خلال سنوات حكمه الأولى، كان حافظ الأسد يحتاج دستوراً جديداً يساعده في فرض هيمنته على سلطات الدولة التنفيذية والتشريعية والقضائية، في بلاد كان لا يزال فيها مراكز قوى عديدة داخل مؤسسات الدولة وخارجها، فكان دستور العام 1973، الذي نصَّ على جمع السلطات كلها في قبضة رئيس الجمهورية، ونصَّ على قيادة حزب البعث الذي يتزعمه رئيس الجمهورية للدولة والمجتمع في سوريا.
أما بشار الأسد، فلم يحتج بعد موت والده عام 2000 سوى إلى تغيير المادة التي تنص على سنّ الترشح لرئاسة الجمهورية، ولم يجد حرجاً في التراجع بعدها عن كل ملامح الاشتراكية، دون الحاجة إلى تعديل مواد الدستور التي تنص على اشتراكية اقتصاد الدولة، ليكون هذا واحداً من علامات كثيرة على أن الدستور قد بات خرقة بالية لا تصلح لشيء، وأن السلطة كلها قد باتت في يد عصبة لا تلتزم بأي دستور.
ومع ثورة السوريين عام 2011، وجد بشار الأسد نفسه مضطراً لتغيير الدستور، لكن ليس من أجل استخدامه في مواجهة مراكز قوى داخلية هذه المرة، ولا من أجل تدعيم شرعيته الداخلية المتهالكة. وقد كان التغيير النظري في دستور العام 2012 هائلاً، إذ باتت سوريا بموجبه دولة تعددية سياسياً، ولم يعد هناك حزب قائد للدولة والمجتمع فيها، كما تم حذف كل إشارة إلى الاشتراكية من مواد الدستور، وتم النص على سائر الحريات والحقوق المدنية التي تقرّها دساتير الدول الديمقراطية في العالم، لكن هذا لم يترك أي أثر على حياة السوريين، لا على مستوى الحياة اليومية، ولا على مستوى علاقة مؤسسات الدولة بالسكان الذين تحكمهم وتدير حياتهم.
لم يتغير شيء في آليات ممارسة الحكم ولا في بنية النظام الحاكم بتغير الدستور عام 2012، وهذا لوحده دليلٌ كاف على أنه لم يكن لذاك التغيير الدستوري أي وظيفة داخلية، بل إن وظيفته كانت خارجية بالكامل، تتعلق بتحسين شكل النظام أمام المجتمع الدولي، تمهيداً لإنقاذه واستكمال الشروط اللازمة لإعادة تثبيته. وليس بين أيدينا ما يشير إلى أن هذا قد تغيّر اليوم، بل على العكس من ذلك، يسير نظام الأسد خطوات أبعد في احتقار كل النصوص الدستورية والقانونية، بما فيها تلك التي أقرها بنفسه لنفسه، ويواصل قتل شرائح واسعة من السوريين وإذلالهم وتحطيم حياتهم في سجونه وخارجها، دون أي ضوابط من أي نوع، بما يجعل الحديث عن الذهاب إلى حلول عن طريق تغيير الدستور مجرد مزحة سمجة.
لا يستند النظام في أسلوب حكمه على مواد الدستور الحالي، وهذا يعني تلقائياً أن تغيير مواد الدستور لن يقود إلى تغيير أسلوب الحكم، وقد كانت هذه الخلاصة البديهية حاضرةً في صياغة المجتمع الدولي لبيان جنيف عام 2012، الذي اعتمده مجلس الأمن الدولي في القرار 2254 لاحقاً، وفيه يبدو واضحاً أن الخطوة الأولى على طريق أي حل سياسي للمسألة السورية، هي «إقامة هيئة حكم انتقالية باستطاعتها أن تُهيّئ بيئة محايدة تتحرك في ظلها العملية الانتقالية. وأن تمارس هيئة الحكم الانتقالية كامل السلطات التنفيذية»، وعلى هذا الأساس «يمكن أن يعاد النظر في النظام الدستوري والمنظومة القانونية. وأن تُعرض نتائج الصياغة الدستورية على الاستفتاء العام»، حسب نص بيان جنيف نفسه.
وهكذا فإن الإقرار الأممي بضرورة إنشاء هيئة حكم انتقالي، يمكن في ظلها الذهاب إلى إجراءات أخرى كتعديل الدستور وإجراء انتخابات، هو مكتسب راسخٌ أنتجته تضحيات السوريين، يتضمن فهماً واضحاً لحقيقة أن كل الدساتير والانتخابات في الدنيا لن تعني شيئاً طالما أن السلطة في قبضة الأسد وأجهزته الأمنية، لكن الأمم المتحدة تتصرف اليوم خلافاً لهذه الحقيقة، إذ تقوم بتسويق التقدم في مسار اللجنة الدستورية على أنه تقدم في مسار الحل السياسي، في تزوير مشهود للمسألة السورية كلها.
تسير الأمم المتحدة في عملية التزوير تلك، ومعها سائر الأطراف الإقليمية والدولية بما فيها تلك التي يفترض أنها حليفة للمعارضة السورية، ويقبل الجميع بالقفز فوق شرط إقامة هيئة الحكم الانتقالي، بما في ذلك قوى المعارضة الممثلة في الهيئة العليا للمفاوضات، التي تخضع لإملاءات داعميها وحلفائها الإقليميين والدوليين، وتمضي إلى الاشتراك في عملية التزوير دون أن تهتم حتى بشرح الأسباب التي تدفعها إلى القبول بهذا.
تكفي سيرة النظام السابقة للقول إن الشراكة معه في صياغة دستور جديد، دون أي إجراءات جدية تمسّ قدرته غير المحدودة على قتل السوريين وإخضاعهم، ودون انتزاع إقرار عملي أو حتى لفظي منه بأننا نسير على طريق انتقال سياسي، هي مساعدة في إعادة تأهيله دولياً، سواء قصد المعارضون المشاركون تقديم هذه المساعدة أم لم يقصدوا.
إذا كان ثمة معطيات لا نعرفها تقود إلى خلاصات مغايرة، فإن من حق السوريين أن يعرفوها، أما إذا لم يكن ثمة معطيات كهذه، فإن المسار السياسي الراهن في حقيقته هو مسار لتأهيل النظام دولياً وليس لتغييره، فلماذا يشارك معارضون في مسار كهذا؟ ولماذا يقبلون أن يكونوا شهود زور على عملية كهذه؟ وما هي المكاسب التي قد تتحقق منها، أو على الأقل، ما هي عواقب عدم مشاركتهم فيها؟ في وقت يبدو واضحاً فيه أن عمليات النظام وحلفائه العسكرية لا ترتبط بالمسار السياسي ولا تتأثر به، وأن سياسة النظام في القمع والترهيب والقتل تحت التعذيب، لا ترتبط بالمسار السياسي ولا تتأثر به أيضاً.
ربما يبقى الأسد وعصبته ممسكين بخناق البلاد وأهلها عقوداً طويلة قادمة، وربما يُجبرون على الرحيل أو التنازل عن جزء من سلطتهم إذا كانوا قد صاروا عبئاً على حلفائهم قبل خصومهم، لكن صياغة دستور جديد لسوريا لا تلعب دوراً في الدفع باتجاه أي من المصيرين، بل لعلها قد تساهم قليلاً أو كثيراً في تمهيد الطريق أمام الخيار الأول. هذا ما تقوله المعطيات التي بين أيدينا، ويقع على عاتق من لديه معطيات غيرها أن يشرحها لنا.