بينما تشير الظواهر إلى أن  «النظام» يفوز في سورية، فإن دوائر الفوضى في الأحوال والمدارك تتسع في العالم، وفي سورية نفسها. النظام الذي يفوز اليوم هو بنى سلطة وترتيبات اجتماعية وسياسية ودينية وإيديولوجية، محلية ومعززة دولياً، لا مكان فيها للسياسة ولا للحرية، ولا يشغل التفكير الحر والنقاش الحر موقعاً فيها. لكن ظاهرٌ منذ اليوم أن حكم القوة والقسوة هذا لا يستطيع تزويد نفسه بمعنى إيجابي، ولا هو يدعي ذلك، ولا ينفتح على فسحة للأمل. إنه مسعى للأبد، أي لإعدام التغيير والحرب المستمرة ضد المستقبل، لا يتحقق بغير اعتماد الإبادة منهجاً سياسياً. دولة الأبد والإبادة الأسدية عنصر فحسب في هذا  «النظام» الذي يقوم على الحرب والتمييز، وعلى أشكال فاجرة من النهب وتعبيرات فاجرة بدورها من الكراهية.

بيد أن أبرز ما يميز عالم اليوم، على ما ظهر في سورية، هو انتشار الإمبريالية أو لا مركزيتها المتصاعدة،  «سيلانـ»ـها، بلغة زغمونت باومان، خارج أي مركز بعينه، أو  «انبثاثـ»ـها في ثنايا العالم المعولم، مثل السلطة عند ميشيل فوكو ، وهذا مقابل تركزها في وقت سابق لم يتقادم به العهد في دول رأسمالية أو معسكر دولي، وربما في معسكر دولي مقابل. ومن سوء طالع سورية البلد أن تكون ساحة تجمع  «الامبريالية السائلة» على نحو يعاكس مسار الإمبرياليات المركزية التقليدية، حيث كانت المراكز قليلة ومساحات سيطرتها وانتشارها واسعة. الآن وهنا، في سورية في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، لدينا بلد واحد، صغير، تقاطرت عليه وتركزت فيه إمبرياليات متعددة، تحيل إلى مراكز قديمة ومراكز أحدث ومنظمات ما تحت دولة وشبكات إمبريالية. لدينا بداية أربع دول أعضاء في مجلس الأمن بقوات عسكرية على الأرض، أميركا ومعها فرنسا وبريطانيا، ثم روسيا. ولدينا مركز إقليمي توسعي، إيران، بقوات عسكرية على الأرض، ثم تركيا كذلك. ومع هذه الدول الستة وإلى جانبها ثمة إسرائيل التي تتنافس الإمبرياليات الصلبة القديمة على رضاها، وتتجنب المراكز الطامحة سخطها. وبين يدي سباعي الدول هذا وإلى جانبه، ثمة أحزاب-ميليشيات مسلحة تجمع بين التبعية لمراكز دولتية وبين النزعة التوسعية، مثل حزب الله وحزب العمال الكردستاني وميليشيات عراقية. ثم أن من هذه الإمبرياليات ما له تكوين شبكي ومُعولم مثل السلفية الجهادية، الطامحة إلى فتح العالم والمسكونة بخيال إمبراطورياتنا الإسلامية الآفلة، والتي جعلت بعد هذا وبالرغم منه من المظلومية دينأ. اسم الكتاب يحيل إلى هذا التكوين المزدوج، الامبراطوري والمقهور.

أخذت  فكرة الامبريالية المقهورة تتولد في ذهني بفعل المعاينة المباشرة للواقع في كل من دوما والرقة عام 2013. كانت المدينة الأولى مسرح نفوذ غير حصري وقتها لجيش الإسلام، التشكيل السلفي المحلي الذي كان يفكر في الغوطة كـ«فسطاط للمسلمين»، مسرح معركة فاصلة، «يوم الملحمة الكبرى»، ضد عدو غير مسلم، مع حصر الإسلام بالإسلام السني ووضعه في تقابل ضدي مع الديمقراطية التي قال زهران علوش، مؤسس وقائد جيش الإسلام حتى مقتله في أواخر 2015، إنه يضعها  «تحت قدميه». هذا المزيج من الصلف والرثاثة، من مخيلة مسكونة بالحرب والسيطرة ومن تشكٍّ مستمر من تآمر العالم وعدوانه علينا (وتشويه صورة المجاهدين، على ما استطاع علوش نفسه أن يقول)، كان له نظير في الرقة التي كانت في ذلك الوقت مسرح نفوذ غير حصري هو الآخر لداعش. المعركة الفاصلة، المنتصرة بطبيعة الحال، مسرحها دابق شمال حلب، وكانت النية تتجه بعد ذلك إلى فتح روما. التنظيمان السلفيان أقاما جهاز حسبة لضبط الأجساد والسلوك، النساء بخاصة، وكان هذا التوسع في أجساد المحكومين هو النصيب الأبرز للإمبرياليين المقهورين من الإمبريالية.

