يجب على الدانديّ أن يسعى إلى السامي دونَ تفسير، عليه أنّ يحيا وينام أمام المرآة.
تشارلز بودلير– قلبي عارياً: 1887
اقتربت فصائل داعش من أربيل عام 2014، حينها قرر أحمد ناوزاد ترك ألمانيا، والعودة إلى العراق لمساعدة عائلته، وتأسيس أول نادٍ للرجال الأنيقين باسم «سيد أربيل-Mr.Erbil »، والذي وصل عدد المنتسبين إليه إلى الأربعين. المثير للانتباه في النادي أن كلّ أعضائه ذكور، إذ يُمنع انتساب النساء، والسبب حسب تعبير أحمد هو أن المجتمع الكردي ليس جاهزاً بعد لتقبّل نادٍ مختلط. والأهم، أن جميع الأعضاء يحملون دوماً هواتفهم النقالة بأيديهم، ومستعدون دوماً لالتقاط صورة في أي مكان يمرون به.
النادي السابق وأسلوب استعراض أعضائه لأنفسهم، مُشابه لظهور شخص الدانديّ-Dandy في القرن التاسع عشر مع بدايات الديمقراطيّة الحديثة والنزعة للمساواة. حينها كان هناك سعيٌ لجعل الجميع متشابهين، وتفكيك الارستقراطيّة واحتكارها للسلطة، وترافقَ ذلك مع تطور الفضاء العام ومساحات اللقاء وتبادل الأحاديث، التي كان يظهر فيها الداندي مُختلفاً، إذ كان رجلاً، مثقفاً، لاذعاً، نظيفاً، ذوّاقاً، ملفتاً للانتباه، يتنزّه على الأرصفة، وذو مغامرات في المدينة التي يرى فيها مسرحه.
تظهر النزعة الدانديّة إثر الرغبة بالظهور والتميز عن الأقران، وخلق مكانة اجتماعيّة أساسُها المظهر الخارجيّ والأناقة، إذ كانت الكلمة تستخدم في اللغة المحكيّة منذ القرن الثامن عشر، لتمييز الرجال ذوي الحس المرهف بالأزياء عن غيرهم من «العامة». وقد ازداد تداولها، إثر التهديد الذي تعرضت له الأرستقراطية الملكية في أوروبا، فبعد الثورة الفرنسيّة بدأ تحطيم الهالة المحيطة بالأرستقراطي، تلك التي تعكسها ثيابه الغاليّة، شديدة الفحش والجمال، والتي كان الشعب يحرقها، إلى جانب الإطاحة برؤوس أصحابها تحت المقصلة.
Dandy Painting by Veronika Surovtseva
هذه التغيرات السياسية ذات الأثر الطبقيّ، ساهمت في ظهور شخص الداندي، كفرد لا يمتلك ثروة، ولا يعكس تفوقاً إلا من خلال شكله وثقافته ضمن الأوساط الفنيّة والثقافية، وضمن المساحات العامة في المقاهي والنوادي الأدبية وعلى الأرصفة، فأغلب الدانديين هم «المشاهير» الذين لا نعرف لماذا هم مشاهير سوى لأنهم كذلك، نشير لهم ونكتب عنهم ونحاول تقليدهم أحياناً بوصفهم أفراد يسعون للاختلاف. أيضاً، هم رجال يحضرون في الروايات والنقد الثقافي، كمُنتج وظاهرة تستحق الدراسة، فالداندي يشكل بجسده مجموعة من العلامات المرئية التي تولّد النصوص والأشكال المرئية، ويتم التعامل معه كما نتعامل مع لوحة، أو مسرحية أو عمل فني. وكثيرٌ ممن كتبوا عن الدانديين، كانوا هم أنفسهم مثلهم، كتشارلز بودلير وأوسكار وايلد. هم يشابهون أحمد ورفاقه في أنهم يقدّمون أنفسهم كرجال أنيقن، يتبنون المختلف، والمهندم، والمتألّق، نافين الشكل القائم بوصفه مبتذلاً رثّاً، ولا يليق بهم في الكثير من الأحيان.
