لم تكن محافظة إدلب محافظة صناعية، لكن جزءاً من سكانها كانوا يعتمدون في معاشهم قبل قيام الثورة السورية على الصناعات المتوسطة والمشاريع الصغيرة المتنوعة، التي تراجع حضورها مع ظروف الحرب حتى كاد ينعدم في بعض المراحل. ويمكن تلخيص أسباب هذا التراجع في القصف والدمار الذي طال معظم القرى والبلدات، وهجرة كثير من أصحاب رؤوس الأموال والخبرات والحرفيين، ناهيك عن صعوبة التنقل وقطع الطرقات وانقطاع التيار الكهربائي، وغلاء المواد الأولية وفقدانها، وبالتالي ارتفاع تكاليف الإنتاج إلى جانب ضعف القوة الشرائية.
لكن مع دخول المنطقة ضمن اتفاقيات خفض التصعيد، وتراجع الأعمل الحربية نسبياً في أجزاء واسعة منها منذ أواسط 2017، بدأت تعود المشاريع الصغيرة للظهور تدريجياً بوصفها أحد الحلول للحدّ من الفقر والبطالة، سواء بالاعتماد على القدرات الذاتية للأهالي أنفسهم، أو بدعم من المنظمات الإنسانية والمدنية التي تسعى إلى تحقيق تنمية مستدامة.
وفي الآونة الأخيرة، لا يكاد يمرّ شهر دون افتتاح مشروع جديد بدعم من واحدة من هذه المنظمات. وتستهدف هذه المشاريعُ النساءَ بالدرجة الأولى، وذلك من خلال دورات تدريبية وتأهيلية تسعى إلى تمكين المرأة المعيلة على وجه الخصوص، ومساعدتها على التحوّل إلى العمل في مجال الصناعات البسيطة التي لا تحتاج إلى رؤوس أموال كبيرة (المونة المنزلية – الصوف – الخياطة – الألبان والأجبان –المربيات والعصائر). ويتم تنفيذ هذه المشروعات بشكل فردي أو من خلال مجموعات عمل، كان من آخرها افتتاح مركز للصناعات الغذائية في مدينة كفرنبل، بهدف الاستفادة من الطاقات المعطلة لدى الأسر الفقيرة.
تقول أم محمد، التي تعمل مشرفة في هذا المركز، إن هذا المشروع الذي يضم عشرين امرأة، انطلق في البداية بدعم من منظمة الإحسان، أما اليوم فتعتمد النساء على أنفسهنّ في تشغيل المركز وكسب لقمة العيش. وتقول فاطمة المرعي من بلدة جبالا، وهي واحدة من المستفيدات في المركز، إن هذا المشروع يساعدها على «تأمين العيش الكريم من مردود العمل»، بعد أن أفقدتها الحرب زوجها لتجد نفسها مسؤولة عن إعالة أطفالها الثلاثة.
وبالإضافة إلى هذا النوع من المشاريع التي تساهم المنظمات في إطلاقها، يعود كثيرٌ من السكان إلى تشغيل مشاريعهم الفردية، حتى أن 90% من الورش في المنطقة الصناعية في مدينة إدلب قد أعُيد افتتاحها من قبل أصحابها، وذلك بعد تحسّن الظروف الأمنية وتزويد المنطقة الصناعية بالتيار الكهربائي. كذلك حافظت بعض الصناعات التي اشتهرت بها المحافظة على بقائها، مثل صناعة الحصائر البلاستيكية والإسفنج وجلايات الألمنيوم، التي يرتبط اسمها بقرية معرشورين في ريف إدلب.
يقول أبو سامر، وهو صاحب معمل حصائر في معرشورين: «تقوم ماكينات نسيج خاصة بتحويل الحبيبات البلاستيكية، بعد صهرها، إلى قشّ بلاستيكي مفرغ من الهواء، ثم بعد إضافة الأصبغة الملونة، يتم تحويل هذا القشّ إلى حصير بلاستيكي بأشكال وأحجام مختلفة»، لافتاً إلى أن معرشورين وحدها تضم اليوم أكثر من أربعين معملاً للحصائر البلاستيكية، يحتوي كل منها على ما يقارب عشرة عمال. ويُجمل أبو سامر معاناة أصحاب المعامل في المنطقة بـ «استعمال المولدات الكهربائية نظراً لانقطاع التيار الكهربائي، ونقص اليد العاملة الخبيرة، وصعوبة التصدير والرسوم والإتاوات التي تفرضها الحواجز».
صناعة الحصير في معرشورين
كذلك استمرّت صناعة الأعلاف في إدلب وعادت للتوسع نسبياً، وذلك بهدف تأمين الأغذية للمواشي والدواجن، التي يعتمد كثير من الأهالي عليها في معيشتهم. يملكُ أحمد اليوسف مصنع أعلاف من معرة النعمان، وهو يقول: «نؤمن معظم المواد الأولية من ريف إدلب، كونها من المنتجات الزراعية المحلية، لكننا نضطر لتأمين بعضها الآخر من تركيا أو مناطق النظام. أما توزيع الإنتاج فيكون ضمن الأسواق المحلية، لأن كثيرين الأهالي تحولوا إلى تربية الماشية في ظل الحرب».
