مدخل

عند الحديث عن الأسطورة السورية المعروفة بـ «حرب تشرين التحريرية»، يتجاهل النظام السوري في خطابه وإعلامه أمراً بالغ الأهمية، وهو أن «جيشه الباسل» قد فشل في تحرير معظم الأراضي السورية التي كانت إسرائيل قد احتلتها في حرب حزيران 1967. وبعد حرب تشرين 1973، بقيت في قبضة إسرئيل ستّ قرى مأهولة بالسكان السوريين في أقصى شمال الهضبة المحتلة، هي مجدل شمس وبقعاثا ومسعدة وعين قنية والغجر وسحيتا تمّ اخلاء قرية سحيتا وتهجير سكّانها قسريّاً على يد جيش الاحتلال عام 1974، وتوزيعهم على القرى الخمسة الأخرى، وذلك بعد مصادرة أراضيهم التي كانت ضمن المنطقة العازلة منزوعة السّلاح بموجب اتفاق فصل القوات بعد حرب 73.، بالإضافة إلى مئة وتسع وستين قرية تم تهجير أهلها عام 1967، وفوقها نحو مئة وواحد وسبعين مزرعة أيضاً هنا خريطة مفصّلة للجولان المحتل، وقائمة بقراه ومزارعه قبل الاحتلال وبعده..

أذكر قصّة رواها أحدُ كِبار السن في قريتي، مجدل شمس، وهي أنه رافق أخاه، الذي كان يعمل سائق شاحنة، إلى جوار الشريط الفاصل في يوم ذكرى الحرب «التحريرية»، كي يشهدوا احتفالاً أقامه النظام في مدينة القنيطرة، رفع خلاله حافظ الأسد العلم السوري على مبنى البلدية فيها. وعندما اقترب الأخوان، إبنا بلدة مجدل الشمس السورية، إلى الحدود وحاولا مخاطبة المحتفلين على الجانب الآخر، صرخ فيهما الجنود السوريون وأبعدوهما إلى الوراء، ثم صرخوا في وجه المحتفلين أيضاً، طالبين منهم ألّا «يتكلّموا مع الإسرائيليين بأي شكل من الأشكال».

وقد يطول الحديث عن تغييب نكبة الجولان المحتل وتهميش قضية نازحيه، وتَرْكِ الذين ظلوا فيه لمصارعة الاحتلال وحدهم، لكن أبرز نتائج هذا التغييب كانت إقصاء قضية ومعاناة أبناء الجولان على الطرفين من الوعي الجمعي السوري، ومن الساحة السياسية السورية أيضاً. ويمكن القول إن قضيّة النازحين الجولانيين الذي يصل عددهم اليوم إلى أكثر من نصف مليون شخص، وقضيّة الأسرى السّوريين من أبناء الجولان المحتل في السجون الإسرائيلية، هما خير مثال على ذلك الإهمال والتغييب، وخير مثال على نِفاق النظام «الممانع المقاوم» قدّمت قرى الجولان الصغيرة عشرات الأسرى والمعتقلين أثناء النضال ضد الاحتلال، منهم من قضى حياته وراء القضبان حتى استشهد، وأذكر اثنين منهم: الشهيد سيطان الولي والشهيد هايل أبو زيد. ولم يسعَ النظام لإدراج أسماء أسرى الجولان السوريين في أي صفقة تبادل، وتم تركهم ليواجهوا معاناة السجن والاعتقال وحدهم مع ذويهم..

في هذه المادّة، أودُّ أن أحاولَ التعريف بالمجتمع السوري في الجولان المحتلّ، بشكل أوسع من الكليشيهات والطرح النمطي المعتاد، السائد في الحالات النادرة التي يُطرح فيها هذا الموضوع أصلاً، والذي يعتمد على سردية الصمود والمقاومة في وجه الاحتلال الإسرائيلي، التي استغلها النظام كثيراً لتسويق نفسه، بينما لم يحرك ساكناً لتحرير الجولان فعلاً، ولا لدعم كفاح أبنائه ضد الاحتلال.