دانديو القرن التاسع عشر مثل أحمد ورفاقه، «يظهرون» في ظل الأزمات الاقتصادية، يختلفون عن «المتشابهين» المشغولين بمتطلبات حياتهم، هم يترفعون عن هذه المتطلبات من أجل الجمال الذاتي، وهنا يبرز وعي الداندي بالعالم من حوله، وبذاته كجزء مترفّع نوعاً ما عن هذا العالم، فمشكلاتهم وتساؤلاتهم تزيينيّة أكثر منها سياسية، ولتبرز بهذا أولى أعراض الدانديّ، الذي لا بدّ له أن يكون مرئياً أمام الجميع، إذ لا يوجد دانديّ خفيّ، هو وليد تحديقة الآخرين، ويعي اختلافه، كي نشير إليه.
يُضاف إلى ذلك أن الداندي يمتلك ردوداً سريعة وذكية على كلّ ما يحصل، وأحياناً تحضر صفاته في شخص فنان أو شاعر أو صحفيّ، والأهم من كلّ ذلك: زيه، وثيابه التي لا تشابه ثياب أحد، ليس فقط في قيمتها، بل في أسلوب ارتدائها. هو ثوريٌ يرفضُ «الشكل» المتعارف عليه، ويكتسب قيمته الاجتماعية من شكله. هو نظيفٌ، مُقلّم الأطراف، مضبوطُ الحواف، كل ما يرتديه له حكاية، ولا بدّ له أن يكون مرئياً وأن «يسرد» حكايته. الداندي هو المؤدّي الجديّ للاختلاف عن السائد، العلامة المرئيّة النقيضة للـ«عادي» و«المشترك».
«هجوم» واجهات المحلات التي تخاطب المارة، وظهور المراكز التجاريّة وتطور الأرصفة والمقاهيّ، وانتشار المتنزهين، كل ذلك ساهم في إغناء تجربة الدانديين، فهم مشاهدون يسخرون من الواجهات الزجاجيّة وما وراءها، ويقتبسون من الماركات التجاريّة ويحوّرنها ويسعون للراقي والمرهف والمتقن وشديد النظافة. فالدانديّ أسير الرغبة العميقة بأن «يُرى»، هذه الرغبة التي تدفعه لأن يستعرض ذاته، ويبنيها ويُكوّنها مدفوعاً بقوة ليكون التجليّ الجماليّ للتفرد والأرستقراطية السيميائية. يحدّق نافياً الآخرين ويُحدَّق به مؤثراً بمن حوله، ليقدم شكلاً من الذكورة الناعمة، المُقلّمة، أسيرة الجماليّ لا الوظيفيّ. هو «يعمل» ليلفت الانتباه متحرراً من دوره الرجولي جزئياً، مخلخلاً العرف المرتبط بهذا الدور، لكنه لا يتعرض للعنف لأن جهوده استعراضية ولا جدية، فلا وجود له دون مشاهدين ومستمعين.
نلاحظ في شخص الداندي التطابق التام بين الفنان وموضوعته الفنيّة، فهو يجعل من «جسده» محطاً للجهد الفنيّ، يترتب، ويتهندم ويعمل بشدة على مظهره ولغته وكلماته وعباراته، أشبه بعمل فنيّ مُتنقّل، يتهكم من الموضة وصرعاتها وينفي قيمتها فقط لأنها للجميع، هو أشد حقيقيّة من مرتدي ثياب الواجهات. لا يسعى للأصالة، فالأصلي يحيل إلى النسخة والتكرار والتشابه، أما الواقعي فمُختلف لا يتكرر ولا يمكن استنساخه. هو مدفوع برغبة عدميّة للحضور في فضاء لا يشبهه، وبناء هالة فنيّة لا يمكن لأحد آخر ملؤها، ويستهلك المنتجات الثقافية ويراكمها كالثروة، يبذخ بمعارفه وحكاياته كبديل عن المال والنسب العائلي.
