إنها الساعة السادسة الآن، من إحدى ليالي تشرين الباردة عام 2010، سوف أصبح في السادسة عشرة بعد ثلاثة أشهر تماماً، ها أنا ذا بالكاد أفتح عيني، أنظر إلى الساعة، أفكر بالمدرسة وحصصها السخيفة المملة، وأفكر بالمشاريع الجديدة التي سأبدأها مطلع عامي الجديد، ثم أشدُّ اللحاف وأنام.

كم غفوتُ؟ لا أدري! كان أخي يوقظني بخفّة ولطف غير معهودين. نظرتُ إليه ثم نظرتُ إلى الأعلى، كان هناك رجلٌ جثة يسدّ مصراعي الشباك بجسمه الضخم ويمنع عنّي الضوء، بينما لاحظتُ رجلاً آخرَ إلى جانبه لم يكن يختلف كثيراً عن سابقه.

«جيب هويتك»، طلب مني أخي وهو يربّت على كتفي، فلم أسأله «لماذا»، فكرتُ أول الأمر أنني سأذهب بدلاً منه إلى الجيش، فكرتُ باحتمالات شريرة أخرى، ثم نهضتُ بهدوء وأحضرتُ الهوية. «هاد هو… امشي» قال أحد الجثتين، ثم أمسك بي من معصمي، كنتُ ما أزال غير مستوعب لما يحدث. طلب منه أخي أن يمهلني دقيقة لأبدل «البيجاما»، لكنه لم يوافق.

لأول مرة تبدو درجات بيتنا قليلة العدد، أعرف أنها واحد وعشرون درجة، كيف نزلناها بلمح البصر؟ لا أدري، المهم هو أن سيارة الشرطة كانت تقف أمام البيت، تفحصتُ ما كُتب عليها «الأمن الجنائي، قسم الميدان». سألتُ عنصر الأمن أن يفلت يدي فلم يستجب، فتح لي باب السيارة ووضع في يدي «الكلبشة»، قلتُ له إنني لن أهرب، لكنه أغلق الباب بعد أن جلس جانبي.
أخيراً؛ ها أنا ذا أُعامَل كما يُعامَل المجرمون المحترمون، ولعلّي لم أعِ حتى تلك اللحظة هل أنا في واقع أم في حلم، فكثيراً ما سبق أن اختلط عليَّ الأمران. في وقت مبكر من طفولتي بدأتُ أتحكم بأحلامي، كان يسير الحلم إلى حدث سخيف عادي فأتدخل أنا لأجرب شيئا أحبه، كأنْ أذهب إلى بيت الجيران لأقبّل «نور» الجميلة التي كنتُ أعمل في مصنع والدها، أو كأنْ أصعد إلى أعلى السطح ثم ألقي بنفسي إلى الشارع فقط لأجرب شعور الذين يسقطون من علٍ إلى أسفل (فأسقط مكسّراً من التخت)، أو أذهب إلى المدير وأعضّه من أذنه كما جرّني مرة من أذني، وحين يحدث أمر خطر قد يؤدي إلى ألم أو فضيحة، كنتُ أستيقظ على الفور. لكنّ الفارق أنني لا أستطيع الآن أن أستيقظ، وهذه الطرقات الناعسة التي تتراءى من خلف الشباك أكاد لا أعرفها، أنا «المجرم الخطر الذي يعرف كل شيء».

نزلنا من السيارة، وقد حرص أحد الرجلين على إمساكي من ياقة كنزتي، صعدنا إلى القسم، وهناك فتّشوني جيداً فربما أخفي بحوزتي آلة حادة، وأخذوا مني هويتي والخيط الذي يشدُّ البيجاما، ثم توجهنا إلى غرفة صغيرة لا تتجاوز مساحتها المترين بأربعة أمتار. كانت مكتظة بعشرات الأشخاص كما بدا لي أول الأمر، ثم اكتشفتُ بعدها أن عددهم ثلاثة عشر فقط.

رائحة العرق والشحم والفضلات تفوح من الزنزانة، أو «النَظَارة» كما تُسمى، هناك قرابة سبعة أشخاص بثياب وأوجه متسخة يقفون مسندين ظهورهم إلى الجدار، هم حدادون على ما يبدو، وهناك مراهقان أيضاً يحتلان عتبة التواليت، ينظر إليهم الجميع بحسد، نائمين بالكيلوت فقط، رأسهما داخل الأرضية، وجسدهما مبقع من أثر الضرب، بينما تنكمش الركبتان إلى الأعلى، في محاولة لعدم مضايقة أحد بالمساحة، وهناك آخرون.