ولعل الواقعة الأمثولية التي تصلح تعريفاً للإمبريالية المقهورة هي حدث 11 أيلول 2001. كانت  «غزوة مانهاتن» تلك ضربة عظيمة، بالغة الجسارة وعالمية المخيلة، استهدفت رمزاً للإمبريالية القاهرة، وتذرعت بمظلومية المسلمين، وتسببت في قتل نحو 3000 شخص لا يمكن اعتبارهم مذنبين جنائياُ ولا سياسياً ولا أخلاقياً، ولا حتى ميتافيزيقياً. لكن يبدو أنهم مذنبون أنطولوجياً في عين السلفيين الجهاديين، والعدالة هنا تتماهى بالإبادة.

بيد أن فرص إمبرياليينا المقهورين في  «إدارة التوحش» تبدو محدودة بالنظر إلى أن النظام الدولي، وهو مكون من دول أساساً، يفضل إدارة التوحش الذي ينتجه عبر الدول ذاتها، وتجد حتى دولة مخصخصة ومنزوعة الوطنية مثل دولة الأسديين نفسها طبيعية فيه. حين كان الأميركيون يرسلون مشتبهاً بهم بأنشطة إرهابية إلى دول مثل  «سورية الأسد» أو مصر أو  أشباههما، كانوا يقولون عملياً إنهم يفضلون إدارات للتوحش يعرفونها، هي في أسوأ الأحوال  «شر أصغر» في نظرهم، على  «الشر الأكبر» الذي هو مشروع التوحش الخاص بالسلفية الجهادية المعاصرة.  «النظام» الذي يفوز اليوم في سورية هو إدارة توحش دولتية.

على أن  «سيولة» أو لا مركزية وفرط حركية الجهادية تبدو كأنها صورة المستقبل للنظام الدولي، بما يصادق على قول باومان نفسه بأنه في عالم ما بعد الحداثة ما يقدم صورة مستقبل العالم الأول هو العالم الثالث، بينما كان الحال عكس ذلك في زمن الحداثة، الذي هو زمن الإمبرياليات الصلبة المتمركزة، وزمن التقدم كاتجاه للتاريخ.

في كل حال، ليست الإمبريالية المقهورة غريبة في عالم من  «النظام» والسيولة، من السلطة المحض ومن تداعي المركز . وجنوحها المعادي للعالم ليس غريباً عن تطور السياسة عالمياً باتجاه الجنوح والزعماء الجانحين، على نحو تتواتر مؤشراته في روسيا وأميركا، في أوروبا الشرقية وفي العالم العربي، وعلى مستوى الدولة والمنظمات والجماعات السياسية الدينية.

