تسارعت التحركات الرسمية العربية لإعادة العلاقات مع النظام السوري خلال الأشهر الماضية، وكان آخرها إعلان دولة الإمارات إعادة افتتاح سفارتها رسمياً في دمشق نهاية الشهر الفائت. وقبلها بأسابيع كانت القاهرة قد شهدت لقاءً رسمياً بين علي مملوك رئيس مكتب الأمن الوطني في النظام السوري وعباس كامل رئيس المخابرات العامة المصري، وصفته تصريحات رسمية مصرية بأنه كان لقاءً هاماً. وفي شهر كانون الأول/ديسمبر الماضي أيضاً حطت طائرة روسية كانت تقل الرئيس السوداني عمر البشير في مطار دمشق الدولي، لتكون أول زيارة لرئيس عربي إلى سوريا منذ انطلاق الثورة في آذار 2011.
جاءت هذه التطورات بعد لقاءات جمعت النظام السوري بمسؤولين أو مندوبين عن أنظمة عربية خلال العام الماضي، تمّ الإعلان عن بعضها وتسريب بعضها الآخر، وهدفت بشكل رئيسي إلى تمهيد الأجواء لإعادة العلاقات المقطوعة رسمياً مع نظام بشار الأسد، بعد تعليق عضويته في جامعة الدول العربية نهاية عام 2011.
وترافق هذا مع تصريحات متعددة أطلقها مسؤولون في لبنان وتونس والعراق والجزائر، تؤكد على ضرورة عودة العلاقات العربية مع النظام السوري، ومن أبرزها تصريحات متكررة لوزير الخارجية في حكومة تصريف الأعمال اللبنانية جبران باسيل، الذي قال في تصريح للصحفيين قبل أيام قليلة إن مصلحة لبنان في عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية.
كذلك، نشرت صحيفة الأهرام الرسمية المصرية تقريراً بداية الشهر الجاري، تحدّث عن أن اجتماع المندوبين التحضيري لقمة بيروت الاقتصادية العربية يوم غد الأربعاء، سيمرر قرار إعادة النظام إلى جامعة الدول العربية. وعلى الرغم من غياب التصريحات الرسمية حول الأمر حتى اللحظة، فإن التسريبات تقول إن عدداً كبيراً من الدول العربية، من بينها دول خليجية، ستوافق على عودة نظام بشار الأسد إلى مقعد سوريا في جامعة الدول.
وتستند معظم التصريحات الرسمية للأنظمة العربية في هذا السياق، إلى ذريعة ضرورة إعادة سوريا إلى الحضن العربي، وإبعادها عن النفوذ الإيراني والنفوذ التركي، وإلى ضرورة تمهيد الأرض لاستعادة الدور العربي في سوريا من بوابة العلاقات الدبلوماسية.
لكن هذه النظرية تواجه تناقضات تبدو أكثر وضوحاً من أن تحتاج إلى شرح، فعلاقة نظام الأسد مع إيران، التي تعمقت كعلاقة تبعية خلال سنوات الثورة، لن تحدّ منها بالتأكيد عودة العلاقات الدبلوماسية أو بعض المكتسبات الاقتصادية من جانب دول الخليج، وبالتحديد الإمارات والسعودية. بينما لا تستطيع هذه التحركات بالتأكيد التعويض عن التواجد العسكري التركي مباشر شمالي سوريا. التحركات الدبلوماسية ليست قادرة على أداء أدوار كهذه بالتأكيد، وهو أمر واضح للدول العربية نفسها أولاً دون شك.
وبعيداً عن الذرائع والحجج التي يسوقها دعاة عودة العلاقات الدبلوماسية، سواء كانوا مسؤولين رسميين أو محللين أو شخصيات سياسية، فإن الحراك الدبلوماسي العربي الأخير جاء نتيجة لمقدمات بدأت بالتبلور خلال السنوات الماضية، وراحت نتائجها وانعكاساتها تظهر في سوريا بوضوح منذ دخول النظام السوري إلى درعا بتسهيل ومساعدة الأردن، الذي أغلق حدوده في وجه عشرات آلاف الفارين من هجمات النظام وروسيا، وضغط بقوة على الفصائل للانسحاب أو عقد تسويات مع قوات النظام.
وتعتمد السياسة العربية تجاه نظام الأسد على محددات رئيسية، أبرزها قضية اللاجئين السوريين في دول الجوار، ورغبة الدول العربية في ترتيب خطوات لإعادتهم بصرف النظر عن المصير الذي ينتظرهم تحت حكم النظام. وقضية التنسيق الأمني لحلّ مشكلة المقاتلين العرب والأجانب في سوريا، ومشكلة التنظيمات الجهادية عموماً. وأيضاً الوضع الاقتصادي في الأردن، الذي سيستفيد من عودة العلاقات مع النظام، ومن فتح طرق التجارة الدولية عبر سوريا والأردن مجدداً. كما أن الأردن ولبنان يبحثان عن دور رئيسي في عملية «إعادة الإعمار»، التي يُتوقَّع أن تبدأ دول الخليج بالاستثمار فيها أيضاً، وخاصة الإمارات.
كذلك، فإن سعي كل من السعودية والإمارات إلى إنهاء الحرب في اليمن بأسرع وقت ممكن، سيتطلب حتماً مفاوضات مع إيران، تبدو دمشق التي يحتلها الأسد العنوان الرئيسي لخوضها، بهدف العودة إلى التوازنات التي كانت تحكم المنطقة بشكل ثابت خلال العقد السابق للثورة السورية، رغم ما كان يتخلل ذلك الثبات من توترات.
ويبدو أن قرار ترامب بسحب قواته من سوريا سيسرّع من هذه الخطوات، التي يُحتمل أن تكون مدعومة من قبل الولايات المتحدة، في إطار سعيها لترتيب الأمور في المنطقة بسرعة قبل انسحابها. وبذلك تكون عودة العلاقات الدبلوماسية العربية مع النظام السوري نتيجة لاتجاه عربي ودولي، سيطر على سياسات العالم خلال العام الفائت، ويستند بشكل رئيسي على مقولة انتصار الأسد، ومن ثم ضرورة التفاوض معه باعتباره الطرف المنتصر.
سيقود هذا المسار في النهاية إلى الانتقال من الاعتراف الضمني إلى الاعتراف الرسمي ببقاء النظام، ومن ثم العمل على حلّ المشكلات الإقليمية الناجمة عن الأوضاع في سوريا، بدلاً من العمل على حلّ المشكلات داخل سوريا نفسها.