ولا يعني هذا أن سردية الصمود والمقاومة في وجه الاحتلال الإسرائيلي ليست حقيقية، بل هي في الواقع صحيحة وبالغة الأهمية، كما تعكسها أغانٍ مثل زهر الرّمان أو يا الجولان وياللي ما تهون علينا للفنان سميح شقير. لكن هذه السردية بنسختها الشائعة تغفل كثيراً من التفاصيل الاجتماعيّة المثيرة للاهتمام حول هذا المجتمع السّوريّ النائي والصغير (25 ألف نسمة اليوم)، بالاضافة إلى كونها سرديّة باتت قديمة، تتحدّث فقط عن زمن ما قبل الثورة السورية عام 2011.

تقول فكرتي الأساسية التي أودّ طرحها في هذا النص، إن الثورة السورية في الوطن أحدثت صدىً ثورياً عميقاً غيّرَ المجتمع الجولاني بشكل جذري، فلا عودة بعدها إلى ما كانت الأوضاع قبلها. ولأنني من قرية مجدل شمس، سأكتبُ بشكل خاص عنها وعن التغييرات والتفاعلات التي طرأت على تركيبة مجتمعها وديناميكياته منذ قيام الثورة في الوطن، وعلى هذا أعتذر من باقي القرى والشرائح الجولانية.

إذا قارنّا المجتمع السوري في الجولان المحتل مع المجتمعات العربية الأخرى الموجودة في الأراضي المحتلة (الداخل الفلسطيني أو أراضي 48، والضفة الغربية وقطاع غزة)، نجد أن المجتمعات الفلسطينية ككل لم تتفاعل مع أحداث الربيع العربي، لا على الصعيد السياسي ولا على صعيد المظاهرات والاحتجاج ضد الحكم القائم نجد فقط بعض المظاهرات التي انطلقت في قطاع غزة المحاصر في بدايات الربيع العربي، ولكن سرعان ما خمدت هذه المظاهرات التي كانت تشكل استمرارية للعلاقة مع باقي الشعوب العربية بعد أول سنتين من الثورة في تونس.، أي أن «العدوى» لم تصل إلى فلسطين. ويمكن تعليل عدم التفاعل هذا بعدة طرق، لكنه بلا شك دليلٌ على النجاح الإسرائيلي في عزل الفلسطينيين عن امتدادهم العربي.

أما في حالة الجولان السوري المحتل، فإننا نرى تفاعلاً كبيراً  _وأريد هنا أن أسميه حتى اشتراكاً فعلياً_ مع الربيع العربي بشكل عام، ومع الثورة السورية بشكل خاص، ذلك مع أنّ القرى السورية في الجولان قد تمّ عزلها بشكل شبه كلي عن وطنها السوري، وعن امتدادها العربي. ويدل هذا بوضوح على أنه حتى بعد نصف قرن من الاحتلال الإسرائيلي، والتنقل والعيش «جغرافياً» كالفلسطينيين، يبقى أهل الجولان سورييّ الهوية، سياسياً وثقافياً.

مجدل شمس قبل الثورة

تقطن أغلبية درزية بالإضافة إلى أعداد أقل من العلويين والمسيحيين في القرى الخمسة المأهولة من الجولان المحتل اليوم، وقد لعب تموضع هذه القرى الجبلي في أقصى شمال الهضبة على سفوح جبل الشيخ، إلى جانب جهود أعيانها في الضغط على السكان لعدم النزوحيتحدث كبار القرية دائماً عن دور الشيخ أحمد طاهر أبوصالح وكمال كنج أبوصالح في إرجاع قسم من الناس الذين هربوا من هول الحرب إلى قرية مجدل شمس، ويعود الفضل لهم ببقاء القرية حتى اليوم. ولكنهم لم ينجحوا في إرجاع الجميع وإقناعهم بعدم ترك القرى، بحيث أن قسماً كبيراً منهم هُجّرَ ويقطن اليوم في مناطق مختلفة في سوريا. هذا التهجير الجزئي لهذه القرى أدى الى خلق مأساة انسانيّة تتمثّل بالأسر المشتتة بين جنبي الشريط الفاصل، وتجسد منطقة «تلّة الصّيحات» أو «وادي الدّموع» هذه المأساة، حيث يتواصل أبناء العائلة الواحدة عبر «صيحات» بين التلتين اللتين يفصل بينهما الشريط.، دوراً رئيسياً في بقاء جزء منهم وعدم إفراغ هذه القرى ثم تدميرها.