لم أجد جداراً أستند إليه فوقفتُ في المنتصف مع آخرين غيري، أجسادنا شبه متلاصقة، و«الأفأفة» وشخير المراهقين الحاد هي الصوت الوحيد الذي تسمعه في لحظات الصمت التام. خلال ساعتين تقريباً خاض الجميع في أحاديث عديدة، عن السبب الذي أتى بالمراهقَين إلى السجن (اقترح أحدهم أنهما لصان فوافقه الجميع)، وعن لقمة الخبز والزوجات والصغار الذين ينتظرون، وعن السبب الذي أتوا به إلى هنا، إلا أنا لم أكن أعرف لماذا، ولم يكن هناك من ينتظرني، لذا فلم أردَّ على الأسئلة واكتفيتُ بالصمت. ولعلّ حالة اللامبالاة التي انتابتني آنذاك، كانت ناجمة عن أنني نشأتُ في محيط تعرَّضَ أناسه لتجارب بسيطة في السجون بسبب خطأ عادي عابر، لذا فإنه قد ترسَّخَ في لاوعيي أنّه من الممكن أن يقودني أي شخص إلى السجن في أي وقت، حتى وإن كنتُ طالباً في المدرسة.

لم يَدُم الصمت فترة طويلة؛ إذ سرعان ما حدث شيء غريب لفت الجميع: أحد المراهقين يصدر تأوهات، ليست تلك الناجمة عن الألم، بل كان واضحاً أنها عن شيء آخر، شيء كاللذة، يسرع البصر للانحدار إلى ما بين الركبتين المتلاصقتين؛ فتبزغ راية مرفوعة على خرقة بالية، وتستمر صاعدة نحو الأعلى مثل جبل أو برج مائل. ينحني المراهق على رفيقه أو أخيه الذي بجانبه؛ فيفلت منه الآخر مستسلماً لنوم عميق، لحظات قليلة وتبدأ الراية بالتدفق ثم… الانكسار، وينكسر معها الصوت.

صمتٌ تام يشوب المكان، حسدٌ ربما كان ينفلت من كل العيون، وفي غمرة هذا المشهد كانت يد المراهق تمتد إلى الأسفل استكمالاً للذة، لكنَّ تَدخُّلَ أحد الموقوفين معنا حال دون ذلك: «يا حرامي قاعد عالخرا وعم تحلم أنك بتنيك». استيقظ الفتى على الركلات، فحمى خصيتيه وترك وجهه. طلبتُ منه بلطف أن يتوقف لأن هذا ليس من شأنه؛ لكنه لم يَرُدّ، فوجدتُني أرفع صوتي وأحاول الوصول إليه لضربه، الآخرون الستة الذين معه كانت أياديهم تلوح بالضرب، ضربات عديدة سُدِّدَت خطأً لأولئك الحياديين بسبب ضيق المكان، وسرعان ما اشتعلت «النَظَارة» بالعراك، ففُتح الباب.

قصر العدل

حركة السير والازدحام المروري يشيران إلى أنها تقريباً الواحدة ظهراً الآن، نحن نتهادى على مهل في سيارة الشرطة، أو ربما يكون حشو ستة أشخاص في مؤخرتها قد جعلها تبدو كذلك. لم أكن أعرف إلى أين نحن ذاهبون، أحدهم همهم بـ«القصر العدلي»، فدغدغتْ مسمعي رومانسية الاسم. كنتُ قد تلقيتُ من رجال الأمن في القسم ما يكفي من الضرب اللازم ليسلب مني إحساسي بالألم، إضافة إلى ذلك فقد توصلتُ منذ الصفعة الأولى إلى بديهة مفادُها أنني هنا لأُضرَب، وأنه يجب علي عدم الانسياق وراء الأحاسيس السخيفة التي تُحرِّضُ الشعور بالإهانة. أنا الآن أكثر صلابة وأكثر وقاحةً كما أعتقد.

نزلنا من السيارة إلى ممر مسردب شبه معتم، دخلنا في أبواب كثيرة ودخلت فينا أبواب كثيرة (جراء الصفعات العشوائية التي تأتي غفلة) إلى أن وصلنا إلى سجن المحكمة. كنتُ سعيداً لأنني وجدت هذه المساحة الواسعة، حيث أستطيع أن أستلقي وأجلس كما يحلو لي على الفُرُش الشوكية، كان العالم بقبحه وجماله يتبدّا لي من هذا المكان الواسع، أغمضتُ عيني وغفوت.

