في عام 2010، وأثناء إلقائه محاضرة في معهد الشؤون الاقتصادية بلندن، طرح الاقتصادي الأميركي الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، جاري بيكر، اقتراحاً لحل أزمة الهجرة. يقوم اقتراح بيكر على أن كل طالب هجرة عليه أن يدفع مبلغاً قدره خمسون ألف دولار للسماح له بالدخول إلى البلد التي يود الذهاب إليها. وفي حال كان الشخص لا يملك مثل ذلك المبلغ، فيمكن له أن يأخذه على سبيل الدين من حكومة البلد التي يود الذهاب لها، ثم يقوم بتسديده فيما بعد. يقوم اقتراح بيكر إذن بشكل واضح على تسليع فعل اللجوء أو الهجرة، وإدخاله في حيّز منطق التسليع والتسعير الذي يقوم عليه اقتصاد السوق.

لا يمكن القول إن اقتراح بيكر هو اقتراح غير مسبوق، إذ أن هناك كثيراً من الدول التي تعرض الحصول على حق المواطنة لمن يدفع مبلغاً مالياً معيناً، أو يقوم بشراء أصل ما بقيمة مالية محددة بقانون. ولكن أهمية تناول اقتراح بيكر تأتي اليوم في ضوء حالة الزخم التي تتمتع بها أزمة اللاجئين على مستوى العالم، وبالأخصّ في الدول الأوروبية التي تستقبل عدداً كبيراً من طالبي اللجوء.

ويمكن القول إن هذه الدول تعمل بالفعل باقتراح بيكر من حيث تسليع حق اللجوء، ولكن بطريقة مغايرة أو حتى معاكسة، بحيث تدفع مبالغ مالية ضخمة لدول أخرى لإبقاء اللاجئين على أراضيها، أو على الأقل تشديد الإجراءات أمامهم أثناء محاولتهم عبور البحر للوصول إلى أوروبا. رأينا مثل هذا الأمر في اتفاق دول الاتحاد الأوروبي مع تركيا على سبيل المثال، وفي الأحاديث المتواترة باستمرار عن سعي دول الاتحاد الأوروبي لتوطين طالبي اللجوء لديها في عدد من دول شمال أفريقيا، مقابل دفع مبالغ مالية لتلك الدول، أو التغاضي عن انتهاكات حقوق الإنسان ودعم النظم السلطوية التي تتربع على عرش السلطة فيها.

في حقيقة الأمر، إن ما تحاول بعض البلدان الأوروبية القيام به من إقناع عدد من دول شمال أفريقيا بإقامة مقرات دائمة لاستقبال اللاجئين فيها، يُذكّرُ بما اعتادت الدول الغربية القيام به من إرسال الأشخاص الذين ترغب باستجوابهم وتعذيبهم إلى دول عربية تملك أجهزة أمنية معروفة بمثل تلك المهام القذرة، دون خشية من أي مسائلة أو مراجعة. وفي الوقت نفسه، تُذكِّرُ حوادث هجوم اليمينيين في ألمانيا على مساكن اللاجئين بما كان يفعله النازيون مع اليهود وغيرهم، من هجمات على بيوتهم ومحلاتهم ومضايقتهم في الشوارع. حتى بات ممكناً الافتراض بأن اللاجئين المسلمين والعرب يمكن أن يكونوا وقوداً لولادة نازية جديدة، إذ وصل الأمر إلى حد أن نسمع عن دعوات لإجبار المسلمين على ارتداء سترات عليها علامة الهلال، كما كان يحدث مع اليهود من إجبارهم على ارتداء سترات عليها نجمة سداسية.