مجدل شمس، قريتي، هي قرية ذات أغلبيّة درزية، مع أقلية مسيحية أرثوذكسية صغيرة. وقد كان المجتمع في مجدل شمس منذ إقامتها على سفوح جبل الشيخ في القرن السّابع عشر مجتمعاً درزياً هرمياً تقليدياً، يسير بإمرة الشّيوخ وفتاويهم، وتُقمع فيه النساء ويسود فيه اللباس المحتشم والضوابط والمحرمات التي يفرضها الدين. وقد استمر الأمر هكذا بعد الاحتلال الإسرائيلي عام 1967، مع أنّ المجتمع واكب الحداثة والتكنولوجيا شيئاً فشيئاً مع تقدم السنين.

أمّا بالنسبة للوضع القانوني لأهل الجولان، فبعد أن أعلنت إسرائيل ضمّه لـ«أراضيها» عام 1981، وقامت بتنفيذ ذلك عام 1982، ساد القانون المدني الإسرائيلي على أهل الجولان، بعد أن كان يسري القانون العسكري الإسرائيلي عليهم منذ الاحتلال. وقد تصدّى أهل الجولان لقانون الضمّ بإعلان إضراب وعصيان مدني كبير، وقف فيه ثلاثة عشر ألف سوريّ وسوريّة ضد الكيان الإسرائيلي وجيشه، الذي أراد أن يفرض بالقوة جنسيته على أهل الجولان، وأن يفرض تجنيد أبنائهم في جيش الاحتلال.

استمرت المواجهات طوال نصف سنة، قامت إسرائيل خلالها بحصار قرى الجولان وتجويعها وإعلانها مناطق عسكرية مغلقة بهدف إخضاعها للقرار، لكن ذلك كان بلا أي نجاح. وفي هذا الإضراب، الذي يسمى إضراب الكرامة أو الإضراب الكبير، قام الجولانيون بجمع أوراق الجنسيات الإسرائيلية وإحراقها في ساحات قراهم، على مرأى ومسمع جنود الاحتلال.

في نهاية المطاف، خضعت إسرائيل لمطالب الجولانيين عام 1982، وسحبت جيشها وقرار التجنيس وقرار التجنيد الإجباري في الجيش، لكنّها قامت بضم الجولان رسمياً لأراضيها «غير المحتلّة» بحسب تعريفها. تحت هذه الظروف، وتحت الرفض التام للجنسية الإسرائيلية من قبل سوريي الجولان، قامت إسرائيل بتعريف السكان السوريين قانونياً على أنهم «مقيمون دائمون» وهو تصنيف إسرائيلي جديد، اخترع فقط ليطبق على السوريين في الجولان المحتل، وعلى الفلسطينيين في شرق القدس. ويقع هذا التصنيف بين خانة «المواطن الإسرائيلي» و«المقيم المؤقت» الذي هو السائح أو الطالب أو ما شابه. ويجب عليَّ هنا أن أضيف أن هذا الوضع الذي وصفته لا يشمل سكان قرية الغجر، الذين يخضعون لأوضاع خاصة مختلفة عن أوضاع سكان مجدل شمس ومسعدة وبقعاثا وعين قنية.. أي أنه تمت مصادرة وثائق السفر والهويات السورية منا، وإعطاؤنا وثائق «بإشراف» إسرائيلي، ليست جواز سفر إسرائيلياً بل هي فقط وثيقة سفر، مكتوب فيها «غير معرّف» (undefined) في خانة الجنسيّة (nationality). ويحمل هذه الوثيقة سوريو الجولان وفلسطينيو شرقي القدس فقط، وتسمّى في اللسان المحلي «ليسيه باسيه» تُعدّ الـ«ليسيه باسيه» من أسوأ وثائق السفر عالمياً، بحيث يحتاج الجولانيّ لطلب «فيزا» أو تأشيرة دخول لكل مكان يريد السفر إليه، إضافة إلى عدم حيازته على حقوق المواطن الإسرائيلي، فيمنع من التصويت والانتخاب والتنقّلبحرية، إضافة إلى قوانين أخرى تسهّل سحب هذه الإقامة وتهجير صاحبها من بيته في الجولان إلى سوريا بلا محاكمة جدية عند إخلاله بأمن إسرائيل، أو عند ثبوت تهم أخرى عليه. وقد أثّرت هذه الوثيقة في الوعي الثقافي والفني الجولاني، فتمحورت حولها كثيرٌ من الأعمال الفنية والموسيقية، منها البوم يحمل اسم «ليسيه باسيه»، أطلقته الفرقة الجولانية الصاعدة، توت أرض.، وهو اللفظ الفرنسي لمصطلح وثيقة سفر.

