أعلنت «هيئة تحرير الشام» أمس الأحد انتهاء عملياتها في ريف حلب الغربي، بعد دخول مقاتليها إلى مدينة الأتارب الاستراتيجية، وانسحاب المئات من أبناء المدينة المنضوين في صفوف فصائل «الجيش الحر» إلى منطقة عفرين، التي كان قد سبقهم إليها مقاتلو حركة نور الدين زنكي.
وكان مقاتلو الزنكي قد خاضوا مواجهات مع هيئة تحرير الشام في مدن وبلدات ريف حلب غربي، استمرت أربعة أيام، وأسفرت في النهاية عن انسحابهم من قرية قبتان الجبل (المعقل الرئيسي للزنكي) إلى عفرين، وذلك عبر طريق جبلي ضيّق، وهو ما حال دون تمكنّهم من اصطحاب أسلحتهم الثقيلة والمتوسطة، التي استولى عليها عناصر «تحرير الشام».
وقد أسفرت مجمل العمليات التي استمرت خمسة أيام عن مقتل ستة وإصابة نحو عشرين مدنياً في ريف حلب، بالإضافة إلى مقتل سبعة عشر من مقاتلي عدة فصائل معارضة مناوئة لهيئة تحرير الشام، توزعوا بين ريف حلب الغربي وريف إدلب الجنوبي، الذي شهد أيضاً اشتباكات متقطعة بين فصائل منضوية في الجبهة الوطنية للتحرير وهيئة تحرير الشام.
يقول الناشط السياسي المحلي أحمد رسلان إن «عملية هيئة تحرير الشام الأخيرة، التي أسفرت عن إنهاء ثلاثة فصائل معارضة، لم يكن الهدف منها الإقصاء بحد ذاته كما جرت العادة في اعتداءاتها السابقة على الفصائل، بل كان الهدف الرئيسي منها في هذه المرة السيطرة على مدينة دارة عزة الاستراتيجية، المشرفة على معابر وطرق تجارية في المنطقة، والمحاذية لمنطقتي عفرين وريف حلب الشمالي اللتين تسيطر عليهما فصائل معارضة على عداء مع الهيئة. وبعد استكمال الأخيرة سيطرتها على دارة عزة والقرى والبلدات المحيطة بها، بذريعة القبض على مطلوبين من حركة الزنكي متورطين بقتل عناصر لها، ونتيجة لعدم وضوح موقف الجبهة الوطنية للتحرير، التي يُفترض أن حركة الزنكي فصيلٌ منضوٍ فيها، تشجّعت الهيئة واتجهت إلى مدينة الأتارب أيضاً بغية السيطرة عليها».
وكانت هيئة تحرير الشام قد توجهت إلى الأتارب وحاصرتها مساء أول من أمس السبت، واستهدفتها بالرشاشات الثقيلة لعدة ساعات، وهو ما دعا وجهاء المدينة لفتح قناة تواصل مع الهيئة، لتجري بعد ذلك مفاوضات قضت بدخول المدينة سلمياً، وفتح طريق للراغبين بالخروج منها إلى منطقة عفرين.
صبيحة الأحد، بدأت أرتال مسلحي الهيئة بدخول الأتارب بالتزامن مع مغادرة مئات من عناصر فصائل الجيش الحر فيها وعائلاتهم، إضافة إلى ناشطين إعلاميين وسياسيين وعاملين في الشأن الإنساني، لتستوقف الهيئة عدة أرتال من الخارجين نحو عفرين بحجة وجود مطلوبين فيها، وهو ما وصفه ناشطون بأنه غدرٌ وخروجٌ على الاتفاق، الأمر الذي دعا بعضهم للاختباء خوفاً من الوقوع في يد عناصر الهيئة. وقد خضعت الأرتال للتفتيش والإيقاف عدة ساعات، قبل أن تسمح لها الهيئة بمتابعة طريقها نحو عفرين.
وينص الاتفاق الذي توصل إليه الطرفان على حلّ فصيلَيّ ثوار الشام وبيارق الإسلام العاملين في الأتارب وتسليم سلاحهما، مع بقاء السلاح فقط في يد المقاتلين الموجودين على خطوط التماس مع قوات النظام السوري. وتعهدت «تحرير الشام» بحسب الاتفاق بعدم ملاحقة أي مقاتل من الفصيلين، وتحويل القضايا الشخصية والجنائية إلى القضاء. كما قضى الاتفاق بأن تتبع الأتارب أمنياً وعسكرياً لـ «تحرير الشام»، بينما ستكون «حكومة الإنقاذ» العاملة في مناطق سيطرة الأخيرة مسؤولة عن الأمور الخدمية والاقتصادية والقضائية.
بعد سيطرتها على مدينة الأتارب، أغلقت «تحرير الشام» معبري الغزاوية والمنصورة الواصلين بين ريف حلب الغربي ومناطق شمال وشمال غرب حلب، الخاضعة لسيطرة الفصائل المنضوية في عمليتي درع الفرات وغصن الزيتون، فيما دارت اشتباكات محدودة بين مقاتليها ومقاتلي فصائل الجبهة الوطنية للتحرير في محيط قرية دير بلوط جنوب بلدة جنديرس، في أقصى ريف حلب الشمالي الغربي.
