كان بيان الاستقالة الذي أصدره المجلس المحلي للأتارب بريف حلب الغربي مساء الاثنين الماضي، ليشكل سابقة استثنائية في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، لولا أنه جاء مرتبطاً بتحولات جذرية سياسية وعسكرية ناتجة عن سيطرة هيئة تحرير الشام على كامل محافظة إدلب وريف حلب الغربي، ليغدو البيان الذي بدأ بعبارة «انطلاقاً من المصلحة العامة» تعبيراً عن الاحتجاج على السلطة الجديدة، وعلى إخضاع المنطقة للإدارات المدنية المنبثقة عن حكومة الإنقاذ، التي هي «الوجه المدني» لهيئة تحرير الشام.
جاءت هذه الاستقالة بعد مشاورات رافقت زيارة وفد من حكومة الإنقاذ وهيئة تحرير الشام إلى المجلس المحلي في الأتارب، يبدو أنها لم تثمر عن اتفاق بتبعية المجلس للحكومة، وهو الخيار الذي كان واحداً من خيارين لا ثالث لهما، طرحتهما الوفود التي زارت معظم المجالس المحلية ومجلسي محافظة ومدينة حلب، فإما القبول بالشروط المفروضة والتبعية المطلقة لحكومة الإنقاذ ومن خلفها هيئة تحرير الشام، أو الاستقالة والتخلي عن هذه الإدارات لصالح أخرى توافقية سيتم تشكيلها من أبناء المناطق المناصرين للهيئة.
وكان فواز هلال، رئيس النسخة الثانية لحكومة الإنقاذ المصغرة (9 وزارات)، والتي تم تشكيلها نهاية العام الماضي من مقربين من هيئة تحرير الشام، قد أجرى سلسلة زيارات وحاول تقديم تطمينات للمجالس والهيئات المدنية المحلية، لكن يبدو أن هذه الزيارات كلها لن تفلح في الوصول إلى اتفاق يجنب تلك المجالس الخضوع أو الاستقالة. وفي هذا السياق، يبدو كلام أبي محمد الجولاني الأخير، حول أهمية التزام الفصائل بمهمتها العسكرية فقط، وابتعادها عن الإدارات المدنية وتسليمها لكفاءات من أبناء المناطق، مجرد كلام إعلامي لكسب الحاضنة الشعبية، في الوقت الذي بدأت فيه الإدارات الأمنية التابعة للهيئة بتشكيل الجسم الجديد التابع لها في المؤسسات المدنية، خلافاً لتطمينات هلال وكلام الجولاني.
ويرى ناشطون من أبناء المنطقة أن العمل يجري على شقين، أولهما تقوم به حكومة الإنقاذ بهدف إظهار الوجه المدني والتشاركي مع مؤسسات المنطقة، ليبقى القرار الفصل عند الشق الثاني، الذي تمتلك زمامه إدارات أمنية في الهيئة، تفرض شروطها على المجالس المنتخبة والهيئات الإدارية، متجاوزة كل ما كان قد اتُفق عليه مع حكومة الإنقاذ وممثليها. إذ لم يمضِ يوم واحد على زيارة رئيس حكومة الإنقاذ إلى مجلس محافظة حلب الحرة، ومناقشة الأمور المتعلقة بعمله وإصدار عدد من التطمينات حولها، حتى زار مسؤول المجالس في الإدارة العامة للخدمات التابعة لحكومة لإنقاذ، والمدعو «أبو عبدو طبيّة» مقر المحافظة، وقام بجرد محتوياته وتسلّم أوراق ومفاتيح الآليات الثقيلة التي كانت في عهدته (التراكس والشاحنات والميكروباصات وصهريج الماء والقلابات)! كما تم جرد محتويات مجلس المدينة أيضاً من قبل الشخص ذاته، وكذلك معمل الأعلاف الذي يتبع للمحافظة بهدف نقل ملكيته إلى إدارة الخدمات العامة في حكومة الإنقاذ، بحسب أحد أعضاء مجلس المحافظة.
السلوك ذاته تمّ اتبّاعه مع المجالس المحلية في جميع المناطق، كالأتارب وعينجارة والجينة وغيرها بريف حلب الغربي، والمجالس المحلية بريف إدلب الجنوبي وحماة، والتي تم تخييرها جميعاً بين التبعية الكاملة أو الاستقالة، بحسب جميع من تحدثت معهم الجمهورية من أعضاء هذه المجالس.
كذلك علّقت الشرطة الحرة في الأتارب عملها يوم الإثنين الماضي، وذلك بعد أن قام مندوبون من هيئة تحرير الشام بزيارة المخافر وجرد محتوياتها، ومنع عناصرها من ممارسة عملهم دون الرجوع إلى حكومة الإنقاذ. وجرت مفاوضات حول إتباع شرطة الأتارب الحرة إلى وزارة الداخلية في حكومة الإنقاذ، وتخفيض عدد عناصرها من 100 إلى 30 شرطياً من أبناء مدينة الأتارب حصرياً، يخدمون كامل المنطقة وريفها بعد مسابقة يخضعون لها، ودون توضيح آلية عملهم أو الرواتب التي سيتقاضونها. كما اشتُرِطَ عليهم تحمّل النفقات والديون السابقة على الشرطة الحرة، من مصاريف محروقات وتصليح سيارات، الأمر الذي دفعهم إلى الاستقالة الجماعية.