على صعيد العلاقات مع الاحتلال ومع سوريا، فكما ذكرت سابقاً، كان ولا يزال هنالك موقفٌ عامٌ وإجماعٌ على عدم التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي، إذ يحتفل الجولانيون في جميع الأعياد والمناسبات الوطنية السورية (عيد الجلاء ويوم الشهداء)، وكان يُباع في كل سنة التفاح الجولاني إلى سوريا عبر معبر القنيطرة. كذلك كان كثير من طلّاب وطالبات الجولان يذهبون إلى دمشق للدراسة في جامعتها مجاناً، بتصريح خاصّ وفريد من نوعه، بموجب اتفاقيّة بين إسرائيل والدولة السورية، تم إبرامها عام 1989 بتنسيق ووساطة الصّليب الأحمر الدوليّ. أي أن العلاقات عامة بين الجولانيين والدولة والنظام الحاكم في سوريا كانت مستقرة وذلك باستثناء عن بعض الأمور، ومنها قضية الأسرى الجولانيين في سجون الاحتلال، التي أهملتها الدولة السورية وغيبتها قصداً، ويظهر الغضب الكبير على الدولة السورية في رسائل الأسرى..

الثورة السورية والشرخ المجتمعي

جاءت الثورة السورية عام 2011 لتحرك الشارع الجولانيّ كما لم يتحرك يوماً، فمنذ أيامها الأولى، بدأت النقاشات والجدالات والمناوشات. كنتُ وقتها في المدرسة، وأذكر جيداً أن الثورة كانت الشيء الوحيد الذي نتكلم عنه يوميّاً في أروقتها. كان لدي وقتها أمل كبير بسوريا ديموقراطية حرة، تستطيع تحرير بلدتي وإعادتها إلى وطنها الطبيعي، ومحو الحدود الشائكة التي أراها يومياً من شباك منزلي.

منذ الأيام الأولى للتظاهرات المناهضة للنظام في سوريا، صدر بيان حمل تواقيع سوريين من الجولان المحتل تحت عنوان: أنتم الصوت ونحن صداه. أضع هنا مقتطفات من البيان، كي نلقي بعض الضوء على الخطاب المعتمد لشباب وصبايا الثورة في الجولان المحتل:

يا شعبنا السوري العظيم،

(…) ولأننا جزء لا يتجزأ مِن وطننا السوري ونسيجه الاجتماعي، لنا ما له وعلينا ما عليه، نعتقد جازمين (…) أن كل مَن يعتدي على شعبنا السوري، قتلاً أو بطشاً أو اعتقالاً أو تعذيباً أو تشريداً أو نهباً هو بمثابة عدوّ، لا يختلف عن الاحتلال الإسرائيلي قيد أنمله، كائناً من كان هذا الأحد!

وجودنا تحت الاحتلال الإسرائيلي ليس معناه بأي حال وقوفنا على الحياد. إننا في مطلق الأحوال امتداد طبيعي وحتمي لشعبنا السوري، ولشرائح واسعة منه، تعتبر أنّ استمرار الوضع الراهن وتكريسه أمراً واقعاً، كان له كل الأثر في الوصول إلى الحضيض الذي نحن فيه، وأنّ إسرائيل كانت المستفيد الأكبر من كل ذلك.

إن واجبنا الوطني والإنساني والأخلاقي يحتم علينا الانحياز الكامل لشعبنا ضد جلاديه، وأن نكون صدىً صدّاحاً لصوته (…)

وإذ نتخذ هذا الموقف، فإنه ليس إلا تعبيراً صادقاً عن التصاقنا بهموم شعبنا السوري وتطلعاته المشروعة نحو استعادة حريته ومكانته التي تليق به بين الأمم، وما هو إلا التزام بروح «وثيقتنا الوطنية»  الوثيقة الوطنية هي بمثابة دستور اجتماعي كتبه الجولانيون على أنفسهم في الإضراب الكبير عام 1982، وينصّ على التشبّث بالهوية السورية ومقاومة الاحتلال ورفض الجنسية الإسرائيلية والمشاريع الإسرائيلية كلّها. هذا الرابط لقراءة الوثيقة كاملة. (…)

