إذا كان هناك سمة رئيسية للمشهد السياسي السوري خلال العام المنقضي، فهي التمييع الذي اعترى جميع المسارات السياسية منذ أيامه الأولى، التي لم تبدأ إلّا بعد أن كان في جعبة الرياض هيئة جديدة للمفاوضات، كانت مهمتها الأساسية طوال العام ألّا تفعل شيئاً، عدا ظهور أعضائها المتكرر على قناة العربية لقول كلام متناقض، والاستسلام شبه الكامل لنتائج التفاهمات التركية مع موسكو وطهران، بعد أن تراجع الدعم الدولي للمعارضة وهيئاتها، وواصلت الرياض انسحابها من المشهد السوري.
أما أنقرة، «الحليفة الأخيرة» للمعارضة، فقد كان في جعبتها الكثير خلال 2018، من قبولها بتمرير مشهد مؤتمر سوتشي الهزيل، والمليء بالهذيان والإذلال الجمعي للسوريين، إلى دخول قواتها إلى منطقة عفرين بمعية فصائل تشتغل اليوم في الاستيلاء على زيت الزيتون وقطع الأشجار وأعمال الخطف والسطو، وهو ما عنى عملياً انتقالها من خانة الدعم للمعارضة، إلى أن تكون قوة إقليمية تمتلك نفوذاً واهتماماً محدداً في البلاد، يرتبط برؤيتها لـ «أمنها القومي»، بصرف النظر عن أي شيء آخر، بما في ذلك حيوات ومصائر السوريين.
من جهتها، جهدت موسكو طوال العام في سعيها إلى خلق ممرات جانبية لتحويل المسار السياسي للحل في سوريا، ودفعه بمساندة الطائرات والمذابح والتهجير إلى متاهات بلا نهاية، وهو ما يبدو أنها قد نجحت فيه إلى حد بعيد.
أما واشنطن فهي لم تصنع شيئاً طوال العام، وعدا ضربة جوية محدودة عقاباً للنظام على استخدام السلاح الكيميائي، وتصريحات شبه متشددة تتعلق بالمسار السياسي، أطلقها المبعوث الأمريكي الجديد الذي عُيّنَ في الأشهر الأخيرة، فإن دورها كاد يكون صفراً في مجمله على أرض الواقع، حتى أفاق الرئيس الأمريكي قبل عطلة الميلاد بقليل، ليقرر سحب جنوده من سوريا.
وينتشر الجنود الأمريكيون الذين ينوي ترمب سحبهم في منطقتين؛ الأولى اصطلح على تسميتها شرق الفرات، وهي منطقة تشمل أجزاء واسعة من محافظات الحسكة والرقة ودير الزور، كانت ولا تزال مسرح عمليات التحالف المستمرة ضد تنظيم داعش، وتسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية، التي سيتركها الانسحاب الأمريكي في حال تنفيذه في مواجهة مصائر تتراوح بين الاستسلام للنظام، أو مواجهة اجتياح تركي. أما المنطقة الثانية فهي قاعدة التنف، التي يقع قريباً منها مخيم الركبان الذي يضمّ أكثر من سبعين ألف نسمة، من النازحين الذين هربوا من قراهم وبلداتهم على أطراف البادية، خوفاً من بطش داعش والنظام.
كان قرار الانسحاب هو الهدية الأمريكية الأخيرة قبل نهاية العام 2018، وهو قرارٌ يوشك أن يخلط الأوراق كلها، ولا يزال الجدل حوله قائماً في دوائر السياسة الأمريكية، وقد يتم سحب مفاعيله، أو تأخيره على الأقل، بما يحول دون استفراد روسيا بتقرير مصير سوريا.