سبب الاختلاف بين دانديي القرن التاسع عشر وبين دانديي الآن، هو الطلاق بين الداندي وجسده إثر غواية الشاشات وحضورها الكلي، إذ استبدلت المرآة ودورها في تكوين الذات الرمزية، واستبدلت ساعات الوقوف أمام المرآة والتزين والحلق والنتف بدقائق تعديل الصورة على الشاشة واستخدام الفلاتر التي «تُنتج» الذات «الجميلة»، فنحن أمام صورة لا واقعيّة، أصبح إثرها جسد الداندني السايبري أكثر قابلية للتعديل، وعرضة لأن يكون مرئياً للملايين. أما الذات المجزّأة للداندي فلم تَعد نفياً لواجهات المحلات وتفانياً في سبيل الذوق الرفيع، بل «حرباً» ضد الموضة شديدة التسارع، التي يكرّس الداندي «حياته» لملاحقتها ونفيها في الوقت ذاته. وهنا تبرز العدمية لديه، هو يؤمن بصورته و«خارجه» لكنه قادر على التخليّ عنهما بسرعة لملاحقة العصريّ، فالإشباع الآني الذي يخلقه الجديد، والرغبة الدائمة بامتلاكه وتجسيده، جعلا الداندي بلا هوية، صورةً بلا أصل، لا تنصاع إلا لإيقاع الإعلان والصرعة والرائج وآخر ما «ظهر»، في سبيل نفيه والاختلاف عنه.
لا تتوقف مأساة الداندي هنا، إذ أنه فقد واقعيته، وتحوّل إلى نسخة تتكرر إلى ما لا نهاية. هو أسير وحدته خوفاً من الآخرين المشابهين، الذين تتراكم صورهم على شاشته/مرآته، وتملأ حكاياتهم الفضاء من حوله. الآخر الرمزي الذي يكوّنُ أنا الداندي النرجسيّة تحوَّلَ إلى آخرِين رقميين، لا واقعيين، يتمتعون بالجمال الفائق. فالتركيب الرمزي والسيميائي لثياب الداندي وسلوكه وأسلوبه المترفّع تلاشى في ظل انهيار العلامات، ووعود الاستهلاك التي تتفوق على حكاياته المنتقاة والمبنية بدقة، فالسلع التي تروج لها «الموضة» الآن مُصممة خصيصاً ليكون كلّ مستهلك/مُشتر مميزاً ومختلفاً، إذ تحولت واجهات المحلات إلى إعلانات موجّهة لكل فرد على حِدة.
هدَّدَ مجتمعُ الاستعراض وتقنياته فيتشيّة الداندي تجاه ذاته، التي يغرق في بنائها ويروج لها. عمليات التجميل والسعيّ للجسد المثالي أو نقيضه جعلا تميُّزَ الداندي هشّاً، إذ تلاشت غرابته أمام من يَشِمُ جسمه بأكمله أو يبتر ذَكره لأنه لا يتسق جمالياً مع «شكله الجديد». حتى حكاياته التي لا تمتلك قيمة إلا على لسانه تحولت إلى مواجهة مع مغامرات الجميع المرئيّة والمسموعة، أسلوبه تحّول إلى اقتباسات كيتشيّة وشعر رديء بسبب تغيّر طبيعة فضاء التلقي، فهو محكوم بعدد الأحرف في تويتر وعدد الثواني في السنابتشات وعادات التصفح والقراءة، إلى جانب النسيان السريع الذي يحكم التلقي من الشاشة، لتصبح مغامراته مجرد حوادث وعثرات سريعة الابتذال، وكأن شرط العصر حرمَ الداندي من الزمن اللازم للتحديق في ذاته، فغرقَ في انعكاسها على الشاشة المتغيرة دوماً، ليصبح صدىً متأخراً، فهناك دوماً صوت «جديد» يسبقه ويتلاشى دون أثر.
كان الداندي ثائراً نوعاً ما، ساعياً للاختلاف وخلخلة الدور الاجتماعيّ، مهدداً للذكورة وخشونتها. هو لا ينتمي لهذا الزمن، أو أي زمن، أشبه بسائح لا يشبه المارّة العاديين. الآن، وبعد غزو الشاشات والكاميرات لكلّ مكان، نراه كمن يمشي على رؤوس أصابعه في عالم مُخرَّب، مُكشوفاً، مُكرِّراً السابق ومعيداً له، شِعره وحكاياته المبتذلة تُخفي وراءها اصطناعاً مثيراً للسخرية في بعض الأحيان، فجهوده العصامية في سبيل تحقيق الجمال وتبنيّ الذوق العالي لا تُقارن بمؤسسات العلاقات العامة وجهود نجوم الموضة وفرق التجميل المحيطة بهم.
