعادة، استسغت للغاية فكرة عداوة العصر الناشئة بين الخبز وابن آدم، إن كان بسبب السعرات أو حساسية الغلوتين، وتحمست للطلاق الواقع بين الرغيف المقدس والموائد المباركة بالمنتجات الزراعية العضوية والنضال البيئي، لم يكن هناك من سبب لهذه المشاعر سوى محض البهجة غير المفهومة ذاتها التي يشعر بها بعضنا عندما ينشب عراك أمامه أو تتخرب بنى قائمة.

مع الوصول إلى ألمانيا، كان من الصعب أن يبعد المرء عن رأسه إغراء المقارنات المبتذلة: «مشيتُ خطى جدي نفسها، غادر بسبب الأب وغادرتُ بسبب الابن ووصلنا إلى النقطة نفسها»، لم يكن الأمر مماثلاً في الواقع، جئتُ من بين ملايين آخرين انتشروا في أطراف الأرض إلى مكانٍ اختارته لي الصدفة ولم أكن أعرف الكثير عنه. جربتُ أن أبحث عن زوجته على الإنترنت، لم يبدُ من الصعب العثور على امرأةٍ باسم ألماني وكنية عربية في مدينة مثل بون. صدق ظني، إذ وجدت موقعاً يستعرض تحفاً وأعمال زينة منزلية يدوية الصنع وبعضها يحمل اسمها، مرفق بعنوانٍ بريدي وحسب في حال الرغبة بمراسلتها لشراء هذه القطع. فكرت في كتابة رسالةٍ بريدية لها ومن ثم فكرت بالضخّ المكثف في وسائل الإعلام هنا للحديث عنّا طيلة الوقت، نحن، أي الملايين الذين أتيتُ بينهم، قضايانا ومشاكلنا وقصص نجاحنا، ما إذا كنا ننوي العودة أو نستطيع الاندماج، فرأيتُ أننا يجب أن ندع هذه المرأة وشأنها بسكينتها مع مصنوعاتها اليدوية.

التأدب واجب في حضرة مضيفيك: الصلاة على المائدة لا شأن لها بشكر الرب الآن وهنا، وهذا حسنٌ إذ أننا قومٌ بتنا نتوجس من أي ما يذكرنا بالأب والابن، الخبز ليس فاتحة مودة مع أحدهم ولا قرباناً، أُزيلت مصادر الغلوتين عن المائدة احتراماً لرغبة الضيوف، ومصادر تحفيز هرمونات السعادة متوفرة ومكثفة في أقراصٍ صغيرة أنيقة تجدها في كل مكان، فلا حاجة للكربوهيدرات ولا لإزعاج السيدات المسنّات مدفوعاً بأوهام إيجاد دفء ٍ بديل للعائلة.

فترة ما في التسعينات: دمشق – ركن الدين – أفران ابن العميد الآلية الاحتياطية

في الطوابير المزدحمة أمام فرن ابن العميد الآلي الاحتياطي، أحد أشهر أفران دمشق، كان من السهل أن يتم تدمير أدبيات الرغيف المبارك حاضن بركة الأرض منذ أولى سنوات الطفولة: التدافع والبؤس والصباحات الشتوية الكالحة والكوّات الثلاث الشهيرة للفرن: عسكريون – رجال – نساء. لم تكن أرغفة الخبز الممتازة قادرة على مواجهة الكآبة التي تغرق فيها المدينة. بعد عودة عائلتي إلى دمشق من موسكو في هذه الفترة، لم تغب أسماء بيوتر وناديا عني تماماً، ولكن عوضاً عن قيامهم بواجباتٍ منزلية وإطعام العصافير في كتب تعليم الروسية، باتوا الآن أبطال مسائل حسابية وتجارب فيزيائية مبّسطة في كتب الفيزياء والرياضيات المسليّين الصادرة عن دور مير وأورورا والتقدم، كان فالوديا قادراً بواسطة خدعة على حشر 11 ضيفاً في 10 غرفٍ فارغة في فندق، وفي صفحات خداع البصر كان طول الطريق الذي يسلكه بيوتر من النقطة أ إلى النقطة ب مساوياً لعرضه رغم عدم وضوح ذلك في الصورة. مع هذه الكتب والمواظبة على الدروس في المركز الثقافي الروسي في شارع 29 أيار وأصدقاء والدي الروس الذين يلقون بأمثالٍ وحكم غير مفهومة المغزى لي تماماً، كان هناك دائماً ما يذكر بالأم روسيا في اليوميات المعاشة، ولكن الأهم: طوابير الانتظار أمام الفرن. ترافقت زيارات هذا الفرن وازدحامه بأولى الخيالات عن اختطافي من أهلي يوماً ما في هذا الازدحام وعدم رؤيتهم ثانية. لم يبدُ أصل اسم الفرن أو صحة نسبته للكاتب ابن العميد من عدمها تفصيلاً في غاية الأهمية يوماً، كانت وفرة أسماء الكتاب ومشاهير المتصوفين والأولياء الموزعة بسخاء على مدارس وشوارع المدينة وفي هذه المنطقة تحديداً، لتوحي وكأنها حلقة علمٍ مترامية الأركان تفترش سجاداً ملوناً وتدخلها الشمس من قبب دائرية، في حين كان كل شيء أقرب شبهاً بالإيحاء العسكري لاسم الفرن وكوته الأولى، والطوابير الكئيبة الشبيهة بتلك التي كانت تزعج جارتنا في موسكو، لم يكن من السهل تمييز الفرق بين أن تكون المدن الكئيبة عقوبةً على الشيوعية كما اقترحت المرأة أو على تخريب بيت الطائر الفرّان، وهو ما أخال أننا فعلناه مراراً.

2012 دمشق – خبز السكري (2)

كانت الحواجز تقطع أوصال المدينة آن ذاك، وكان الذهاب لأي مكانٍ خارج محيط الحي هدراً للوقت على الطرقات. كانت أمي قد اهتدت لمخبز في منطقة الشعلان المجاورة لنا، خاصٍ بالخبز السكري بعد أن ارتفعت معدلات السكر لديها. كانت تكرر بحسرةٍ واضحة أثناء هذه الجولة كيف يعتاد المرء على نكهة هذا الخبز بسهولة مع الوقت ويستسيغه، معددة كم فوائده الهائل ووصفاتٍ مقترحة لاستخدامه في كلّ مرة نذهب فيها إلى الفرن، ثم تعود للحديث عن نباتاتها التي تذبل على الشرفة دون سبب مهما اهتمت بها. «تذوي من رائحة الموت في الجو». فسَّرت الموضوع على هذا النحو، وعندها فكرتُ أنني أريدُ ترك المدينة، ألّا أشاهد موت نباتات أمي على يدها، وصراعها اليائس مع المرض نفسه الذي سبق وأن انتصر على أبيها الملاكم ذي ضربة اليد القاتلة، مُعتمدة على أقراص خبز النخالة ونباتاتٍ غريبة تأتي بها من سوق البزورية. كانت الأعمال الإغاثية قد باتت أمراً شائعاً في هذه الفترة، وملّحاً، وعسيرَ العقاب غالباً، مع انتشار العائلات التي خسرت بيوتها في محيط المدينة لتقيم في المدارس والحدائق العامة. كانت الإرشادات المفيدة حول إعداد سلةٍ غذائية منتشرة على الإنترنت. أثناء التصفح يظهر اقتراح: «طريقة صنع الخبز منزلياً في حالات الطوارئ». تجاهلتُ الاقتراح وفكرتُ من جديد في ترك المدينة.