أن تسير في شوارع الجنوب اللبناني، يعني أن تشمّ رائحة كروم فلسطين القريبة جداً، وأن تشعر بثقل سنوات الاحتلال والحرب الطويلة، وفوقها آلاف الحكايات التي ترويها حيوات السوريين اللاجئين إلى تلك البقعة.
تقطن الجنوب اللبناني أغلبية سكانية تنحدر من الطائفة الشيعية، بالإضافة إلى عدد أقل من الطوائف المسيحية والسنيّة. وقد شكل الجنوب بطبيعته الساحرة وتكتلاته الطائفية تلك، ملاذاً لعشرات آلاف السوريين، اللذين لجأوا إلى لبنان هرباً من الحرب والقمع في بلادهم، ثم لجأوا إلى جنوبيه هرباً من غلاء المعيشة في العاصمة بيروت والمحافظات اللبنانية الأخرى.
لا تختلف حياة اللجوء هنا، في خصائصها العامة، عن حياة اللجوء في أي مكان آخر، من حيث الشعور بالخيبة جرّاء الحياة المعلّقة وعدم وضوح الأفق، لكنها علاوة على ذلك لا توفّر حتى الحدّ الأدنى المتعلق بحرية التفكير والكلام خارج دائرة الخوف من الملاحقة نتيجة إبداء رأي أو فكرة تتعارض مع سياسة الجهة المهيمنة سياسياً وعسكرياً هناك، حزب الله اللبناني.
وعلى رغم من أعداد السوريين الكبيرة نسبياً هناك، إلا أنه لا يمكننا أن نلمس أثراً أو طابعاً مميزاً يذكر لوجودهم. ويقدّر عدد السوريين المقيمين في الجنوب بنحو 140 ألف لاجئ ولاجئة، وذلك حسب مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين. ومحافظة الجنوب هي أقلّ المحافظات اللبنانية من حيث عدد اللاجئين السوريين فيها، مقارنة بالشمال والبقاع وبيروتحسب مفوضية اللاجئين أيضاً، يضم البقاع حوالي 412.000 لاجئ ولاجئة، بيروت وضواحيها 339.000 لاجئ ولاجئة، الشمال 285.000 لاجئ ولاجئة..
في الجنوب اللبناني، تخضع الأوضاع القانونية للاجئين السوريين للأوضاع السائدة نفسها في محافظات لبنان الأخرى، من حيث الإقامات واستئجار البيوت وأذون العمل. وقد أدت صعوبة إيجاد كفيل لبناني، وعدم القدرة على تأمين تكاليف إذن الإقامة، إلى أن غالبية السوريين يعيشيون دون إقامات قانونية، وهو ما سمح بخلق مساحة واسعة لاستغلال هشاشة الوضع القانوني للاجئين السوريين في سوق العمل.
كذلك لا يختلف الأمر في الجنوب عن بقية مناطق لبنان من حيث الخدمات الاجتماعية والصحية، فيعامل اللاجئون السوريون في المراكز الصحية الحكومية معاملة اللبنانيين، إن توافرت المعاينة مجاناً أو بتكاليف رمزية. أما من الناحية التعليمية، فقد جاء العام الدراسي الأخير حاملاً بعض القلق والإرباك للاجئين، إذ أصدرت وزارة التربية اللبنانية في أيلول الماضي قراراً بعدم قبول طلاب سوريين جدد في المدارس الحكومية، مع السماح بتسجيل الطلاب السوريين القدامى فقط، ثم عادت وخففت القيود نسبياً، عبر السماح للمدارس بتسجيل طلاب سوريين جدد شريطة ألّا يؤدي ذلك إلى فتح شعب دراسية جديدة لاستيعابهم. وهكذا لم يستطع كثيرون إرسال أبنائهم وبناتهم إلى المدارس الحكومية، فتحمل عدد قليل منهم عبء المدارس الخاصة عالية الكلفة، فيما اعتمد آخرون على مدارس خاصة تابعة لمفوضية الأمم المتحدة للاجئين، والتي على الرغم من الوضع المزري للحالة التعليمية والنفسية والتربوية فيها، إلا أنها كانت خلاصاً للعديد من الأطفال.