كانت حركة الدخلاء الجدد قد بدأت تتزايد لتُقلِّصَ حجم المساحة، دارت عيناي الناعستان حتى استقرتا على رجل مُقعد، توجهتُ نحوه وإذ به مقطوع الأطراف الأربعة، سألتُه عن جريمته فأجاب «التسوّل». ثمة طفل يقول إنه في الخامسة من العمر، يبكي قبل أن يجيبني بأن جرمه «التسوّل» وأن اسمه «محمود»، ثالث في الرابعة عشرة يقول إنه مُتهم بالسرقة. بعدها لم أتجرأ من سؤال أحد آخر، تقوقعتُ في مكاني وأنا مصغٍ لأسماء يذيعها أفراد الشرطة بين الفينة والأخرى، وفي المشهد المونودرامي الأوسع كنتُ أرى بلداً من متسولين ولصوص.

هذا الاسم الذي أسمعه هو اسمي، نهضتُ وذهبتُ مع الشرطي، حيث كان في انتظاري عمي وخالي المحاميان وأخي، إضافة لسندويشتَيْ «شاورما». كنتُ في ذلك الوقت مؤمناً أنني سأكتب يوماً ما شيئاً مهماً؛ لذا فقد طلبتُ منهم على الفور أن يحضروا لي أوراقاً وقلماً، لكن عمي طمأنني بأنني سأذهب إلى شيء يُسمّى «المعهد الإصلاحي»، وهناك سأجد كثيراً من الأوراق والأقلام، وسأستطيع دراسة وتعلّم ما أشاء، لكن عليَّ أن أنفي كل التهم الموجهة لي أمام القاضي. سألتُه عنها فقال إنها المشاجرة التي حدثت في مقهى الإنترنت قبل قرابة ثلاثة أشهر، حيث سلّم صاحب المقهى اسمي للشرطة بسبب تورم عينه «واقترابها من العمى». كان هذا النوع من المشاكل عادياً إلى درجة أن الأمن لا يكلف نفسه عناء متابعة مثل هذه الشكاوي، وحتى أنا لقد نسيتُه تماماً. السبب الأول والأخير في كل هذا أنني لم أكن مخطئاً، لقد دافعتُ عن نفسي فقط، فكانت هذه النتيجة المتأخرة.

دسّ أخي في يدي ألفي ليرة، ثم اقتادني شرطيٌ إلى القاضي. صُدمتُ عندما كان وحيداً في مكتبه الصغير، كنتُ أتخيل المحاكمات كتلك التي تحدث بالتلفاز، قفصٌ وجمهورٌ ومحامون وثلاثة قضاة، لا مجرد مكتب متواضع.

لم أنكر هناك التهمة أمامه بالطبع كما أُوصيت، وإنما شرحتُ له كيف اندلع العراك ولماذا اضطُرِرت لضربه، خمس دقائق كانت كافية ليعيدني الشرطي إلى السجن مرة أخرى.

مع اقتراب العصر قيدونا، كنا قرابة ثمانين شخصاً، صغاراً وكباراً، السلسلة كانت أطول مما قد يُظَن، وأيدينا مُصفدّة ومتراصة مع الذين خلفنا وبعدنا، زُمَرَاً نتمشّى خلف بعضنا البعض، ومثل الكفّار نُساق إلى جهنم.

المعهد الإصلاحي للأحداث

توقفت سيارة السجن الكبيرة المحشورة بنا _نحن المجرمون_ أمام سجن حلب المركزي، فأخذوا المساجين الكبار إلى هناك، من ثم حُشِرَ ستةٌ منّا في سيارة صغيرة كانت في انتظارنا. أمتار قليلة، وكُنّا أمام سجن المعهد الإصلاحي للأحداث.

بدا لي السجن أشبه بالمدرسة من حيث الشكل الخارجي وهيكلية البناء، يتألف من أربعة طوابق ذات شكل مستطيل، وتتفاوت أحجام المكاتب في الطابق الأرضي، أما الطوابق الثلاثة الباقية فإنها مرسومة بذات الشكل، ومقسمة إلى مهاجع كبيرة «لعليّ قد نسيت عددها الآن».

قادنا شرطي إلى الداخل، أشخاص عديدون _لم نتعرف إليهم بعد_ كانوا يوجهون إلينا صفعات وركلات عشوائية، سنعرف فيما بعد أنهم «أساتذتنا» المختصون بـ «تقويم سلوكنا».

في ممر الطابق الأرضي، كانت صورة كبيرة وعريضة لـ «بشار الأسد» تتوسط الحائط العالي للسجن، وعلى الجانبين نُقشت شعارات حزب البعث. أحسستُ بشيء من الوحشة، وكأنني في حضرة عالم غريب أزوره للمرة الأولى.

تفرّغَ لضربنا «أستاذان»، فهمتُ تقريباً أن الضرب هو وسيلة للاخضاع ولجم التمرّد، إذ كم يبلغ عدد السجانين؟ عشرة؟ عشرون؟ هذا الرقم لا شيء مقابل آلاف المسجونين في هذا المكان الصغير نسبياً، لذا كان الضرب بالنسبة لهم إشغالاً لنا عن فتنة الالتفات لغير الألم الجسدي، هكذا بدا لي الأمر تلقائياً.