*****

يمكن قراءة هذا الكتاب كجزء ثان لكتاب أساطير الآخِرين: نقد الإسلام المعاصر ونقد نقده الذي صدر غداة موسم الربيع العربي (دار الساقي، بيروت، 2011). كان  «أساطير الآخِرين» (بكسر الخاء) يتناول الإسلام المعاصر وتمثيلاته الفكرية، تلك التي يُقدمها ممثلوه أو خصوم لهم، وقد بدا لي فيه أن نقد الإسلامية الضروري يقتضي نقداً لضروب من النقد تمييزية، غير مستقيمة فكرياً، غير تحررية سياسياً، وضامرة البعد الأخلاقي، ذكرت أمثلة منها في متنه. أما الكتاب الذي بين يدي القارئ فيتناول الإسلاميين أساساً، وإطار إحالته الواقعي هو سورية في سنوات ما بعد الثورة. البدء هنا من الفاعلين، وإحدى موضوعات الكتاب الرئيسية هي أنهم ينتجون إسلامهم، بعكس ما يفكرون هم، وبعكس ما يعتقد معظم خصومهم. لقد وقعت تحولات كبيرة في الحقل الإسلامي خلال سنوات الثورة والحرب السورية التي هي مختبر هائل للنظر في الأفكار والتيارات وتقييمها، من أبرزها صعود الإسلام الحربي أو الجهادي أكثر من  «الإسلام السياسي»، ومنها تغير موقع الإسلاميين ككل من موقع الضحية إلى موقع المعتدي الأثيم أو المستأثر الأناني. ومنها تفاقم النزعة المحافظة العدائية التي تستحق نعتاً قديماً: رجعية، ظهرت بخاصة في مجالات التعليم والقضاء وأوضاع النساء. ومن هذا الباب فإن النقد هنا ينصب بصورة شبه حصرية على طوائف الإسلاميين، ونقد النقد أقل حضوراً.

لكن مثل سابقه، هذا الكتاب معني بإدراج نقد الشأن الديني في  «الثقافة». أعني من جهة أنه يريد أن يولّد أفكاراً، أن يغامر بأطروحات غير قياسية، وأن لا ينضبط بمنطق الاختصاص (الكاتب هاوٍ على كل حال، وليس مختصاً)؛ والثقافة التي أفكر فيها من جهة ثانية هي فضاء حرية، مساحة للنقاش، لتفكير جذري وملتزم سياسياً، لمخيلة تتحرر. تتقابل الثقافة في تصوري مع الإيديولوجيا كنسق مسبق التكون من الأفكار، يعلي من تماسكه الخاص على تمثيل التجارب المعاشة؛ تتقابل أيضاً مع السياسة حين تعني الأخيرة أولوية التعبئة على المعرفة، وتحكيم مقتضيات الفاعلية السياسية في عمل الفكر. ثم إن الثقافة تتقابل مع الدين ذاته، فلا تعترف في مجالها بسلطة تعلو سلطة التفكير الحر، وتنازع الدين النفوذ في مجال  «الروح».

في نشر هذه المواد في كتاب محاولة لمقاومة الشفاهة الغازية لشؤوننا العامة، الشأن الديني بخاصة. الشفاهة غير تحررية مهما أمكن لها أن تكون إنسانية. ليس كل كتابي تحررياً وجذرياً، بالمقابل، لكن الكتابي وحده مجال الجذرية والتحرر، والمسؤولية كذلك، و «الجمهورية» أو العمومية. ولا يزال الكتاب في رأيي هو وسيط الكتابي الأمثل.

ولعله يمكن كذلك قراءة الصيغ المتاحة هنا للمواد التي تشكل متن الكتاب كـ  «طبعة ثانية مزيدة ومنقحة» لنشرها الأول، على النت (في مجلة الجمهورية الإلكترونية غالباً)، وهو ما يندر أن يوفر النشر العربي فرصاً له حتى حين يُعاد طبع الكتب، فلا يتاح للكتاب إعادة صوغ أفكارهم ومراجعتها وإغنائها، على غرار ما يفعل زملائهم في بلدان الغرب. هذا خطأ مؤسف، يحبط الكاتب ويُقرِّب عمل الكتابة من إشهار مذهب ثابت، ويحول دون اعتبار مراجعة الأفكار وإصلاحها عناصر مكونة لتعريفه ككاتب. يوفر لي الكتاب الحالي فرصة لإصلاح الخطأ فيما يخص المواد المدرجة فيه. التنقيح واسع في بعض المواد، في شكل إضافة أو حذف أو تعديل، وإن اقتصر على لمسات متفرقة بخصوص بعضها. والمأمول بمحصلة التنقيح أن فصول الكتاب صارت أكثر إحكاماً كأفكار وكبنية وتسلسل.