لعب الانقسام السياسي والطائفي دوراً كبيراً في توزع السوريين في لبنان، ويمكن القول إن الفئة الأكبر التي لجأت إلى الجنوب هي من أبناء الأرياف، وينتمي أغلبهم إلى شريحة ذات تعليم متوسط أو متدنٍ، ويعيشون أوضاعاً مادية تكاد تكون معدمة. وقد وجد أبناء الأرياف في الجنوب مكاناً مناسباً لممارسة المهن التي كان الكثير منهم يمارسونها في سوريا، كالزراعة والبناء، ولجأ بعضهم إلى العناية بأراضي الملاكين اللبنانيين مقابل غرفة أو كرفانة صغيرة بجانب الأرض. وعلى الرغم من أن انشغال هؤلاء بتأمين مستلزمات حياتهم دون أي اهتمام بالفعل السياسي يبدو واضحاً جداً، إلا أنهم يخضعون لضغط ومراقبة شديدة، تحسباً لأي تأثير أو تحركات قد تؤثر أو تخلخل الوضع القائم.
تكاد تنعدم الرغبة بالخوض في نقاشات سياسية أو فكرية لدى اللاجئين إلى الجنوب، ولا حتى في نقاشات حول الأوضاع الاقتصادية وأوضاع الحياة اليومية، إذ أدت هيمنة التيارات السياسية المشحونة بعداءات وتباينات طائفية إلى منع ظهور أي فعالية سياسية لهؤلاء اللاجئين، بما في ذلك الحد الأدنى المتعلق بالحوارات والاهتمام بالشأن العام.
يسيطر على أغلب ملامح حياتهم جو من الركود والخوف والتوجس الدائم، ومن الرغبة بالحفاظ على سيرورة أمانهم النسبي، وكأنه كلما ازداد التوجه أقصى الجنوب، ازداد معه الانسلاخ عن الذات والتماهي مع مجموعة القيم والسمات والاتجاهات السائدة في شتى مجالات الحياة.
«أنت سوري مش هيك؟؟ شو بتشتغل؟ بالزراعة أو بالباطون؟»، هو سؤال روتيني يتعرض له أي شاب سوري في جنوبي لبنان، ولن تخرج الإجابة خارج نطاق الاحتمالات المطروحة في السؤال نفسه إلا نادراً، إذ قد تكون في حالات قليلة «بشتغل بمطعم». وتسود حالة من الدهشة عند خروج الإجابة عن نطاق الاحتمالات الضيقة، ذلك لأن هناك تنميطاً للاجىء السوري في إطار الشخص المعدم متدني المستوى التعليمي والمادي، ومعها ربطه بـ«الإرهاب» أو بالصلة بجماعات المعارضة التي يقاتلها حزب الله في سوريا، لتكون تلك إحدى السياسات المتبعة لتهميش اللاجئ السوري وإبعاده عن الانخراطات السياسية، وعن التمادي في أي شعور بالارتياح، ضماناً لعودته إلى سوريا في أقرب فرصة.
يعتاش السوريون على الزراعة وأعمال البناء وبعض المطاعم، ويندر أن يوجد سوريون في الجنوب بغرض الدراسة. وكلّما اتجهنا إلى أقصى الجنوب، تتسع بساتين الليمون والبرتقال والزيتون والموز، لتشكل مصدر رزق لكثير من العائلات السورية .
يروي لي العم أبو محمد عن رحلته في النزوح من عفرين إلى الجنوب اللبناني: «من زار عفرين يعرف قيمة الأرض والزيتون. عندما لا أعمل في الأرض، أشعر بأني كالسمكة بدون ماء، لا أستطيع التنفس دون أن أرهق نفسي بالحراثة والزراعة والحصاد». ويقول إن السبب الرئيسي وراء اختياره الجنوب، هو طبيعة الحياة فيه، من حيث وجود أرض تتيح له ممارسة مهنته السابقة نفسها بأقل الخسائر الممكنة. يتحدث كثيراً عن الفروقات بين تربة عفرين والتربة هنا، قائلاً إنه لا تراب بعد عفرين، ثم يروي بغصة كيف يبيع جهده بأبخس الاثمان، كشرط لمكوثه مع عائلته في بيت إسمنتي بين البساتين.
سنجد كثيرين ممن يشبهون العم أبا محمد في الجنوب، وهو كحال كثير من السوريين قد أنجب أطفالاً خلال سنوات اللجوء، دون أي إثبات هوية أو تسجيل بيانات أو قيود، لتنشأ أزمة هوية وإثبات نسب تطال الآلاف من العائلات المقيمة هناك، ممن تشابهت ظروفهم الحياتية، حتى طغى عليها اليأس وانعدام الأفق.