أمرنا أحد الأساتذة بالتعري «كما ولدتنا أمهاتنا»، كانت فكرة فجة ومهينة أن تتعرى أمام الجميع، وأن يأتي أحدهم ليدقق أو ينبش في مؤخرتك ليعرف إن ما كنتَ تخفي «آلة حادة» أو «سجائر»، كان كل شيء سيكون مقبولاً إلا هذا. همستُ للذين معي بأن نتضامن ولا نخلع كل ملابسنا، أومأ اثنان بالموافقة، لكن مع أول صفعة بدا لي أنهما يريدان خلع، ليس ملابسهما فحسب، بل جلودهما أيضاً. أما أنا فقد انتابتني حالة هستيرية، خاصةً لدى رؤية تلك المشاهد: يخلع أحدهم ملابسه فيأتي أحد عناصر الانضباط (وهم مسجونون مثلنا، محكومون لسنوات طويلة، وغالباً ما يكونون قد تجاوزا الثمانية عشر عاماً في السجن)، ينبش الانضباط في المؤخرة، يدقق جيداً، وبعد أن ينتهي يقول له أحد الأساتذة «ابعصه». مع كل مشاهدة كنتُ أشعر أن الدم ينفر من رأسي، وكأن بركاناً جحيمياً يوشك أن يندلع مني. صفعةٌ لا أدري مصدرها، مصحوبةٌ بصوت «لسا ما شلحت» جعلتني لوهلة أشعر أنها آخر لحظاتي. «إن عشتَ فعش حراً… أو مت كالأشجار وقوفاً»، هذه الأغنية الحقيرة التي كنتُ أؤمن بها بشكل مبالغ فيه، كانت تتردد في مسامعي، ولعلّها هي من ستسبب لي كثيراً من المتاعب فيما بعد. خلعتُ البيجاما ببطء، وقلتُ لهم «هذا كل ما أستطيع خلعه».

لم يستطع خمسة أشخاص، ولا الضرب المبرح، أن ينتزعوا عني «ورقة التوت». الأصوات كانت عالية وكأن تمرداً قد حدث. لا أعرف كيف أو من أين أتى شرطي له رتبة عالية لم أعرفها، هرعتُ إليه على الفور وأخبرته بما يفعلون، والغريب أنه كان جيداً فسألني عمّن يقوم بتلك التصرفات «الشنيعة»، فأشرتُ إلى الأستاذين وإلى عناصر الانضباط. «الأساتذة مالي علاقة فيهون» هكذا قال، ثم انهال على الانضباط بضرب مبرح، حينها أدركتُ المشاكل التي تنتظرني.

قوانين عامة

في مكتب أستاذ الرياضة، تلقيتُ حسابي من أحد الأستاذين وحدي.

اصطففنا نحن الستة الجدد مُنصتينَ إلى القوانين التي كان يمليها علينا أستاذ الرياضة، كانت نبرته جافة لا تنم عن مبالغة أو شيء من هذا القبيل، وعيناه متحجرتان وعابستان وهو يبدأ:

– تصطفون أمام مهاجعكم في الساعة السابعة صباحاً للفطور، وعندما تنتهون تصطفون بالآلية ذاتها أمام ممر المطبخ.

– لديكم وجبة أخرى في الساعة السابعة مساءً، أنصحكم بأن تأكلوا جيداً لتحتفظوا بقوتكم.

– الالتزام بالمواعيد يقيكم من العقوبات.

– تستطيعون الاستحمام في ساعات الصباح الأولى، حاذروا أن تستحموا في الليل.

– حينما يقول لك شخص «أعجبتني بيجامتك» أو ملابسك، ويطلب منك أن تعيره إياها، احترس… فهذا يريد أن ينيكك.

– عندما تنامون ألصقوا مؤخراتكم بالحائط، فلا تعرفون كيف ومن سيعتدي عليكم.

– أنبّهكم من جديد على أهمية الأكل جيداً حتى تواجهوا كل هذا.

– لا نستطيع الردَّ على شكاويكم جميعاً، فأنتم أكثر مما يجب، لكن بكل الأحوال أخبرونا بها.

– انصرفوا إلى مهاجعكم.

المهاجع

صعدنا طابقين، كان المساجين الآخرون يحضّرون حفلة من أجلنا، أو ربما هكذا خُيّلَ لنا حينما رأيناهم يضحكون بشكل هستيري ويصيحون «عنا اليوم مسرحية»، وهذه الكلمة الأخيرة تفتح المجال للكثير من التأويلات.