أيضاً دفعت ظروف الحرب والحاجة الماسة لتأمين فرص عمل إلى إحياء بعض الصناعات القديمة، ومنها صناعة الفخار الذي ازداد الطلب عليه لحفظ المياه والأغذية وتبريدها. وتشتهر مدينة أرمناز بهذه الصناعة منذ القدم، ويتحدث أحد أبنائها، وهو صانع الفخار أبو مازن، عن هذه الصناعة: «نعتمد في هذه الصناعة على الصلصال، وهو خليط ترابي معدني دقيق الحبيبات، يصبح مع الماء معجوناً متماسكاً سهلَ التشكيل، لتبدأ عملية صنع الفخار على شكل خوابي أو مزهريات أو كؤوس وأباريق باستخدام اليد، أو بالتدوير فوق الدولاب اليدوي أو الآلي. وفي المرحلة الأخيرة تُشوى الفخاريات في الفرن بدرجة حرارة عالية لتقسو وتشتد، ثم تُطلى بمادة زجاجية لجعلها غير مسامية، لتصبح بعد ذلك جاهزة للبيع في الأسواق المحلية»، ويلفت أبو مازن إلى أن بعض الناس يشترون الفخار بغرض الزينة، كما أن منهم من يعتمد عليه في الاستخدامات المنزلية اليومية.
كذلك عادت صناعة مكانس القش اليدوية إلى ريف إدلب بعد توقف المكانس الكهربائية عن العمل، وباتت تُصنع في الورشات والمنازل بمهارة ودقة كبيرة. وهذه الصنعة هي مصدر رزق لكثير من الرجال والنساء، منهم أم فؤاد من قرية تلمنس بريف إدلب، التي ورثت الصنعة عن والدها، وتتحدث عن عملها قائلة: «يقوم المزارعون صيفاً بزراعة نبات (المكنس)، وبعد قطافه في نهاية الموسم أقوم بشرائه لاستخدامه في صناعة المكانس باستخدام بعض الخيوط، حيث أبدأ بترطيب القش المجفف بالماء ليسهل العمل به، ومن ثم أقوم بفرزه حسب طوله ونوعه، ثم أوزعه على أجزاء المكنسة، حيث أصنع يومياً قرابة 100 مكنسة بمساعدة ابنتَيّ، وأقوم ببيع المُنتج في الأسواق».
كذلك ازدهرت صناعة بوابير الكاز، نتيجة غلاء أسعار أسطوانات الغاز وانقطاعها في بعض الأحيان، وعجز أغلب الأهالي الذين يعيشون تحت خط الفقر عن اقتنائها. الحدّاد أمين الخديجة (من معرة النعمان يعمل في صناعة البوابير) يقول: «عملتُ بعد الحرب على افتتاح ورشة لصناعة البوابير وصيانتها، فبعد أن شارفت هذه الصناعة على الانقراض عادت لتلاقي رواجاً وإقبالاً من الأهالي للاستعانة بها في الطهي وكافة الأعمال المنزلية الأخرى، بسبب انخفاض أسعار الكاز مقارنة مع غيره من المحروقات». وهو ما أكدته أم علاء من قرية التح، التي عمدت إلى استخدام بابور الكاز في الطهي بعد أن «أصبحت أسطوانة الغاز حلماً بالنسبة لنا، لذلك وجدنا في بوابير الكاز حلاً بديلاً، وأقل تكلفة يتناسب مع واقعنا المعيشي الصعب، بغض النظر عن أضراره والروائح الكريهة المنبعثة منه».
وكما أدت الحرب إلى إحياء صناعات محلية قديمة، فإنها أدت إلى ظهور صناعات لم تكن موجودة سابقاً، بهدف توفير حاجة السوق من المواد الأساسية، مثل تدوير النفايات المصنوعة من المواد البلاستيكية، لتوفير المواد الأولية من البلاستيك اللازم لتشغيل المصانع. الحاج أبو علي من مدينة خان شيخون، صاحب ورشة لإعادة تدوير المنتجات البلاستيكية، يوضح آلية عمله: «نقوم بشراء بقايا المواد البلاستيكية من الأهالي ونعمل على فصلها عن المعادن وفرزها حسب اللون، ثم نقوم بجرشها ضمن آلات خاصة لتحويلها إلى مواد أولية صالحة لإعادة التصنيع».
ومن الأعمال الجديدة أيضاً صناعة تكرير النفط ضمن مصافي بدائية وبسيطة (حرّاقات)، وعلى الرغم من أضرارها البيئة، فإنها تساعد على سدّ النقص الحاد في المحروقات. صالح الضعيف من مدينة جرجناز بريف معرة النعمان الشرقي يملك إحدى هذه الحراقات، ويتحدث عن عمله: «نحصل على المواد الخام من مناطق شرق سوريا، لتبدأ عملية تكريرها ضمن مصافي محلية تتألف من خزان إحراق وجهاز تبريد وخزان وقود، حيث تتحول المواد الخام في الحراقات إلى بنزين ومازوت وكاز».
كذلك انتشرت معامل المنظفات على نطاق واسع، بعد أن نجح أصحابها في إنتاج مواد ذات جودة معقولة. أبو سعيد من مدينة كفرنبل بريف إدلب يعمل بصناعة المنظفات، ليؤمن دخلاً بديلاً عن راتبه الشهري الذي توقف بعد فصله تعسفياً من قبل النظام. يتحدث عن عمله موضحاً: «وجدت في عملي الجديد فرصة لكسب العيش الكريم، ولكن أبرز الصعوبات التسويقية التي نواجهها هي منافسة المنتجات التجارية الرخيصة رديئة المفعول، التي تستغل ضعف القدرة الشرائية لدى المواطنين، إضافة إلى احتكار بعض التجار للمواد الأولية التي نحتاجها في عملنا».
تساهم هذه الأعمال والمشاريع الصغيرة في تحسين مستوى حياة عائلات كثيرة وانتشالها من الفقر الشديد، كما أنها تؤمن بدائل للمنتجات المفقودة من الأسوق، وتساعد المجتمع المحلي على مواجهة ظروف الحرب والحصار النسبي، ويمكن التأسيس عليها لتحقيق نوع من التنمية المستدامة، ونشر ثقافة العمل الجماعي التعاوني بإمكانيات اقتصادية متواضعة.