وتُعَدُّ الأتارب من أبرز المدن التي شاركت في الحراك الثوري ضد النظام السوري غرب حلب، وكذلك ضد هيئة تحرير الشام التي حاولت اقتحام المدينة سابقاً عدة مرات، إلا أن الأهالي كانوا يخرجون في تظاهرات ضدها ما كان يدفعها إلى الانسحاب. كما أن المدينة تعرضت خلال سنوات الثورة لعدد كبير من غارات طائرات النظام وروسيا، التي خلّفت عشرات الشهداء والجرحى.
يقول الناشط السياسي المحلي عبد الرحيم عثمان إن «ما جرى لم يكن في الواقع إلا مرحلة من مراحل تطبيق مخرجات مسار أستانة واتفاق سوتشي، التي تنصّ على فتح المعابر والطرق الدولية، إذ يبدو أن تركيا لم ترَ في أي فصيل القدرة على فتح وتأمين طريقي حماة -حلب، وحلب -اللاذقية، فأولت المهمة في النهاية لتحرير الشام»، مستدّلاً على ذلك بعدم انخراط فصائل الجبهة الوطنية للتحرير في المعارك، التي يلقى بعضها دعماً تركياً واسعاً.
كما يشير عثمان إلى أن «فصائل درع الفرات وغصن الزيتون الموجودة في منطقتي عفرين وريف حلب الشمالي، كانت تنوي القدوم لإسناد مقاتلي الزنكي، وتجمّعَ مقاتلوها فعلاً في جبل سمعان قرب ريف حلب الغربي حيث كانت تدور فصول المعركة، إلا أنهم لم يتلقوا إشارة من تركيا على ما يبدو، ففضلوا عدم الدخول حتى لا يتحملوا تبعات التصرف المخالف لإرادة الداعم».
ويتفق الناشط أحمد رسلان مع الاستنتاج الذي يذهب إليه عثمان، مضيفاً أن «التزام قوات النظام باتفاق سوتشي، وتراجع وتيرة القصف والعمليات تجاه المناطق الخارجة عن سيطرتها منذ توقيعه، هي أمورٌ تدلّ على أن هناك موافقةً على إفساح المجال لهيئة تحرير الشام كي تكون طرفاً في تنفيذ المخطط الذي توصّلت إليه كل من روسيا وتركيا وإيران. وهو ما يؤكده أيضاً عدم تدخل نقاط المراقبة التركية، التي لا يبعد بعضها أكثر من مئات الأمتار عن مناطق المواجهات».
ويرى رسلان أن الهيئة «استغلّت إتاحة الفرصة لها من قبل اللاعبين الدوليين والإقليميين، من أجل إغلاق الطرقات في وجه أي مقاتل ينوي العودة من عفرين وريف حلب الشمالي حيث السيطرة التركية المباشرة، إلى غرب حلب وإدلب. إذ باتت تتحكم بالمنطقة الفاصلة بين عفرين وإدلب كلّها، بِدءاً من قلعة سمعان وصولاً إلى بلدة أطمه الحدودية، كما أنها استحوذت على مصدر دخل جديد، وهو طريق النفط ومشتقاته، القادم من ريف حلب نحو مناطق سيطرتها».
بعد القضاء على «الزنكي» وخروجها من معادلة الشمال السوري، تتوجّه أنظار «تحرير الشام» إلى ريف إدلب، وخاصة أريحا ومعرة النعمان الواقعتين على طريقي حلب-اللاذقية وحلب-حماة، للقضاء على حركتي صقور الشام وأحرار الشام المنضويتين في الجبهة الوطنية للتحرير، إذا أنها ستستفيد على الأرجح من الضوء الأخضر الذي تشعر أنها حصلت عليه، للقضاء على كل من يزاحمها السيطرة على الطرقات الدولية. وفي حال سارت الأمور في ريف إدلب على النحو الذي سارت فيه في ريف حلب الغربي، فإن هذين الفصيلين لن يكون أمامهما سوى تسليم أريحا ومعرة النعمان، أو مواجهة مصير حركة نور الدين الزنكي نفسه.
تتجه هيئة تحرير الشام لتكون اللاعب الأبرز وربما الوحيد في إدلب وريف حلب الغربي، وفي الوقت الذي تحاول فيه القضاء على جميع خصومها المحليين تباعاً، فإنها تثبت صدق نواياها في الحفاظ على التفاهمات والمصالح الدولية، عبر الالتزام الفعلي بمخرجات اتفاق سوتشي، الذي كانت قد رفضته في خطابها المعلن.
وإذا كانت هيئة تحرير الشام قد أعلنت رفضها لاتفاق سوتشي ومخرجاته، إرضاءً لتيار الصقور الذي يتزعمه أبو اليقظان المصري في صفوفها، فإن المفارقة أن هذا التيار كان على رأس الهجوم الذي أفضى إلى السيطرة على ريف حلب الغربي، والذي لا يعدو كونه خطوة على طريق تنفيذ التفاهمات الدولية والإقليمية الخاصة بمستقبل الشمال السوري.