*****

 

لقد كتبت فصول الكتاب السبعة عشر متفرقة خلال نحو أربع سنوات ونصف، بين 2014 و2018، وهي تتوزع على ثلاثة أبواب، يعرض أولها معطيات التكوين. يتناول الفصل الأول، المركزيات الإسلامية والتاريخ، معطيات التكوين التاريخي للإسلام عبر سبعة مراكز هي الله والدولة والرجل والدال الفصيح والصوتي- السمعي والماضي من الزمن و «مهبط الوحي» من المكان. ويهتم الفصل الثاني، في المسألة الإسلامية، بالإطار العالمي المعاصر للتكوين، ويرى الإسلامية وجهاً من وجهي مسألة عالمية، وجهها الثاني هو الإسلاموفوبيا. أما الفصل الثالث فينظر في تسنّن الشيعة وتشيّع السنّة في مسار الأربعين سنة الماضية كمعطى مكون إضافي للإسلامية المعاصرة. وما عدا هذا الفصل القصير فإن الإسلامية التي يتكلم عليها هذا الكتاب هي الإسلامية السنية.

الباب الثاني ينظر في تكوّن الضمير الإسلامي المعاصر، أو في المسألة الأخلاقية الإسلامية، ويحيل عنوانه، الضمير كأذن خارجية، إلى التمركز الصوتي السمعي للإسلام، وبالتحديد إلى أن الضمير هنا  «عضو» مخصص لسماع صوت المفتي أو  «الشرعي». يقول الفصل الرابع أن ضمير الإسلامية متكوّن حول المظلومية من جهة، والظالمية المتولدة عن مركب الاختصاص بالله والامبراطورية من جهة ثانية، وأخيراً الظلامية، أي الاكتفاء بما في اليد من عتاد فكري وأخلاقي، والاعتقاد الباطل بأن المسلمين لا يدينون إلا للإسلام وأن الإسلام لا يدين إلا لنفسه. ويتساءل فصل خامس قصير عمّا إذا كان هناك تكوين متسق للضمير الإنساني يمكن أن يختار حقاً الإكراه في الدين ضد الحرية الدينية، والتمييز بين الجنسين ضد المساواة، وعقوبات جسدية تمس بالتكامل الجسدي ضد عقوبات لا تفعل مثل ذلك، إلخ. ويستأنف فصل سادس، قصير بدوره، التساؤل، لكن المعرفي هذه المرة: هل هناك حوائل ابستمولوجية تعوق دراسة الشأن الإسلامي بالمناهج والأدوات التي تدرس بها المجتمعات والعقائد الأخرى؟ يتناول الفصل السابع  «اللباس الشرعي» الذي يضع عبء الحشمة على المرأة، ويرى هذا اللباس علاقة قوة محمية بالقسر، وليس بحال مسألة احتشام وتواضع. وينظر الفصل الثامن في العلاقة بين الخلق والأخلاق، وبين الطبيعة الدين، ويتساءل: هل تزودنا اعتقاداتنا، ومنها الدين، بقوة مادية أو بجسد ثان يضاف إلى أجسادنا، أم أنها تؤنسننا و«تُرَوْحِن» أجسادنا ذاتها، فكأننا نصير بروحين؟ ويقترح الفصل أن الخلق من الخالق الذي هو الله أو الطبيعة، وأن الأخلاق من الإنسان، وبالتالي كل ما هو أخلاقي ومعاملاتي في المتون الإسلامية إنساني، وبالتالي تاريخي، ومتغير، وبحكم اللاغي اليوم من وجهة نظر كرامة الإنسان وإنسانيته.