نعلم يقيناً ما قد تُشكل هذه المبادرة لسكان يعيشون في أرض محتلة مِن حساسية؛ (…) لكن إبقاءنا تحت الاحتلال ليس معناه أن نكون شياطين خُرس على ما يمارسه النظام السوري بحقّ شعبنا مِن انتهاكات. فالاحتلال والقهر هنا صنوٌ للذل والبطش والقمع هناك (…)

قام المئات من أبناء وبنات الجولان بالتوقيع على هذا البيان، معلنين ومعلنات موقفهم المؤيد لثورة شعبهم ضد بشار الأسد. ثم بدأ شباب وصبايا الثورة بتنسيق اعتصامات في كل جمعة، كما في سائر أرجاء سوريا، وكانت الجمعة تُسمى بالاسم الذي تعلنه التنسيقيات وصفحات الثورة على فيسبوك. وسرعان ما اصطدم الحراك الداعم للثورة بالنقد اللاذع والعنف من جهة المؤيدين للنظام في الجولان، الذين بدأوا أيضاً بالتجمّع وتكوين «كتلتهم».

هكذا أصبح هناك كتلة معارضة للنظام، تضم رجالاً ونساءً فيهم نسبة وازنة في عمر الشباب، أغلبيتهم من العلمانيين والعلمانيات، أو لنقل من الرافضين للبنى الاجتماعية المحافظة التقليدية، وتضمّ أيضاً أغلبية الأسرى المحررين من سجون الاحتلال، وكثيراً من خريجي الجامعات والأكاديميين والمثقفين والفنانين. في حين ضمّت الكتلة المؤيدة للنظام في الغالب أشخاصاً «تقليديين محافظين اجتماعياً»، تتكون القوة الفاعلة الرئيسية فيهم من رجال الدين الدروز ورؤوس المشيخة في الجولان المحتل، مع حضور ضعيف للأسرى المحررين والنساء هذا التقسيم هو تقسيم عام غير دقيق، ومن أجل صياغة تقسيم دقيق ينبغي أن نعيد تعريف «التقليدي والمحافظ» وتحديد معنى المحافظة السياسية والاجتماعية في السياق الجولانيّ، وهو ما لا تتسع له هذه المقالة التقديمية، بل إنه قد يحتاج مقالة كاملة مستقلة..

على المستوى الفردي، واجه كل من وقّع على البيان أعلاه، وكل من اشترك في فعاليات دعم الثورة وعبّر عن موقفه المعارض للنظام، تعنيفاً وقمعاً تراوح من السبّ والذّمّ والعنف اللفظي وصولاً الى العنف الجسدي والتهديد، وفي بعض الأحيان المقاطعة من قبل العائلة أو المتدينين فيها.

أما جماعياً، فقد واجه الحراك المعارض في مجدل شمس قمعاً شديداً، أسفر عن أوّل مواجهة عنيفة بين المعارضة والموالاة يوم 23 كانون الأول 2011. إذ لم يستطع أنصار النظام أن يطيقوا استمرار اعتصامات أيام الجمعة في ساحة الشهداء في مجدل شمس، فاعترضوا مسيرة المعتصمين المنحازين للثورة من ساحة الشهداء إلى ساحة سلطان باشا الاطرش في مركز مجدل شمس، وهتفوا صائحين «الله سوريا بشار وبس»، بينما رُدَّ عليهم بهتاف «الشعب يريد إسقاط النظام»، فعلى صوتهم: «يا خاين ويا جبان بعتوا الوطن بالدولار»، بينما صاح المشاركون في المسيرة الداعمة للثورة «حرية، حرية، حرية».

في هذا الفيديو أدناه توثيقٌ لذلك اليوم، وتظهر فيه أيضاً بوضوح معالم من التقسيم الذي ذكرتُهُ أعلاه حول السمات العامة للكتلتين المعارضة والمؤيدة:

,www.youtube.com/watch?v=CWrLDQXmh0s align:center]

منذ ذلك اليوم في أواخر العام 2011، راح الشرخ المجتمعي في مجدل شمس يتوسع أكثر فأكثر، ومعه القمع للحراك الداعم للثورة وناشطيه، عبر التخوين والشيطنة والتهديد بالقتل، وكتابة التقارير الأمنية للمخابرات السورية أيضاً. وقد يبدو الأمر غريباً للوهلة الأولى، إذ كيف يخاف قاطنٌ في الجولان المحتل من أجهزة النظام الأمنية؟ ويتعلق هذا الخوف بعدة أمور، أهمها مأساة العائلات المشتتة، إذ يستعمل النظام أفراد عائلاتنا النازحين إلى الداخل السوري لإسكاتنا وإرهابنا، وقد تسبب نشاط كثيرين ضد النظام في الجولان، باعتقال وتعذيب أقارب لهم في مناطق سيطرة النظام.