ميدانياً، بدأ العام بعمليات ذات وتيرة مرتفعة في الغوطة وإدلب، كادت الأولى تنهي وجود النظام المستحكم في إدارة المركبات قرب حرستا، التي كانت قاعدة انطلاق دائمة للقصف والعمليات تجاه المدنيين في الغوطة المحاصرة. أما في إدلب، فقد استكمل النظام السيطرة على الريف الشرقي للمحافظة وجوهرته مطار أبو ضهور العسكري، بعد تراجع تنظيم هيئة تحرير الشام في تلك الجبهة.
لم يمضِ الشهر الأول، حتى أصبحت أغلب بلدات الغوطة تحت عمليات قصف مركزة، ويمكن أن نستمع هنا إلى تسجيل يتضمن أصواتاً عامة من مدينة دوما في تلك الفترة. ثم تسارعت الأحداث في الشهرين الثاني والثالث، لتتعرض الغوطة لعمليات عسكرية غير مسبوقة على أكثر من جبهة، استخدم النظام والروس فيها مزيجاً واسعاً من الأسلحة التقليدية والمحرمة من بينها السلاح الكيميائي، الذي استهدف حمورية وسقبا بعد أن أحرق النابالم بلدة الشيفونية قرب دوما.
أدت تلك العمليات العنيفة المترافقة مع حصار تجويعي مشدد، وانهيار القدرة على القتال لدى فصائل المعارضة، إلى عقد اتفاقات سريعة لإخراج مقاتلي المعارضة وتهجير جزء من سكان حرستا، ثم بلدات «القطاع الأوسط» الذي كان يسيطر عليه فيلق الرحمن، والذي يشمل زملكا وعربين وسقبا وحمورية وعين ترما وكفربطنا وغيرها. بينما حاول جيش الإسلام في دوما لعب جميع أوراقه حتى النهاية، ومن بينها القبول بدور الشرطي المحلي مقابل البقاء في الغوطة، وهو الأمر الذي لم يكن ممكناً بعد قصف النظام للمدينة بالسلاح الكيميائي في السابع من نيسان، ليتم تهجير جزء كبير من سكان المدينة ومقاتلي جيش الإسلام بعد يومين من ذلك فقط.
كان وقع المجزرة الكيميائية شديداً، وخلال أيام قامت فصائل القلمون الشرقي بالتفاوض مع الروس، والوصول إلى اتفاق يقضي بإنهاء وجودهم المسلح في القلمون الشرقي، الذي كان قد بات عملياً القوة العسكرية الوحيدة للمعارضة في محافظة ريف دمشق.
تسارعت بعدها عمليات التسوية والتهجير، لتشمل في شهر أيار ريف حمص الشمالي، والأحياء الخاضعة لسيطرة فصائل المعارضة جنوبي دمشق، ويتم بعدها إخلاء مخيم اليرموك والحجر الأسود من عناصر داعش، بعد معارك ضارية وتدمير واسع طال المخيم ومحيطه، وانتهى باتفاق قضى بنقل عناصر التنظيم إلى البادية في الثلث الأخير من أيار أيضاً.
في إجابتهم على سؤالنا حول سبب المسارعة إلى عقد تلك الاتفاقات، قال قادة عسكريون وشخصيات مدنية من المناطق التي شهدت اتفاقات تسوية وتهجير بعد سيطرة النظام على الغوطة الشرقية، إن السبب كان خوف الأهالي من توجيه النظام لضربات جديدة بالسلاح الكيميائي، بعد أن شهدوا رد فعل المجتمع الدولي الهزيل على هجوم دوما الأخير، والذي تمثل بضربات عسكرية محدودة لم تُلحق أذى يُذكر بالنظام.
كان سلاح القتل الشامل هذا أداة رئيسية للنظام خلال عام 2018، ورغم أن تغطية وتوثيق تلك المجازر كانت قد تراجعت نتيجة عملية معقدة ومدروسة من قبل روسيا والنظام لإخفاء الأدلة والضغط على الشهود، إلا أن ذلك لا يخفي حقيقة أن العام 2018 كان في الحقيقة عام السلاح الكيميائي، الذي تم استخدامه بشكل ممنهج كسلاح تخويف وتهجير من قبل النظام، وبهندسة واضحة من موسكو.