فُرِزَ كل منا إلى مهجع مختلف، بينما اقتيد طفلان كنتُ صادفتهما في القصر العدلي إلى مكان آخر لم نعرفه، سأعرف فيما بعد أن الأطفال دون الثانية عشرة يوضعون في سجن داخل السجن، وأنّ حالات التحرّش بهم لا تقتصر على المساجين فقط، بل على «الأساتذة» أيضاً.

غرف المهاجع كانت أكبر من تخيلاتي وتصوري عنها، وتفصل بين الواحدة والأخرى مسافة جيدة نسبياً، يتسع كل مهجع لقرابة عشرين شخصاً، بينما يقل أو يكثر هذا العدد تبعاً لنزلاء السجن وأقدميتهم ونفوذهم. الأسقف المرتفعة هي أول ما يثير انتباهك فور الدخول إلى هذا المكان، بينما تتلون الحيطان من الأبيض إلى الأصفر إلى الأسود نتيجة الخربشات عليها.

ممر الطابق الثاني الذي سكنته كان مليئاً بعدد من الرسوم الجدارية، قيل لي إن رسّاماً مكث في السجن لمدة عام ثم أُطلق سراحه قبل شهرين من مجيئي هو الذي فعل كل هذا. لم تُثرني الرسومات في البداية، لكنها شكلت بعد ذلك لي عزاءً، تأخذ موضوعات الرسوم شكلاً مراهقاً واحداً يعبر عن الجرح والفراق والانكسار، فتجد مثلاً سكيناً تخترق قلباً يتقطر منه الدم، أو دماً ينقط من يد تتشبث بسياج شائك، أو عينان تبكيان دماً… إلخ، اللونان الأحمر والأسود يسودان كل الرسومات.

وكان من حسن حظي ربما أنّ «زعيم المهجع» ذا الـتسعة عشر عاماً من المنطقة نفسها التي أسكن فيها. سألني السؤال المعتاد للتعارف «ما هي جريمتك؟»، فاختلقتُ لنفسي جريمة شنيعة أستطيع التفاخر بها، وبعد حوار لم يتعدَ الخمس عشرة دقيقة، وقف وقال: «يا شباب هاد الزلمة ابن حارتي، لا تقربوا عليه لا بمسرحية ولا غيرها».

عندما حان وقت تناول وجبة العشاء؛ اصطفننا رتلين متوازيين أحاديين، تبعني أحد الوافدين الجدد ممن كانوا معنا، وتهافت الجميع إلى المطبخ محتلين مقاعدهم.

«محمود» الذي جلس إلى جانبي شاب جميل، وقد أتى بهندام أنيق لا يتناسب مطلقاً مع الغابة التي نحن فيها، لديه جريمة طريفة سأرويها آنفاً، المهم أنه عندما لاحظ أنني لا أقترب من الطعام الذي هو عبارة عن «فول» أخبرني التالي: «كول حتى لو ما حبيته… لازم نصير قوايا (أقوياء) منشان اللي بدن ينيكونا». ومع أنني أبتسمُ حين أتذكر هذه المقولة الآن، إلا أنها أوحت لي في تلك اللحظة بمعنيين متناقضين: أن نأكل كي نحفظ قوة أجسادنا ونمنع بالتالي المعتدين، أو أن نأكل فنزداد قوة لكي نكون بكامل الرشاقة والنشاط اللذين يفضلهما المعتدون. أطلقتُ زفرة طويلة وسألتُ نفسي أين أنا.

صعدنا إلى مهاجعنا بعد الغداء، ولم تمضِ دقائق قليلة حتى تجمّعَ في غرفتنا عشرات الأشخاص، بينهم الانضباط، لمشاهدة ما قالوا إنه «المسرحية»، جلبوا كل المساجين الجدد وشرعوا بضربهم.

عندما تدخلتُ؛ شدّني «الزعيم» وقال لي إن هذا سيعرضني وربما هو أيضاً للخطر، وأضاف بأن هذه تسليتهم شبه الوحيدة هنا، وأنهم يهدفون إلى إخضاع الجدد لسلطتهم كي يتفادوا المشاكل، وأنه يجب علي أن أستوعب «الجوّ» ها هنا.

في المسرحية تتطاير الأجساد وتهوي على الحائط، مصحوبة بأصوات ضاحكة، وبعد أن ينفر الدم من الرأس والأنف، يسألون المراهق الملقى عن اسم أمه، ثم يرتجلون قصة إباحية سخيفة عن مغامراتهم الجنسية مع الاسم المفترض، ثم يبدأون بالآخر، وهكذا.

وأمام العنفين «الجسدي والنفسي» اللذين تعرَّضَ لهما الجميع، تتفرغ هذه الشحنات على الأضعف بطريقة مماثلة، فيمارس المساجين العنف ذاته الذي يُمارَس عليهم، وبينما يحاول «الأقل سلطة» النجاة؛ يجدون أنهم يتورطون، ربما لأسباب يجهلونها هم أنفسهم، في عنف مشابه على من يصغرونهم سناً، وهكذا تتكامل الدائرة.