يرى بودلير أن الاختلاف بين الداندي والمرأة يتمثل في مفهوم الجمال، فالأول يبذل جهداً لينتج ذاته ويختلف، هو مُصطنع، بعكس المرأة، ذات الجمال الطبيعيّ «المؤسف»، والذي قد لا يحتاج أي جهد لإظهاره. لكن، وفي ظل نُسَخ علنية لا متناهية من الآخرين، أصبح مصير الداندي مأساوياً، إذ فقد مكانته بسبب اقتحام المرأة عوالم الدانديّة، وقدرة أي أحد على أن يكون مرئياً، لنراه الآن أسير نزعة للماضي الفردانيّ، حين كان الوقت مكرّساً لصناعة الصورة، لا تختزله مصانع وورشات تُنتِجُ إلى ما لا نهاية. هو رافضٌ للنظام القائم لأنه قضى على فرادته، فلم يعد الوحيد، لم يعد عملاً فنياً متنقلاً، لأن الأخير أصبح ديمقراطياً و«سهل الصنع» و«جاهزاً للاستخدام».
كما في القرن التاسع العاشر، الداندي الآن مهووس بالظهور، لكن الجهد المبذول للظهور مختلف عن الماضي، هو الآن حاضر على كافة المنصات، يتصوّر ويكتبُ ويمثّل ويؤديّ، وعلى الأغلب لا يمتلك الذوق بالمعنى الجمالي. هو يلاحق الجديد كي يهجره ويختلف عنه، هو سيد العبارات المبتذلة والردود الحاسمة وليدة اللحظة، نقرأ نصوصه دوماً على وسائل التواصل الاجتماعي، إذ لا بد أن يكون له تعليق على ما يحدث، سواء كان الحدث مأساة أو قطة تعبر الشارع. هو جاهز دوماً للتمايز عن الآني وتقديم نسخته عنه، ساخراً من المُعتاد والآراء المتصارعة، وهنا يكمن عيبه التراجيدي المرتبط بنرجسيته الهوسيّة، فالداندي لا يرى سياق ما ينتجه، لا التاريخي ولا الأدبي، هو يرى فقط إطار الظهور، وأفكاره غير مهمة أمام المساحة المتوافرة للتعبير. ولا نتحدث هنا عن أعضاء نادي الرجال في أربيل، الذين فعلاً لا يمكن إيجاد ثيابهم في أي مكان آخر، كونهم يصنعونها بأنفسهم، بعد أن استوردوا «الزي الذكيّ-smart look» البريطاني لاحتوائها، بل نقصد تلك الفئة المبتذلة، ذات النكات السيئة، والثياب اللامتوافرة لأنّها تقليدٌ سيء للجميل، هي تلفت النظر كونها تشابه ما هو منفي ومرمي بعيداً، لا ما هو غريب وملفت للانتباه.
الشيء ذاته ينسحب على النص المرافق لصورة الداندي، ذاك النص الذي يكتبه ويتعب لإنجازه كي «نتصفحه» على وسائل التواصل الاجتماعي، لنرى أنفسنا إن قررنا أن نقرأ، أمام «أسلوب» مصطنع لاستدعاء صورة قديمة – وربما متخيلة- للداندي الذي يتنقل في مقاهي باريس ولندن، ويلقي الشعر وينتقد الأحداث الحالية، ويشعل النقاش، ويشتم الصحافة، ويحكي نوادر من الأدب والفن، كبودلير ذاته، الذي يصف الداندي بأنه وليد لحظات التغير الاجتماعي، وانتقال الحكم من فئة لأخرى. هو في مرحلة «الما بين» دوماً، والاختلاف يكمن في أن السلطة كانت تنتقل من الملكيّة إلى الجمهورية، وحينها أفلت القرار من يد النبلاء والملوك وأصبح في يد الشعب والتجار، أما الآن، فالسلطة في يد من يمتلك المعلومات ويتحكم «بظهورها»، أما الصراع فهو بين النسخة والأصل، بين الذي لا مثيل له وبين ما يشبه كلّ شيء، ليظهر الداندي مُتخبطاً بين أناه المُجزّأة وبين صور الآخرين كلهم، الذين يتنافسون على أن «يُشاهَدوا» أكثر.