بالتوازي مع عمليات التهجير من ريف حمص والقلمون وأحياء دمشق الجنوبية، كان مسار أستانا قد عاد إلى عقد جلساته في منتصف شهر أيار، بعد أن فشلت موسكو في تمرير مؤتمر سوتشي باعتباره المسار السياسي الرئيسي للحل في سوريا، ليركز مسار أستانا على ترتيب الأوضاع باتجاه إبعاد واشنطن أكثر خارج سوريا، عبر استهداف مناطق تمتلك فيها نفوذاً، فكان الهدف الرئيسي مناطق سيطرة المعارضة في محافظتي درعا والقنيطرة أقصى الجنوب السوري.
أعلنت الولايات المتحدة سريعاً تخليها عن فصائل الجنوب السوري، فيما قام النظام بتطبيق التكتيكات العسكرية التي استخدمها في الغوطة نفسها، فعمد إلى تقسيم الجبهات ومحاولة الوصول إلى اتفاقات مع مناطق بعينها، إذ قام في البداية بعزل منطقة اللجاة التي كانت السيطرة عليها عسكرياً أمراً بالغ الصعوبة، لولا انسحاب القوات المسيطرة عليها وهي في معظمها كانت تتبع فصيلاً يأخذ رواتبه مباشرةً من الجيش الأردني. ثم وصل النظام بالتوازي مع ذلك إلى اتفاق خاص مع القوة الرئيسية في ريف درعا الشرقي، التي كانت تعرف بفصيل «شباب السنة»، بعد موجات من القصف الروسي الجوي التدميري، طالت بلدات في ذلك الريف بهدف إخضاع كل الأصوات التي قد ترفض ذاك الاتفاق.
أما في درعا البلد فقد طالت المعركة، وقاومت الفصائل المتمركزة هناك طويلاً تحت وابل من الغارات الروسية التي أحالت الأرض إلى جحيم في تلك الجبهة ومحيطها، وترافق ذلك مع أزمة إنسانية ضخمة، ونزوح أكثر من مئة ألف مدني نتيجة القصف العنيف الذي سوى عدة بلدات بالأرض، متجهين نحو الشريط الحدودي مع الأردن، التي أغلقت أبوابها حتى أمام المساعدات الإنسانية.
انتهت تلك المعركة بتهجير جزء من مقاتلي فصائل المعارضة وعدد أكبر من الناشطين والمدنيين نحو الشمال السوري في تموز، وتوقيع الباقين لاتفاقات تسوية برعاية روسية، ثم سيطرة النظام على الجيب الذي كانت تسيطر عليه داعش في حوض اليرموك، والاتفاق على تهجير مقاتليه إلى البادية. وهكذا بات مجمل الجنوب السوري تحت سيطرة النظام، لكنها لا تزال سيطرة مهلهلة وغير مكتملة تماماً، إذ تستمر بشكل متواتر عمليات فدائية ضد قوات النظام، ومظاهرات وأنشطة عديدة من بينها الكتابة على الجدران، على غرار تلك المحاولة الجريئة، التي كُتبت فيها عبارات ضد النظام على جدران مفرزة المخابرات الجوية في بلدة الحراك بريف درعا.

بعد معركة درعا، توجه النظام نحو التصعيد التدريجي ضد محافظة إدلب، التي تعد اليوم المعقل الأخير الذي يضم فصائل معارضة غير خاضعة بشكل كامل لسيطرة قوى إقليمية، إلا أن هذا التصعيد الذي شمل عمليات قصف وحشد عسكري، تراجع مع اتفاق سوتشي بين الرئيسين التركي والروسي خلال شهر أيلول/سبتمبر بدعم من أوروبا، التي خشيت من موجات لاجئين جديدة. ولا يزال هذا الاتفاق مستمراً، رغم الخروقات المستمرة والاشتباكات المتفرقة.