انتهت المسرحية حينما اقترب أحد الأساتذة ليأخذنا نحن الجدد إلى مكتبه لاستكشاف جرائمنا، رأى كل شيء، فأمر الباكين النازفين بأن يغسلوا وجوههم ويتبعوه، أما أنا فقد كنتُ أول الواصلين إلى ذلك المكان المشؤوم.

كانوا ثلاثة يسألونني عن جرمي، وحين أشرع في أول جملة؛ لا أعرف كيف أطير ملتصقاً بالباب أو بمشبك معدني، وحين أنهض مجدداً أجد الدنيا عبارة عن ضباب أحمر مصحوب بصفير وطنين مزعجين. تعود إليَّ الرؤية ثانية فأحاول البدء بروايتي من جديد، لكنّ صفعة أخرى لا أعرف مصدرها تعيدني إلى كل ذلك الغبش.

يُخفّفُ عني قليلاً وصول القادمين من المغاسل، سنتقاسم أخيراً الضربات بشكل متساوٍ، لكن يبدو أن حصتي أكبر منهم كوني شكوتهم أثناء التفتيش.

تفاجأتُ أنني فعلاً لم أعد أعرف كيف أروي قصتي/جريمتي، فحين أبدأ بأول جملة لا أستطيع إكمالها. كنتُ ذهنياً أستعدّ للصفعة، وأهيء نفسي كي لا أبدو بذلك المشهد الذي يضحكهم في سقوطي، وعندما أصل إلى إحساس بسيط بالأمان وأحاول أن أستطرد تتكرر الآلية ذاتها. (بعد أن أخرج سأعيش في خلل طوال أربع سنوات، إذ لن أستطيع رواية أية حادثة إلا عبر الكتابة، أما شفهياً فإنني سأبدأ بمطلعها فقط ثم ستُحتبَس الكلمات في فمي).

يلتفتون إلى من معي، يبدأون بـ«محمود» ذي السنوات الخمس، يقول لهم إن جرمه التسوّل، وإنه كان يبيع المناديل في أحياء حلب القديمة، ثم يسكت. يجره أحدهم من أذنه ويسأله «وأبوك وين» فيجيبه بأنه قد مات، وأنّ عليه أن يساعد أمه في مصروف البيت، فيتلقى الطفل نصيبه من الضرب.

محمود الآخر الذي في مثل سني يعجز عن توصيف جريمته، فعادةً تُوصَّفُ الجريمة بكلمة واحدة مثلاً (تسوّل، مشاجرة، سرقة، شغب… إلخ)، أما هو فلم يعرف ماذا يقول، لذلك فقد تعرض لضرب في البداية فقط، ثم سرعان ما وجد ذلك المسمّى الجرائمي «البصبصة».

يبدأ المراهق بكل براءة في الحديث عن جارتهم، فينهرونه ويطلبون أن يتحدث عن جرمه، فيقول إن هذه الجارة تكره أمه، وإنها ألصقت به تهمة البصبصة عليهم من «البلكون» أثناء لحظة رومانسية مع زوجها، واستدعت الشرطة فأحضروه إلى هنا.

يطلق أحد الأساتذة ضحكة هستيرية ويسأل صديقه «مرت عليك هيك جريمة من قبل»، ثم يصفون الفتى «الذي كان خائفاً من أن يُتحرَّش به» بالمتحرِّش!

ثالثٌ في الرابعة عشرة يقول إن جريمته السرقة، فقد سرق «جرة غاز» من محل معلمه الذي كان يعمل لديه، لأنه نصب عليه أجرته الأسبوعية.

رابعٌ مُشوّه الخِلقة، ومحلوق نصف وجهه الأيمن من الشارب إلى الشعر، يقول إن جرمه «شمّيم»، حيث يشمّ مواد الدهان «تنر»، وكاز، وأشياء أخرى قوية الرائحة تُسكِره. يسأله أحد الأساتذة «شمّيت شعلة؟!» (وهو لاصقٌ ذو رائحة نفّاذة) فيجيبه بالإيجاب، ويستفيض في الحديث عن تجربته مع الشمّ.

خامسٌ في العاشرة من العمر، يشترك مع الطفل «محمود» في بيعه المناديل في الطرقات.

الغريب في كل هذا أن الاسم لا يعني شيئاً لدى الجميع، فلا أحد يسأل عنه، بل عن الجريمة. الجريمة هي هويتك التي عليك أن ترفعها عالياً بذراعيك وقلبك ما دمت هناك، حتى ولو لم تكن مجرماً.