أيضاً تم تعليق العمل في إدارة السجل المدني في ريف حلب الغربي بشكل جزئي، وستشهد الأيام القادمة توقفاً كاملاً لعمله بناء على طلب من حكومة الإنقاذ بحسب أحد العاملين فيه، الذي قال إن هناك عدد من الشعب قد توقفت عن العمل، بينما تعمل شعب أخرى لفترة يعتقد أنها ستكون «مؤقتة».
وفي ريف إدلب، قام عناصر من هيئة تحرير الشام قبل أيام بمصادرة معدات المستوصف الطبي في جرجناز، واقتحام المجلس المحلي ومركز الشرطة في قرية الغدفة، والاتفاق على تشكيل مجلس محلي جديد فيها خلال أيام بالتعاون مع وزارة الإدارة المحلية في حكومة الإنقاذ، وإعادة العمل بمركز الشرطة شريطة التبعية لوزارة الداخلية فيها.
وكانت حكومة الإنقاذ قد أصدرت عدداً من القرارات الجديدة خلال الأيام الماضية، قضى أحدها بتعليق العمل في الجامعات ريثما يتم استكمال أوراق ترخيصها لدى مجلس التعليم العالي التابع لحكومة الإنقاذ. فيما شملت قرارات مشابهة الأفران والمطاعم والمحال التجارية تحت طائلة المسؤولية والغرامة، وقضت بإغلاق المحال التجارية خلال أوقات صلاة الجمعة تحت طائلة الإغلاق لثلاثة أيام، ومنع الخطب والدروس الدينية في المساجد دون الحصول على موافقة خطية من وزارة الأوقاف في حكومة الإنقاذ، بالتزامن مع زيارات إلى محاكم المنطقة من قبل مسؤولي المحاكم في الهيئة، بهدف فرض هيكلية جديدة عليها، مع اشتراط تطبيق القوانين التي تقرها وزارة العدل في حكومة الإنقاذ كشرط للبقاء.
وقال ناشطون وأعضاء في الهيئة العامة لمجلس محافظة حلب للجمهورية، إن «العمل يجري على سلخ ريف حلب الغربي عن بقية مناطق حلب، وإخضاعه لحكومة الإنقاذ، إذ ليس بالإمكان أن تتبع المناطق الخارجة عن سيطرة الهيئة (عفرين وريفي حلب الشمالي والشرقي) للإنقاذ»، مؤكدين أن كل ما يصدر عن حكومة الإنقاذ من قرارات وبيانات وإجراءات يوحي بذلك، وهو ما «سيؤدي في النهاية إلى سلسلة من الاستقالات، بدأت في الأتارب وستشمل جميع المناطق المناطق الأخرى في ريف حلب الغربي» وفقاً لهؤلاء الناشطين.
ويبدو واضحاً أن محاولات الاتفاق مع مجلسي محافظة ومدينة حلب بهدف إخضاعهما لحكومة الإنقاذ، ما هي إلا شكل جديد من أشكال فرض السيطرة الشاملة، خاصة أن المجالس المحلية في القرى والبلدات تتبع لمجلس المحافظة من الناحية الإدارية، وبالتالي ستكون تابعة تلقائياً لحكومة الإنقاذ في حال تم الاتفاق. وبحسب أعضاء في الهيئة العامة لمحافظة حلب، فإن هناك اجتماعاً لأعضاء مجلس المحافظة والهيئة العامة سيجري خلال أيام، بهدف «الوصول إلى قرار بشأن المتغيرات الطارئة في المنطقة، وإعلان استقلاليتها عن حكومتي الإنقاذ والمؤقتة»، بينما توقّع آخرون أن «مجلس المحافظة سينقل نشاطه بالكامل إلى ريف حلب الشمالي».
وقد أسفرت هذه القرارات والتغييرات عن حالة ضياع تام تعيشها المؤسسات المدنية في سائر المناطق التي سيطرت عليها هيئة تحرير الشام مؤخراً، وهو ما أدى إلى إيقاف وتعليق عمل كثير من المنظمات الإنسانية والمشاريع الخدمية. ويقول أحد المسؤولين في واحدة من المنظمات العاملة في المنطقة، إن «المنظمات أخبرت مكاتبها بإيقاف جميع المشاريع وكافة أشكال الدعم مؤقتاً ريثما تتضح الرؤية، في الوقت الذي خلص قسم كبير من الموظفين إلى قرار بترك المنطقة والتوجه إلى فروع المنظمات الأخرى في عفرين أو ريف حلب الشمالي».
مع استمرار هذه الإجراءات بالوتيرة نفسها، يبدو أن سيطرة حكومة الإنقاذ الكاملة على المنطقة ستأخذ شكلها النهائي خلال أيام، وإذا كان المشروع المعلن الذي تبرر به حكومة الإنقاذ ومن خلفها الهيئة هذه السياسات، هو «توحيد جميع المؤسسات المدنية تحت إشراف حكومة تشمل جميع المناطق»، فإن ما يبدو واضحاً هو أنه لا سبيل إلى تنفيذ ذلك إلّا بتغيير جذري في بنية وهيكلية هذه المؤسسات، واستبدال القائمين عليها بآخرين مقربين من هيئة تحرير الشام.