الباب الثالث والأخير ينظر في إسلام الحرب والظاهرة السلفية الجهادية. الفصل التاسع، يرى أن الإسلاميين ينتجون الإسلام الذي يستنتجون أنفسهم منه، وهو ما يتيح لنا تجاوز الطرح التحزبي الجزئي الذي يقول إن الإسلام هو داعش أو القاعدة، وكذلك الطرح المضاد، القائل أن الإسلام من ذلك براء. داعش والسلفية الجهادية شرعية الانتساب للإسلام، وإن كانت لا تستنفده. والأهم من النصوص هو النظر في الشروط الاجتماعية والتاريخية، والعالمية، التي تؤطر صنع الدين، الإسلام وغيره، بهذه الصورة أو تلك. ويلفت الفصل نفسه إلى أهمية المخيلة والذاكرة ومؤسسات التلقين الديني وأن النصوص تقرأ من خلالها. الفصل العاشر يرى أن القاعدة هي إمبراطوريتنا البديلة، وأنها متولدة عن التقاء متخيلنا الامبراطوري بعجز دولنا  «السيدة» عن الحرب، أي عن كونها منقوصة السيادة، وأن امبراطوريتنا البديلة شبكية دون إقليم لأنها لا تستطيع أن تدافع عن نفسها في حرب لا تملك شيئاً من اقتصادها وتكنولوجيتها. ويرى هذا الفصل أن اعتراضنا على الامبريالية متهافت حين لا نقطع مع نزعاتنا الامبراطورية في الثقافة والدين. وفي الفصل الحادي عشر أتكلم على الباراديغم السلفي الجهادي، المهيمن في أوساط الإسلاميين بمن فيهم من ليسوا سلفيين جهاديين، بل حتى من ليسوا سلفيين. هذا الباراديغم يتكون من نظرة إلى العالم تراه متآمراً على المسلمين، وتُعرِّف وحداته بأصولٍ وأديان قديمة، ثم من نظرية  «علمية» هي السلفية، ومن منهج عملي هو الجهاد، ومن هدف هو الدولة الإسلامية. ويقترح الفصل الثالث عشر أن السلفية الجهادية ليست التعبير السياسي الإيجابي عن بيئات سنية سورية بعينها، أياً تكن هذه البيئات، بل هو نتاج حرمان هذه البيئات من أي تعبيرات سياسية ذاتية، وكذلك تخلخلها كمجتمعات وهامشيتها. وينظر الفصل الرابع عشر في جينيالوجيا داعش أو طبقات كيانها التاريخية، فيميز بين ما قبل تاريخ أفغاني متنضِّد في طبقة أولى عميقة، وفوقه طبقة عراقية أخذت تتشكل بعد الاحتلال الأميركي للعراق، والطبقة الثالثة هي طبقة سورية أخذت تظهر عام 2013. في أفغانستان كان العدو هو الاتحاد السوفييتي ثم الولايات المتحدة، وفي العراق الأميركيون وحلفاؤهم من المنظمات الشيعية، وفي سورية كان العدو هو الثورة أساساً. من أفغانستان أخذت داعش تكوين المنظمة الإرهابية، وفي العراق اكتسبت العنصر المخابراتي الدموي، وفي سورية شكل الاستعمار الاستيطاني الإحلالي. الفصل الرابع عشر يعمل على إظهار علاقة مرآوية بين العالم وداعش، تقوم على استبعاد السياسة وعلى إرادة الإبادة. الفصل الخامس عشر يرى أن الإسلام تحول على يد السلفية الجهادية إلى تكنولوجيا سياسية، أي وصفات مطبّقة للسيطرة، بعد أن كان إيديولوجية سياسية على يد الإسلام السياسي، ما يعني تقليصاً مضاعفاً لدين المسلمين، يعزز السياسي فيه ويضعف الروحي والاجتماعي والأخلاقي. أما الفصل السادس عشر فينظر في السلفية الجهادية كظاهرة مسرحية، أو إشباع للحاجة إلى دور في العالم، لكن المسرح هنا يحل محل الحياة، ولا يسمح لها أن تتسرب إليه. وفي  «المشرح» السلفي الجهادي تلزم أجساد حقيقية لقتلها وبترها من أجل شد الجمهور الذي لا يشده غياب الحب والجنس إلى أعمال الفرقة المسرحية العالمية الشهيرة، المسماة داعش. ويظهر فصل سابع عشر وأخير  أن إشكالية الإسلامية المُكوِّنة طالبة للسيادة وليس للسياسة، وأن الدولة المخصخصة والأبدية تثبت هذه الإشكالية وتعزز حضورها. وعليه يمكن التفكير في تعاقد اجتماعي وسياسي، يربط بين تأميم الدولة أو نزع خصخصتها وبين تخلي الإسلاميين عن أي تطلعات سيادية، ليصيروا قوية سياسية مثل غيرها في اجتماع سياسي يقوم على المساواة والمواطنة وعلى الحريات السياسية والدينية.

*****

لقد نُشر الفصلان الثاني: في المسألة الإسلامية، والرابع: المظلومية، الظالمية الظلامية… في الأصل كمقالتين ضمن سلسلة مقالات متنوعة المواضيع جمعت بينها ترويسة: مقالات إلى سميرة. أبقيت على هذه الترويسة هنا استذكاراً لامرأتي المغيبة التي خُتم النصان بكلمات عنها.

اسطنبول وبرلين، خريف 2018