«كلكم بريئين يا منايك» يقول لنا أحدهم، ثم يتناول أقراصاً بيضاء ويشرح: «هي الحبة هدفها الأساسي تحوّل البني آدم لجحش، والعكس بتحوّل الجحش لبني آدم»، فيضحكُ من معه. ناول الشخص الأول الحبة الأولى وسأله «أنت شو؟»، فلم يعرف الطفل ماذا يجيب، فكرر السؤال بصيغة «أنت جحش أم إنسان؟»، فأجاب الطفل بأنه إنسان، ليكون الردّ «وقت بتاخد هي الحبة رح تصير جحش»، كرَّرَ الطفل بأنه سيصبح جحشاً.

الثاني كان قد تعلَّمَ أن يقول إنه إنسان «ورح صير جحش»، الثالث، والرابع أيضاً كذلك، أما الخامس فقال من البداية إنه «جحش»، فسئُل: وماذا ستصبح بعد أن تأخذ هذه الحبة؟ أجاب «إنسان!»، فقيل له لا، إنه سيبقى جحشاً، ثم طلبوا منه أن يريهم كيف يمشي الجحش على أربع.

«أنا إنسان» قلتُها مُشهِراً ابتسامة كنتُ أظنها بريئة، «وبعد الحبة شو رح تصير؟» يسألني، فأجيب بأنني سأظل إنساناً. يقول لي بأنني سأصبح جحشاً، أبالغُ بالابتسامة وأجيب بأنني لن أصير كذلك، تتهاوى الصفعات من كل مكان، أنطرح على الأرض إلى وقت طويل، وأرفض أن أحمل هذا المسمّى. لو أعيدت لي ذات التجربة الآن، لوفّرتُ على نفسي تحمُّلَ كثير من العناء.

«كأنو شيطان راكبه، يلعن دينه ما أعنده» هذا ما يقوله أحدهم لمن معه بعد دقائق، فيجيبُ الآخر بأنه يعرف حلَّ مثل «هذه النمر». يطلب مني أن أنتصب على ركبتي وألصق يداي خلف رأسي وأمشي. زحفتُ بهذه الطريقة الممر الطويل، ثم هويتُ من الدرج، ثم أُدخلتُ إلى المراحيض القذرة، وفي النهاية عدتُ إلى المهجع بتوديعة لطيفة.

حينما أحاول الآن أن أمشي على ركبتي بالطريقة ذاتها؛ لا أستطيع أن أقطع متراً واحداً، كيف قطعتُ كل هذه المسافات وتحملّتُ ما سبق لا أعرف! والواقع أن مُعايشيّ الأحداث ليسوا كمن يشاهدونها من الخارج أو يسمعونها عن بعد، فهناك لحظات يعني فيها قول «نعم» أو ربما ذرف دمعة واحدة، أن تُسقَطَ عنك هويتك وأناك، وأنك لن تحترم نفسك إلى الأبد.

لم أستطع النوم في ذلك الوقت، كنتُ أشعر أنني لم أعد قادراً على المشي، لكنني كنتُ أشعر بشيء يشبه الاطمئنان والشجاعة. استجمعتُ قواي وذهبتُ إلى الحمام. في طريق العودة إلى المهجع شاهدتُ شيئاً صادماً وغريباً، حيث كان اثنان يمارسان الجنس أمام جمع كبير من المساجين، دون أن يكترث أحد بهما، ولو حتى بنظرة.

لا أعرف كيف بدت ملامحي في ذلك الوقت، ما أعرفه هو أنني أصبحتُ عُرضة للسخرية، ومع أنني ظللتُ جامداً مشدوهاً لدقائق لا أستوعب ما يُقال، إلا أنني حين تابعتُ مسيري سمعتُ من يناديني ويسألني: «كني أنت جديد؟ بكرا بتتعود وما بتتفاجأ وبتصير بتعمل متلنا».

لم يكن المشهد غريباً، فمنذ الدقائق الأولى لوصولي عرفتُ أن مثل هذه الأمور طبيعية، لكن الذي لم أستطع تصديقه هو عدم اكتراث الآخرين بما يحدث أمامهم وكأنه شيء مألوف، ويبدو أن استغرابي كان هو اللا مألوف بالنسبة لهم.

الشِّعر المُخلِّص

عدتُ إلى فراشي وأنا لا أرغب إلا في النوم. لم أكد أغفو حتى أيقظني أحد السجانين وأخذني إلى مكتبه، وهناك حدّثني عن أن ما فعلته اليوم يؤلّب عليهم المسجونين ليفعلوا ما أفعل، وهذا ما يستدعي عقوبات مضاعفة لي حتى ينكسر الرأس الذي أحمل.

