كان توقيع اتفاقية أضنة بين النظام السوري وتركيا عام 1998 نقطة تحول كبرى في العلاقة بين البلدين، وتأسيساً لسنوات غير مسبوقة من «التقارب والصداقة»، استمرت حتى العام 2011. ولهذا بالتحديد، فإن عودة الحديث عن الاتفاقية إلى الواجهة بعد تدهور العلاقات الشديد منذ العام 2011، وبعد أن أصبح لتركيا وجود عسكري مباشر داخل الأراضي السورية، يطرح إشارات استفهام عديدة.
واتفاقية أضنة، التي نشرت الصحافة التركية بنودها السرية خلال الأيام الماضية، هي اتفاقية أمنية وقّعها الطرفان بعد توتر الأجواء وحشد تركيا قوات عسكرية على الحدود بينها وبين سوريا، نتيجة دعم نظام حافظ الأسد لحزب العمال الكردستاني. وقد تم الاتفاق بعد وساطة مصرية على عدة بنود أهمها؛ وقف دعم نظام الأسد لحزب العمّال وإخراج زعيمه عبد الله أوجلان من الأراضي السورية، بالإضافة إلى إعطاء تركيا الحق بالتدخل عسكرياً حتى مسافة خمسة كيلومترات ضمن الأراضي السورية، لمحاربة حزب العمّال الكردستاني.
وكان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، هو من أعاد الحديث عن الاتفاقية يوم الأربعاء الفائت، وذلك في مؤتمر صحفي جمعه بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان، خلال زيارة قام بها الأخير إلى موسكو لبحث الوضع في شرق سوريا بعد قرار انسحاب واشنطن من المنطقة.
يأتي طرح بوتين في مواجهة طرح تركي يتحدث عن إقامة «منطقة آمنة» بالتوافق مع واشنطن في منطقة شرق الفرت، ويستند بوتين في طرحه هذا إلى نقطة قوة رئيسية، هي عدم وجود موافقة صريحة من واشنطن حول هذه المنطقة الآمنة، ما يعني أنه لن يكون أمام أنقرة سوى الوصول إلى تفاهمات مع موسكو بهذا الشأن، في حال نفذت الولايات المتحدة انسحابها فعلاً قبل الاتفاق مع تركيا على مصير شرق الفرات.
بدوره، تحدث الرئيس التركي عن الاتفاقية باعتبارها تعطي أنقرة الحق بالتدخل العسكري في سوريا لحماية مصالحها وأمنها القومي، وأكد أردوغان في مناسبتين منفصلتين خلال الأيام القليلة الماضية على وجوب طرح الاتفاقية من جديد على طاولة النقاش، وإن كان قد اعتبر في الوقت نفسه أنه «من غير الممكن إعادة العلاقات مع رأس النظام بشار الأسد»، بعد الجرائم التي ارتكبها بحق شعبه.
من جهتها، نشرت وزارة الخارجية التابعة لنظام الأسد بياناً أكدت فيه التزام النظام «بهذا الاتفاق والاتفاقيات المتعلقة بمكافحة الاٍرهاب بأشكاله كافة من قبل الدولتين»، وقالت إن تركيا هي الطرف الذي لم يلتزم ببنود الاتفاقية منذ عام2011، «عبر دعم الإرهاب وتمويله وتدريبه» وعبر «احتلال أراض سورية»، مؤكدة أن «أي تفعيل لهذا الاتفاق يتم عبر إعادة الأمور على الحدود بين البلدين كما كانت».
تبدو سلسلة التصريحات المتعلقة باتفاقية أضنة، والتي كان بوتين قد بدأها قبل عدة أيام، كما لو أنها رسائل متبادلة لبناء أرضية جديدة للاتفاق القديم، تتيح لأنقرة محاربة «وحدات حماية الشعب» المرتبطة بحزب الاتحاد الديمقراطي، الفرع السوري لحزب العمّال الكردستاني. لكن بالمقابل، فإن الوصول إلى مثل هذا التفاهم سيعني عودة نوع من العلاقات العلنية الرسمية بين أنقرة ونظام الأسد، على الأقل على المستوى الأمني، كما أنه سيجعل التدخل التركي محصوراً في شريط ضيق على طول الحدود، وعبر تنسيق مع النظام السوري، وسيتيح للنظام وموسكو السيطرة على المناطق التي تنسحب منها واشنطن شرق سوريا، في محافظات الحسكة والرقة ودير الزور، ربما مقابل الوصول إلى تفاهم مع أنقرة يتيح لها الدخول إلى الأراضي السورية بعمق قد يتجاوز ما نص عليه الاتفاق الأصلي الموقع عام 1998.
سيعني الوصول إلى تفاهمات كهذه انقلاباً جذرياً تدريجياً في الموقف التركي من نظام بشار الأسد، وهو الأمر الذي ستكون له تداعيات كبيرة على مستويات عدة، من بينها مستقبل مناطق الشمال السوري، ومستقبل المسار السياسي، كما أنه سيعني أن واشنطن لن تجد حليفاً لها في المنطقة يساعدها على تسوية الأوضاع كما تريد بعد انسحاب قواتها من سوريا، ولهذا فربما يكون نقاش أنقرة للطروحات الروسية نوعاً من الضغط على واشنطن، عبر القول إن لدى تركيا بدائل جاهزة إذا لم يتم الوصول إلى اتفاق حول شرق سوريا.
لكن بالمقابل، إذا كانت تركيا تسعى فعلاً للضغط على واشنطن عبر قبولها بطرح اتفاقية أضنة على الطاولة، فإن هذه تبدو مراهنة محفوفة بالمخاطر، فالرئيس الأميركي دونالد ترامب غير مهتم كثيراً بما يجري في سوريا، وهو مصرٌّ على تنفيذ قراره بالانسحاب من المنطقة، على الأقل حتى اللحظة، رغم الضغوط من شخصيات ودوائر في البيت الأبيض والبنتاغون، ترى في انسحاب واشنطن من سوريا نهاية للسطوة والفاعلية الأميركية في المنطقة ككل.
إذا لم يخضع ترامب لتلك الضغوطات، وأصر على الانسحاب حتى دون اتفاق مع أنقرة، فإن الأخيرة ستجد نفسها مضطرة إلى تطبيق اتفاقية أضنة فعلاً، التي ستكون قد أصبحت الخيار الأخير لديها، وهو ما سيمنح النظام السوري دفعة جديدة أياً تكن نوعية التعديلات التي ستدخل على الاتفاقية. وبالإضافة إلى ذلك، سيعني تطبيق اتفاقية أضنة إعادة الحديث حول مصير باقي المناطق السورية التي تخضع للسيطرة التركية أو الغطاء التركي في ريف حلب وإدلب وريفها، فالاتفاقية تشمل الحدود السورية التركية كلها وليس شرق الفرات فقط، وتتحدث عن تدخل عسكري تركي في شريط ضيق يبلغ عمقه خمسة كيلومترات فقط.