ويبدو أن الشخص الكاره للآخرين يرغب في تمييزهم طيلة الوقت، وهي سمة متكررة في التاريخ، فقد فُرض على المسيحيين في مصر مثلاً ارتداء أزياء معينة لتمييزهم خلال العصور الوسطى بعد دخول الإسلام إلى مصر. تحتاج القوى اليمينية دوماً إلى مجموعة ما لتصبّ جام غضبها عليها، وتوجّه اللوم إليها على تدهور وسوء الأحوال. نجد هذا في خطاب ترامب ضد المهاجرين، كما نجده في خطاب اليمين في ألمانيا ضد المهاجرين في وقتنا الحالي، وضد اليهود في السنوات التي سبقت الحرب العالمية الثانية: «إنهم يحصلون على الوظائف، إنهم عبء علينا، يريدون السيطرة على بلادنا وحكمها وتطبيق شرائعهم الخاصة بهم».

في مصر التي تشهد وضعاً شديد التأزم على كافة الأصعدة، وخاصة على الصعيد الاقتصادي، ستجد دائماً مقولات من قبيل أن المسيحيين أغنياء: «دول معندهمش شحاتين»، «شوف عيلة ساويرس»، وهو ما يحصل دائماً في أوقات التأزم السياسي والاقتصادي والاجتماعي، عندما تتم الإشارة  بأصابع الاتهام إلى أقليات بعينها، وتحميلها مسؤولية جميع المشكلات في البلد المعني.

الضغط على منظومة الرفاه؟

بالإضافة إلى المكون الثقافوي في خطاب اليمين الشعبوي المتعلق بديانة وثقافة طالبي اللجوء القادمين إلى بلدان الغرب، يستخدم اليمين الشعبوي، وبالأخص في حالة ألمانيا على سبيل المثال، النغمة المتعلقة بأن طالبي اللجوء يريدون العيش عالة على دافعي الضرائب من مواطني الدولة التي يريدون التوطن فيها. هذه النغمة، وإحقاقاً للحق، ليست مقتصرة على الغرب، بل نجدها هنا أيضاً في بلداننا العربية، إذ نجد كثيراً من المسؤولين والمواطنين في البلدان التي تستقبل لاجئين سوريين يتحدثون عن مزاحمة هؤلاء اللاجئين لهم على لقمة العيش، وكيف أنه بسببهم تنخفض الأجور نتيجة الزيادة التي يحدثونها في أعداد طالبي فرص العمل، وترتفع أسعار الإيجارات… إلخ.

في واحدة من حلقات برنامج شباب توك المذاع عبر قناة دويتشه فيله الألمانية، والتي تناولت موضوع اللاجئين وصعود اليمين في ألمانيا، قال أحد المواطنين الألمان إنه وبعد عمله لأكثر من أربعين عاماً يحصل على راتب تقاعد يعادل تقريباً ما يحصل عليه اللاجئ. على الناحية الأخرى، كان ثمة من يدافعون عن توجه الحكومة الألمانية في ملف اللاجئين واستقبالها لهذا العدد الكبير منهم، مستخدمين المنطق الاقتصادي الذي يسلّع اللجوء بدورهم أيضاً. يقولون إن ألمانيا تعاني، مثلها في ذلك مثل العديد من البلدان الغربية، من ارتفاع معدلات الأعمار، وهو ما يعني أن المتقاعدين يعيشون لفترة أطول مما كان عليه الأمر في الماضي، وفي الوقت نفسه هناك انخفاض في أعداد المنضمين لقوة العمل، التي من المفترض أن توفر الإنتاج الذي سوف يسمح بسداد رواتب المتقاعدين. وبالتالي يتم النظر للاجئين باعتبارهم حلاً لجزء من تلك المشكلة، ليكون الردّ على ذلك المواطن الألماني الذي ينزعج من حصول اللاجئين على إعانات، أن هؤلاء اللاجئين قد يكونون جزءاً من تلك المنظومة التي توفر له ولغيره من المتقاعدين رواتبهم.

الملفت للنظر، هو أنه في الحالتين يتم التعامل مع، والنظر إلى، اللاجئين من منطق اقتصادي بحت، دون التفكير في كم المعاناة التي مرّ بها هؤلاء في سبيل وصولهم إلى الشواطئ الأوروبية، ولا في الجحيم الذي هربوا منه، ولا في كيفة الوصول إلى حل ّعادل للأزمات الأصلية التي نتجت عنها أزمات أخرى من بينها أزمة اللاجئين.