أتى شخص آخر وشرعوا بضربي، طالبين أن يعرفوا قصتي التي لم أستطع روايتها كاملة. حين بدأت بـ «كنت بمقهى إنترنت»، تراشقتني الأسئلة «شو رايح تعمل هنيك؟ بدك تشوف سكس؟» قلتُ إنني مهتم بالأدب، و«أنت فيك أدب؟»، وبعد محاولات طويلة لشرح قصتي، ومقاطعات فجة، سألني أحدهم «هل تعرف قصيدة الأصمعي؟».

حين ردّدتُ القصيدة صعبة الحفظ تغيّرَ كل شيء، فطلبوا مني الجلوس، وسألني واحد منهم «حافظ شي للإمام؟». كنتُ سأظن أن المقصود بهذه الصفة هو المتنبي، لولا أنني حَدَستُ أنه _تِبعاً للهجة_ يقصد علي بن أبي طالب.

متململاً ومتعباً كنتُ أنتقل من قصيدة إلى أخرى، ومندهشاً أمام قدرتي على حفظ كل هذا الكم من الشعر بهذه الدقة، إذ لم أكن أعرف ذلك عني قبل هذه الحادثة، أما هم فكنتُ أرى انشداههم بذاكرتي وصوتي في الإلقاء.
حين وصلتُ إلى المتنبي وجدتُ معانيَ لم أكن قد تنبّهت لها قبل ذلك، وقد ساهم التفكّر فيها في تحسين حالتي المزاجية إلى حين خروجي. وعندما قرأت «لا تَلقَ دهرَكَ إلا غير مكترث… ما دام يصحب فيه روحَكَ البدَنُ» وجدتُني أقشعّر، وتيقنتُ أن اللا اكتراث بأي شيء سيكون أفضل ما أفعله.

سيوقظني السجّان نفسه بلطف في الليلة التالية ليطلب مني أن أُسمعه شعراً، وسأُعامل من قبلهم كشخص محترم، وسأُخبرهم أنني حصلتُ على جائزة محلية «كبيرة» في الشعر، وأنني لن أتناسى ما فعلوه ويفعلونه بنا.

عشوائيات

مضى عليَّ في هذا المكان يومان، في جعبتي كثيرٌ من القصص عن جنايات المراهقين، ولم يخطر لنا أبداً أن نتبادل الأسماء بعد كل الأحاديث الطويلة، بعضهم كان قد قضى ستة أشهر دون أن يصدر بحقه حكم من المحكمة، وبعضهم لا يدري بالفعل لماذا هو موجود هنا، وآخرون يزعجونني بإخباري أنني سأقضي على الأقل ستة أشهر، ثم يشرحون لي القوانين، والفروقات بين الحق العام والخاص، ويحضرون لي أمثلة من تجارب موجودة معنا.

عناصر الانضباط كانوا يشاكسونني أحياناً فنتعارك، إلا أنهم توقفوا عن ذلك حينما أخبرهم عدد من النزلاء معنا بأنني أقرأ القرآن طوال الوقت ولا أصلّي. والحقُّ أنه لم يكن لدي خيار في ذلك، فالمكتبة هي عبارة عن كتيبات دينية بسيطة تبدأ بـ«الحصن الحصين» وتنتهي بـ«الأربعين النووية»، لذا فإنني آثرتُهُ على سواه.

أما الله الذي كان بالنسبة لي فكرة ضبابية مشوشة، فقد اختفى مني تماماً منذ أول صفعة تلقيتُها وأحسستُ أنني أُهان، وما يزال حتى اليوم.

الخروج

إنه اليوم الثالث، يعانقني كثيرون، وينزلون معي إلى أقصى مساحة متاحة لهم، ثم أعبر من سجن الأطفال إلى الطابق الأرضي، وهناك يُسلّمني شرطيٌ هويتي، فأطالبه بالألفي ليرة التي تم أخذها مني لدى وصولي. يُخبرني بأنهم سيتبرعون بها إلى الجمعية التي تدعم «المعهد الإصلاحي»، وبعد اعتراضات طويلة آخذُ خمساً وعشرين ليرة كي أصل بها من قرية فيفين حيث السجن، إلى بيتي.

عرفتُ هناك أن أسرتي استدانت مبلغ خمسة وعشرين ألف ليرة لدفعه للشرطة كي يتم إطلاق سراحي، لو لم تفعل ذلك لأقمت في السجن فترة لا تقل عن ثلاثة أشهر، أما من سُجنوا معي في اليوم ذاته فلم يخرج منهم أحد.

أعتقد أنني كنتُ أحاول أن أبدو طبيعياً خلال الفترة الأولى من إطلاق سراحي، لكنني لا أعرف لماذا كانت أمي تأتي كل فجر لتعانقني، وتبكي.