على الرغم من بساطة الحديث، إلا أن كلاماً كثيراً ومعقداً كان يختبئ خلف تلك البساطة. لم أملك جرأة السؤال عن الحاضر، ولا سخافة السؤال عن مستقبل قريب أو بعيد، لكن ما استطعت ملاحظته بشدة كان لمعة عينيه عندما يذكر كلمة عفرين، وكيف تتدلى منهما ذكريات مبهمة، كأنها تطلب مني أن أكفّ عن الحديث.
يعني السير ليلاً في طرقات الجنوب أن يغدو قلبك مظلماً أكثر من سمائها، عباءات سوداء في كل مكان، وأعلام ورايات أكثر من عدد البشر، وكرتونات على أبواب المحلات، تغفو قربها أحلام أطفال وبالونات وعلب من العلكة وورود حمراء، وقطع معدنية صغيرة من فئة الخمسمئة ليرة لبنانية، في جيب طفل صغير يدعى حسن.
يهمس لي بعد أن تكررت لقاءاتنا لاحقاً أن اسمه كان عمر: «بس هون بينادولي حسن، حبيت أسمي الجديد، وهيك الناس صارت تحبني أكثر». أُعلّمه في كل زيارة بعض مفردات اللغة الإنكليزية بعد أن طلب مني ذلك، ويقول لي إن حلمه هو إتقان هذه اللغة، ولكنه يعلم أن حلمه هذا صعب التحقق. جميع الأحلام لدى عمر وأصدقائه تجثو على ركبتيها مثل وهم ثقيل، ثم تركض على رؤوس أصابعها هاربة نحو البعيد المستحيل.
طائفية أم موقف
يقف بعض أبناء الجنوب، ممن لم يشاركوا أو يؤيدوا القتال في سوريا، موقف استنكار لمشاركة حزب الله في الحرب، لكن دون موقف جاد معلن، لينتهوا إلى القول: «لبنان أحق بشبابه ورجاله». أما المنتمون لحزب الله، وهم كثيرون، فموقفهم معلن وحاد وصارم، حتى وإن لم يشاركوا ميدانياً في الحرب.
معظم أنصار ومنتسبي حزب الله يزورون سوريا بشكل متكرر، البقال وبائع الخضرة واللّحام والمعلم، وحتى سائق التاكسي، جميعهم يستطيعون أن يصفوا لي الأوضاع الراهنة في سوريا، مع بعض التنبؤات حول التحركات المقبلة. أستطيع سؤال أي سائق تاكسي إذا ما كان الطريق مفتوحاً لزيارة سوريا، أم أنه «حَ يصير شي بـ هالكم يوم».
وقد عملت الخطابات الشعبوية والتحريضية خلال الأعوام المنصرمة على خلق قالب للفرد السوري المعارض في الجنوب، يمكن اختصاره بإلصاق تهمة الداعشية به، وذلك تكفيراً وترهيباً وإخماداً لأي صوت معارض، وتبريراً للقتال في سوريا ضد الشبح الأكبر المُهدِّد، داعش.
ثمة لغة أخرى مستخدمة أيضاً، وخاصة ضمن المنازل بين النساء والأمهات، تتلخص في القول إن أقلّ ما يمكن فعله هو مساعدة «الدولة السورية» في القضاء على «الإرهاب»، رداً «على موقفها النبيل» في حرب تموز 2006.
في تشييع أحد مقاتلي الحزب الذين قضوا في سوريا، كانت سيدة تجهش في البكاء وتقول: «شبابنا يُدفنون، وشبابهم تتنعم في شوارع بيروت»، فسألتها عن السبب الذي يدفعهم إلى التضحية بمئات الشبان ممن كان لديهم أبناء وعائلات وحيوات ومستقبل بانتظارهم. أجابت: «شايفة كل هالبيوت، وهيدا البيت يلي إنتي فيه هلأ، هوي بناه متل غيره بعد حرب تموز [تقصد بشار الأسد]. فتح بابو وبلدو واستقبلنا بدون أي شروط. ما بيستاهل نفديه بالدم والروح، ونوقف معو بحربو ضد داعش؟». هو رُهاب داعش الذي يحضر دائماً، ولا يغيب ذكره عن أحاديثهم ومجالسهم، حتى أن السيدة قالت: «لو نستطيع أن نطاردهم في الأحلام لفعلنا، حتى لا يتمددوا ويصلوا إلينا».