ويمكن النظر إلى مؤيدي مقترح بيكر والحكومات التي تتعامل مع ملف اللاجئين من الزاوية الاقتصادية، على أنهم لا يختلفون كثيراً عن المهرّبين العاملين في ذلك المجال. المهرّب يطلب مبلغاً من المال لتسهيل خروج الشخص من منطقة النزاع، وهو الأمر نفسه الذي يطرحه بيكر، لكن بفارق أن المبلغ الذي يحصل عليه المهرّب لا يذهب إلى خزائن الدولة، ولا يخضع لأي اقتطاع ضريبي، في حين أن المبلغ الذي ستحصل عليه الحكومات، سوف ينعش خزائنها. وفقاً لاقتراح بيكر، فإن إدخال مليون شخص إلى الولايات المتحدة يعني أن مبلغاً قدره خمسون مليار دولار سيدخل الخزائن الأمريكية، مع الأخذ في الاعتبار أنه ووفقاً للمقترح نفسه، سوف يتم تعديل قيمة المبلغ المطلوب وفقاً لتطورات سوق العمل على سبيل المثال.

لا يمكن النظر إلى أزمة اللاجئين الحالية بعيداً عن الأزمة الاقتصادية التي يمرّ بها العالم أجمع، في ضوء تطبيق محموم لإجراءات اقتصادية تقشفية تمسّ بالأساس منظومة الرفاه في معظم البلدان، ومن بينها أوروبا بطبيعة الحال. ولا ينبغي أن يشعر اللاجئون بالحرج من اتهامهم بالتواكل والتكاسل، لأن تلك الاتهامات نفسها تُوجَّه حتى إلى مواطني الدول نفسها.

يقوم جزءٌ كبيرٌ من خطاب اليمين الاقتصادي تاريخياً على مهاجمة أولئك المعتمدين على منظومة الرفاه التي توفرها الدولة، وهو الاتهام نفسه الذي كان ولا يزال يتم توجيهه لذوي البشرة السوداء في الولايات المتحدة على سبيل المثال. في حالة الولايات المتحدة الأميركية، هناك مصطلحات ازدرائية تم صكّها لوصف هؤلاء الذين يُنظر لهم على أنهم يعيشون عالة على المجتمع بسبب اعتمادهم على منظومة الرفاه، فعلى سبيل المثال يُستخدم مصطلح welfare queen لوصف النساء ذوات البشرة السوداء، اللواتي يتم اتهامهنّ بالاعتماد على منظومة الرفاه إلى درجة أنهنّ يصبحنَ مثل الملكات.

من المثير للسخرية أنه، وعلى عكس الوضع في ألمانيا حيث يتهم اللاجئين ومن بينهم السوريون بطبيعة الحال بالتكاسل وعدم الرغبة في العمل، فإننا نجد في الحالة المصرية أن الإعلام والمسؤولين الحكوميين يوجهون الاتهام للشباب والشابات المصريين والمصريات بالتكاسل وعدم البحث عن عمل، أو عدم قبول بعض الأعمال التي توفر دخلاً زهيداً، ويتم ضرب اللاجئين السوريين كمثال على التفاني في العمل، وقبول أي عمل يُعرض عليهم بغض النظر عن حجم الدخل الذي يوفره.

ولا أعلم في حقيقة الأمر ما إذا كان هذا الأمر مرتبطاً بوجود منظومة رفاه قوية في ألمانيا، وعدم وجود مثيل لها في مصر. ولا أعلم إذا ما كنتُ من خلال هذه المقاربة، سأبدو كما لو أنني أتبنى خطاب اليمين الذي كنت أتحدث عنه في السطور السابقة، أم أنني بوصفي شاباً مصرياً، أعلم يقيناً زيف الإدعاءات التي يتم توجيهها لنا كشباب بأننا كسالى ولا نريد العمل، أو أننا ننتظر العمل الذي سوف نحصل من خلاله على راتب ضخم، وهو ما يجعلني أتفهم تماماً موقف اللاجئين الذين يتم اتهامهم بالتكاسل والتواكل. ولكن يبقى أن تلك الاتهامات تصدر غالباً عن أشخاص يعملون في وظائف جيدة وبدرجة كبيرة من الأمان الوظيفي، تسمح لهم بالتحذلق والسخرية من الشباب في حالة بلدان عربية مثل مصر، أو من اللاجئين في حالة الدول الغربية.