في الأسابيع الأخيرة من العام المنقضي، سيطر على المسار السياسي الجدل حول مصير اللجنة الدستورية، التي تم الاتفاق على تشكيلها بداية العام بين وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف والأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، في مقابل حضور المبعوث الدولي لمؤتمر سوتشي. لكن تراجع موسكو عن تعهداتها أدى بهذا التفرّع الجديد للمسار السياسي إلى حائط مسدود أيضاً، بينما لم تنجح تهديدات المبعوث الأمريكي أو الضغط الأممي في الأيام والأسابيع الأخيرة من العام في تغيير هذا الواقع بشكل جدّي.
الميوعة وتمييع القضايا الجوهرية كانا سمة رئيسية لكل الحراك السياسي المتصل بالقضية السورية خلال 2018، ومعهما «الممّيعة»، وهو الوصف الدارج على ألسنة سلفيين جهاديين تجاه سلفيين جهاديين أخرين أقل «تشدداً». ويمكن لنا أن نستعير الوصف هنا منهم، خاصة إذ يبدو أن الجميع، بمن فيهم هؤلاء الجهاديون الأكثر تشدداً، قد كانوا طوال العام الماضي يسعون إلى تمييع الوضع أكثر فأكثر في سوريا. جبهة النصرة التي غيرت جلدها أكثر من مرة تحاول اللعب في الهوامش المتبقية لتبني إمارة ولو لليلة واحدة في إدلب، وتخوض من أجل ذلك معارك متكررة مع الفصائل الأخرى، تستعر إحدى فصولها الدموية في هذه الأيام. وموسكو تريد تمييع كل ما يتصل بالحل النهائي، لإجبار العالم على القبول بنسخة محسنة من بشار الأسد، بينما تريد الولايات المتحدة محاربة طهران دون التورط في أي حرب. أما تركيا فهي لم تقرر بعد وضع المناطق التي باتت تسيطر عليها، ولا يبدو أنها تريد شيئاً أكثر من تلك السيطرة ومحاولة توسيعها على حساب قوات سوريا الديمقراطية. فيما انتقلت الأنظمة العربية من مرحلة الملل الدبلوماسي نتيجة «وجع الرأس» القادم من سوريا، إلى مرحلة القبول بأي شيء تعرضه موسكو بعد أن غابت واشنطن.
ليس ثمة صورة واضحة ومكتملة ميدانياً أو سياسياً في البلاد اليوم، وحتى بعد انتصارات النظام الواسعة على حطام المدن وجثث السوريين، لا يبدو أن هناك ما هو محسوم في سوريا. وإذا كانت هذه أوضاعاً قد جرت المحافظة عليها مراراً طوال السنوات الماضية، فإن الجديد فيها أن رصيد جميع القوى يوشك على النفاذ، وأنه مع وصول هذه الحالة المائعة إلى حدودها القصوى، ستجد جميع الأطراف نفسها في مواجهة هوامش أضيق للمناورة والفعل، ما سيعني ضرورة الذهاب إلى حلول نهائية، أو الدخول في صدامات واسعة لا يمكن التنبؤ بمساراتها.
لن يأتي العام الجديد بمعجزات بالتأكيد، لكن الحلول النهائية المطروحة اليوم لا يمكن أن تنجح بالنظر إلى المعطيات الراهنة، أما الصدام الواسع البديل عنها فلا يريده أحد، ولا يبقى أمام القوى الإقليمية والدولية النافذة في سوريا سوى اجتراح خرائط لحلول نهائية جديدة، أو مواصلة التمييع وترحيله إلى العام التالي، في وقت تتواصل فيه آلام السوريين التي لا تُحتمل، وتصبح أكثر فأكثر علامة على وحشة العالم وتدهوره المتسارع.