استمر العنف حتى كُسرت شوكة الحراك بعد عدة اعتداءات متكررة وخطيرة، فاعتزل المتظاهرون الساحة العامة في مجدل شمس منذ 2013، بالتزامن مع الإحباط العام وتراجع الحراك السلمي في سوريا بشكل عام، ليحتل الموالون بمساندة رجال الدين الفضاء السياسي العام في القرية.

وبعدها تفشّى هذا الشرخ المجتمعي وكانت له آثاره على جميع المستويات والبنى المجتمعية الجولانيّة، حتى كاد يدمر الحركة الوطنية المناهضة للاحتلال، بعد أن شلّ فعاليتها الثقافية والسياسية المستقلة التي كانت مستمرة لعدة سنواتعلى سبيل المثال، كان أهالي الجولان المحتل يقيمون سنوياً مخيماً صيفياً تحت مسمّى «مخيم الشام»، يُرفع فيه العلم السوري ويُغنّى فيه نشيد «حماة الديار»، وقد ردّت سلطات الاحتلال على هذا المخيم بتنفيذ اعتقالات أكثر من مرة. وقد تم إيقاف هذا المخيّم عام 2011 بعد نقاش حاد وعنيف دار بين الأهالي حول الموقف من الأحداث في الوطن، ما أدى إلى انقسام كبير بين الأهالي طال شتّى فعاليات المخيم. وفي نهاية المطاف تم إيقاف المخيم نهائياً حتّى الآن. ويشكل هذا المخيّم والفعاليات الأخرى المشابهة له جزءاً مهمّاً من الوعي الوطني السوري لدى أبناء وبنات الجولان المحتل، وإيقافه خلال السنوات الماضية أدى إلى تراجع الارتباط بالهوية السورية لدى كثيرين وكثيرات في عمر الشباب.، وهو ما أعطى الفرصة لإسرائيل كي تحاول ملء الفراغ الناجم عن هذا الشلل، مستغلة التراجيديا والمذبحة السورية لتسويق نفسها كـ«ديمقراطية وحيدة في الشرق الأوسط»، مستهدفةً الجيل الجديد بهذا الخطاب، فبدأت بإدخال مخططات «الخدمة المدنية» التي تمهد للخدمة في جيش الاحتلال، ومؤسسات أخرى تطبيعية بغطاء «ثقافي»، مستغلة الركود الثقافي الناجم عن الشلل في المؤسسات الوطنية الفاعلة، وذلك في محاولة لإتمام ما لم تستطع إتمامه عام 1982.

مجدل شمس ما بعد الثورة

احتلّت الثورة السورية مكانة «الفكرة» من الوعي الجولانيّ، حتى في وعي أولئك الذين ليسوا ناشطين وناشطات. والفكرة (بالمفهوم الاصطلاحي) هي الشكل الأكثر جذرية، الذي تستطيع أن تحتله ثورة ما. لقد عاش أبناء الجولان الثورة من بعيد، أعني بعيداً عن القتل والدمار، لكنهم عاشوها وما زالوا يعيشونها في صلبها، بكل ما يتعلق بها من أفكار ومفاهيم جوهرية، وما قد ينبثق عن هذه المفاهيم. ويكفي أن نفهم هذه الصيرورة، كي نفهم عالم ما بعد 2011 كما يعيشه أبناء وبنات الجولان المحتل اليوم.

إن مكانة الثورة العميقة كفكرة ونهج حياة، إضافة للانقسام الذي وصفتُهُ أعلاه، ووقوف رجال الدين مع النظام، والشلل في المؤسسات الوطنية التقليدية، وبشاعة المجازر وسيل الدماء الذي بات مشهداً يومياً يصلنا من الوطن، كلها عوامل اجتمعت فأنتجت تفكيكاً (أو انهياراً) جذرياً لبنى اجتماعية تقليدية متّبعة منذ مئات السنين. وأهم هذه البنى والديناميكيات التي تفككت هي «مونوبول» أو احتكار رجال الدين للساحة العامة والقيادة في مجدل شمس.