المبهر في مسألة اللاجئين اليوم هو قدرة جموع من البشر على إرباك النظام العالمي بأكمله إن أمكن القول، قدرتهم على تحقيق ما طال انتظاره مطولاً فيما يتعلق بحرية حركة البشر، على غرار حرية حركة رؤوس الأموال والسلع في عالمنا المُعولَم. مئات الآلاف يعبرون البحر إلى أوروبا خارقين الحدود سيراً على الأقدام، وعلى الضفة الأخرى من الأطلسي هناك قافلة مهاجرين من أميركا الوسطى في طريقها إلى الولايات المتحدة الأميركية. تقف الأنظمة السياسية عاجزة عن التعامل مع هذا الطوفان البشري الذي يجتاح حدودها، وهي لا تعرف كيف ينبغي أن تتعامل مع حالة السيولة تلك، أو مع ذلك المشهد الذي يعود لعصور ما قبل صعود الدولة القومية ومفهوم السيادة.

ما يقوم به اللاجئون يقع على النقيض تماماً من مقترح جاري بيكر، ما يقومون به هو مقاومة منطق التسليع من خلال إصرارهم على حرية التنقل، ومن خلال تحركهم في جموع ضخمة تستمد القوة من بعضها بعضاً بعيداً عن منطق النجاة الفردي الذي يُغذيّه مقترح بيكر. يذكّرني مقترح بيكر  يذكرني بالأفلام الهوليودية التي تصور نهاية العالم من خلال طوفان كبير مشابه لما يحدث في قصة نوح، لكن في هذه المرة يتم بناء سفينة ضخمة ومتطورة لاستيعاب رؤوساء البلدان، وكذلك الأشخاص القادرين على دفع ثمن نجاتهم.

يمكن القول أيضاً إن تبعات ذلك التحرك الجمعي للاجئين، تقع على النقيض من الأحلام المتعلقة بزيادة موارد الدولة على حساب هؤلاء اللاجئين، حيث تقوم البلدان بنشر قوات كبيرة على حدودها في محاولة لوقف تلك الجموع أو تعديل مسارها على الأقل، وهو الأمر الذي شهدناه مع العديد من البلدان الأوروبية، وكذلك في حالة الولايات المتحدة الأميركية مؤخراً، التي قال رئيسها إن قوات بلاده سوف تقوم بإطلاق النار على المهاجرين إذا قاموا برشق تلك القوات بالحجارة. لا أعلم كم تكلّفُ عملية نقل وتجهيز هذه القوات، ولكن لا بدّ أنه مبلغ كبير بلا شك، هذا بالإضافة إلى تكلفة السور الضخم الذي يود ترامب إقامته على حدود دولته مع المكسيك لإيقاف الهجرة غير الشرعية.

حسناً، لقد أصبح مقترح جاري بيكر سواءً هو والعدم على ما يبدو.

يصف الشاعر المصري الشاب مصطفى إبراهيم ببلاغة تعامل الغرب، وبالأخص أميركا، مع أزمة اللاجئين ومسائل إعادة الإعمار، ومع أزماتنا الأخرى المتعددة، ومنها بطبيعة الحال الأزمة السورية وكذلك اليمنية، في جزء من قصيدته البنكنوت:

فيها الخير يا هل ترى ولّا فيها فلوس؟

أمريكا فيها الحلم.

وبلادنا فيها كابوس.

الناس تخاف.

أمريكا تحميهم.

الناس تجوع.

أمريكا تِديهم.

تِكسي بالإيد اليمين اللاجئين… بعد ما إيدها الشمال تعرّيهم.

شركة بتهِدّ البلاد وشركة تبنيهم.

شركة بتبيع السلاح.

وشركة بتطبطب على اللي يموت.