تحمل إجابة كهذه في طياتها تساؤلات كثيرة، إذ هي لا تكفي لتبرير موافقة أم على إرسال أولادها للقتال والموت. ورغم المحاولات الجمّة لإخفاء الدوافع الطائفية، إلا أنه يمكن تلمّسها بوضوح عبر نقاشات خُضتها مع كثيرين من أبناء وبنات الجنوب، وانتهت بهم إلى القول إن من أحلامهم «الخروج في حشود كبيرة، واللطم أمام الجامع الأموي ومقام السيدة زينب في دمشق».
التأقلم وما بعده
يتجنب السوريون الخوض في أي نقاش طائفي أو مذهبي أو سياسي، أو الانخراط في أي مشاركة سياسية بما فيها التعبير البسيط عن الآراء والأفكار والتوجهات والمخاوف، وكلما اتجهنا جنوباً يزداد الأمر سوءاً، حتى تصبح بعض القرى في أقصى الجنوب أقرب لأن تكون «سوريا الأسد» مُصغّرة، من حيث خنق الكلام وكبت الرأي بخصوص كل ما يتعلق بالحياة في سوريا.
على الرغم من الاختلاف الكبير على الصعيد المذهبي والديني، يحاول السوريين قدر الإمكان الانخراط والتأقلم مع معظم الأمور، ويُظهرون احتراماً عالياً للمعتقدات الدينية السائدة في الأوساط الشيعية، ولعلّ هذا من بين الأسباب التي جعلت الأمور تبدو هادئة نسبياً، مقارنة بمدن أو ضواحي لبنانية أخرى. ولكن مع ذلك، لا يخلو الأمر من بعض التنبيهات التي يتمّ بثّها عبر مكبرات صوت الحسينيات والمقامات الدينية والمساجد، التي تفيد بمنع السوريين من التجول بعد الساعة السابعة، على غرار مناطق لبنانية أخرى.
في أيام عاشوراء، أكبر المناسبات الدينية الشيعية، يزداد الموقف سوءاً، توضع الحواجز وتتحول الطرقات إلى ثكنات عسكرية. وفي أيامها يُفضّل أن يتوارى السوري عن الأنظار، على غرار ما يحدث عندما يكون هناك تشييع لأحد قتلى حزب الله في الحرب السورية. يعيش السوريون أربعين يوماً خائفين، متوجسين من أي حركة قد تشير إلى عدم المبالاة بأيام الحزن الكربلائي. يتم إسدال الستائر، تُمنع الزينة والتزين أيضاً، وكذلك سماع الأغاني، وحتى صرف المياه بشكل مبالغ فيه. يبدو كل شيء قاتماً مثل الدماء التي تُسكب أثناء ممارسة الطقوس العاشورائية من لطم وتطبير، والتي يُثني عليها بعض السوريين رغم غرابتها بالنسبة لهم، في محاولة للاستمرار بقدر كاف من السلام، وتجنباً لأي صدام قد يعرقل عليهم مهمة العيش بسلام.
يلبس كثير من السوريين السواد في عاشوراء، ويصنعون أقراص العباس والهريسة (من المأكولات المخصصة لعاشوراء، تجتمع نساء الحي لإعدادها في أوانٍ كبيرة على مواقد يدوية، ثم تُسكب في علب وتُوزَّع على جميع سكان الحي دون استثناء) ويوزعونها على روح الحسين. وكثيرون منهم أيضاً باتوا يحضرون مجالس العزاء ويشاركون أبناء الجنوب أحزانهم وندبياتهم، وحتى أن بعضهم غيروا أسماءهم من عمر مثلاً إلى حسن أو علي.
قد نستطيع العثور على جوانب إيجابية في سلوك كهذا، كالقول إنه يأتي من باب المشاركة في الأفراح والأتراح والمناسبات، المشاركة في الحزن والفرح بهدف التعايش والتأقلم مع المحيط. لكنه من جهة أخرى يشير إلى طمس الهوية بهدف التعايش مع الأقوى، وإلى الرغبة في التماهي مع هذا الأقوى اتقاءً لأذاه، ما ينتهي إلى الانسلاخ عن النفس وضياع الهوية الفردية. ويبدو هذا واضحاً من خلال اتجاه قسم من الشباب السوريين هناك إلى التشيع، وخاصة من الفئات العمرية الأصغر، التي يمكن أن تكون أكثر تأثراً بخطاب حزب الله.