يرجع هذا التفكك إلى عوامل متداخلة، منها موقف رجال الدين المعادي للثورة، واحتلالهم للحيز الوطني العام، وجعل كل مناسبة وطنية مناسبة للاحتفاء «بالدكتور السيد الرئيس القائد بشار الأسد»، وقمعهم الشديد للمعارضين، ولكن أهمها كان تعارض مواقفهم مع كل ما أصبحت الثورة تمثله كفكرة مجردة في عقول كثير من الجولانيين والجولانيات، كحقوق النساء والحريات الجنسية.

أصبح كل شيء ممكناً في مجدل شمس بعد الثورة السورية، لا مسلّمات ولا ضوابط صارمة، حتى أن الهوية الوطنية التي كانت راسخة ومفهومة ضمناً، أصبحت محطّ نقاش وتداول بين شباب وصبايا الجيل الجديد الذي تفتح وعيه على عالم ما بعد الثورة.

في مجدل شمس ما بعد 2011، لا سلطة حقيقة لشيوخ الدين، ولا إلزام بأي من قرارتهم أو مواقفهم. إن مواقف الهيئة الدينية وممارساتها القمعية، على خلفية كل الوضع القائم-الجديد، قد ولّدت ردات فعل «سيئة» تجاهها، وإرادة قوية بالاستقلال عن سيطرتها، ما أدى إلى «انفتاح» وممارسة عمومية لما كان يُحسب تحت خانة «الممنوعات» أو «المحرمات» في مجدل شمس، بحيث نرى اليوم عشرات حوانيت الكحول وعشرات البارات فيها، بالإضافة إلى ظواهر اجتماعية أخرى تخص حريات النساء واللباس والزواج خارج الطائفة، وحتى الحريات الجندرية والجنسية قام بعض الشباب والصبايا في الجولان السوري المحتل بالاشهار بمثليتهم/ن أو بهويّتهم/ن المتحوّلة جنسيّاً، على العلن بعد عام 2011، وهو حدث له أكثر من جانب ومسبب، ولكني أراه واحداً من سلسلة أحداث بدأت عام 2011، وصلت بنا الى هذا «الانفتاح» المفاجئ والسريع..

لا يمكن فصل انهيار المسلمات والممنوعات وإعادة تعريفها، و«الانفتاح» السريع الذي جاء بعدها، عن حدث الثورة السورية في السياق الجولانيّ. وختاماً، أريد أن أصف قصة أول اعتصام نِسويّ حقيقي في مجدل شمس، وهو قصة الجمعة الوحيدة التي خرج مسماها عن مسمى الجمعة الذي تبنته باقي تنسيقيات سوريا.

في تاريخ 24 آب عام 2012، قرر الحراك المناصر للثورة في مجدل شمس أن يسمي تلك الجمعة «اغتصبوكِ لأنّ الثورة أنثى»، وذلك تأكيداً على الربط بين الثورة السياسية وقضايا التحرر الجندري والجنسي. وكانت أحدى اللافتات التي رُفعت إلى جانب أعلام الثورة تقول «إذا كانت رجولتك مشروطة بغشاء بكارتي فهي حتماً معدومة بزواله (الجولان المُباع/المحتل)». ويدلّ ذاك الاعتصام على استيعاب عميق لمفاهيم الثورة العامة، وعلى رغبة في السير بها إلى «المرحلة التالية». ومن المثير للاهتمام أن الانتقاد اللاذع له كان مزدوجاً: ذكوري وتشبيحي معاً.

ولكن، في مجدل شمس ما بعد الثورة، تقترب المرأة من امتلاك استقلالها أكثر من أي زمن مضى في التاريخ المحلي، وتكتظ البارات أيام الخميس، وتكاد سلطة رجال الدين والهيئة الدينية لا تعني إلا داعميها، ويكاد الجيل الجديد يخلو من مؤيديّ النظام والعسكرة، فقد أصبح كل شيء محطاً للنقاش والمساءلة، وهي الحالة التي أستطيع أن أصفها بأنها حالة «ما بين الضياع والحرية».