الخوف سيد الموقف في حياة السوريين في جنوبي لبنان، ولا يبدو أن هناك شيئاً قادراً على انتزاعه من الأشياء كلّها، ظاهرها وباطنها. الأفكار تقتلهم، يخافون كل شيء، بما في ذلك الطائرات الإسرائيلية التي اعتادوا مشاهدتها في الأجواء. يخشون الأسئلة والأجوبة، يخشون الحديث عن المسلمات والمعتقدات، وعن مآسيهم ومشاغلهم، خوفاً من الوشاة «والحيطان التي لها آذان». ويخشون أيضاً أن تصحوا ردود أفعالهم المكبوتة تحت كل هذا.
ثمة مشهدٌ لا يفارقني، عندما قام زوج إحدى جاراتنا السوريات بتحطيم التلفاز عندما شاهد أهل بيته يتابعون قناة الجزيرة. قال متلعثماً بوجه شاحب: «بركي عرفوا إنا حاطين عليها». شعرتُ وقتها بانقباض في صدري من هول المشهد، إذ كيف يمكن للذات البشرية أن تحتمل كل هذا الخوف الخارج عن حدود المنطق؟!
في رحلتي اليومية إلى العمل، والتي تستمر نحو نصف ساعة، اعتدتُ أن أرى سائق السيارة، وقد يتغير بعض الركاب من فترة إلى أخرى، إلا أن بعض العبارات والمشاحنات اليومية لا تتغير. وفي إحدى تلك الرحلات، قالت لي سيدة جنوبية لبنانية مُتعجبة: «أنت من الشام مش هيك؟! كنت بزيارة للست زينب… ما فيها شي… الشام جنة. يا عمي الله يلعن يلي خربها، مدارس ببلاش… مستشفيات ببلاش… إلخ». توقف الزمن لبرهة، رددتُ عليها بيني وبين نفسي فقط: «مشافي!!! لو تعرفي المشافي كيف صارت مسالخ للمعتقلين المصابين بعد الثورة»، لكنني لذتُ بالصمت، وكنتُ قد اتخذت قراراً بالصمت بعد آخر تهديد بالطرد بسبب انفعالاتي، التي ألصقت بي سمعة «معارضة»، فالتحايل والتحكم بردود الأفعال أفضل ما علينا إجادته.
منذ أن وطئتُ أرض الجنوب، وأنا أشهد بالجملة تشييعاً لـ «شهداء» لقوا حتفهم في معارك في سوريا، وأشاهد لوعة الأمهات واحتراقهن وتمزيقهن لثيابهن، وأسمع نحيبهن وبكائهن. حين سقطت القصير لمعت السماء وأرعدت بالعيارات النارية وأصوات إطلاق الرصاص في الهواء، وسمعتُ زغاريد النساء كما سمعت نحيبهن سابقاً. واحتفالاً بالفوز العظيم، رأيتُ أعلاماً صفراء ترفرف والعلم السوري ينزف، ينزف كالقصير ذاتها. من على شرفة المنزل رأيتُ الاحتفالات، وعلى سماعة الهاتف تخبرني والدتي باستشهاد أحد أقاربها.
كنتيجة حتمية للنفي، لسنا قادرين على التغيير، بل نعيش في شيزوفرينيا مقلقة. كم هو مؤلم الحديث عن ذكريات قد أصبحت جزءاً من الواقع الذي نتعايش معه، وكم هي مؤلمة خيانة الذات، وكم هو صعب العيش في عالمين مختلفين، وفي الوقت نفسه الحفاظ على الشعور بالتقبل والرضا.
يُنزل سائق السيارة الذي يقلني يومياً مرآته الأمامية، ينظر إلى عيني مباشرة ويسألني: «طالع مهمة… بدك شي من حلب؟». أسترجعُ شريط ذكرياتي في حلب، حين قضيت أجمل أيام حياتي فيها. كانت أمي دوماً تغني لوالدي أغنية عندما يسألها السؤال نفسه: «يا رايحين عحلب، حبي معاكم راح…. يا محملين العنب، تحت العنب تفاح». يوقظني السائق بصوته الثخين من شرود ذهني، فألوذ أيضاً بالصمت، وأختنق بالذكريات والأفكار المتزاحمة.
لم يحصل السوريون على الحرية التي استماتوا لأجلها بالملايين، لا في بلادهم ولا خارجها بعد تخطي الحدود، حتى أنها باتت كالقيود المعقودة على أعناقهم، يحملونها معهم أيما حلّوا وارتحلوا. وفي الجنوب اللبناني، يعيش معظم السوريين اغتراباً عن ذواتهم، فضلاً عن اغترابهم عن وطنهم المفقود.