نحن على أعتاب العام التاسع منذ اندلاع الثورة السورية في 2011. أعوام طويلة ومريرة تعرض فيها مئات آلاف السوريين للاعتقال والتعذيب، والغالبية الساحقة ممن تم اعتقالهم لكونهم معارضين أو يشتبه في كونهم معارضين، تعرضوا للتعذيب الوحشي في الفروع الأمنية التي يكاد المرء يضيع لدى تعدادها، بهدف انتزاع الاعترافات وبث الرعب والانتقام. ونشهد خلال الأيام الأخيرة جهوداً حثيثة لإعادة فتح ملف هذه الانتهاكات من قبل حقوقيين وجمعيات قانونية، بهدف الوصول إلى مرتكبيها ومحاكمتهم، خصوصاً إذا كانوا من المقيمين على الأراضي الأوروبية.
وفي هذا السياق، استدعى الادعاء الألماني شخصين كانا يعملان في الأجهزة الأمنية التابعة للنظام السوري، بعد دعاوى وشهادات لضحايا يقيمون على الأراضي الألمانية ضدهما، وهما أنور رسلان وإياد الغريب، اللذين تم توقيفهما ضمن إجراءات المحاكمة، إضافة لشخص ثالث في فرنسا لم يتم ذكر تفاصيل وافية عنه، وهي الخطوة التي أثارت جدلاً في الأوساط المعارضة ذاتها.
بدأ الجدل الذي أثير حول قضية الضابط (أنور) وصف الضابط (إياد) مع انتشار شهادات لأشخاص يعرفون الاثنين عن قرب، أو سبق أن التقوا بهما، صبت معظمها في صالحهما، وحاولت نزع صفة الإجرام عنهما، وتوضيح دوريهما أثناء الخدمة ثم الانشقاق والخروج من سوريا واللجوء إلى دول أخرى.
المشترك في هذه الشهادات هو أنها تشير إلى أن أنور وإياد كانا على «مستوى أخلاقي»، يميزهما عن العاملين في هيكل النظام. وذهب بعضها إلى أنهما كانا يحاولان من موقعهما «مساندة الثورة والمطلوبين»، إضافة إلى «معاملة المعتقلين بطريقة تختلف عن تلك الوحشية والمهينة التي يتبناها سائر عناصر النظام». أي بمعنى آخر، كانت معظم الشهادات تشير إلى «نظافة اليد والبراءة من المسؤولية».
دفعت هذه الشهادات بغمامة من الشك فوق القضية، حتى أن كثيرين ممن كانوا مرتاحين لاعتقالهما أول الأمر، اتجهوا إلى التأني في إبداء المواقف، وإلى انتظار ما ستنتهي إليه إجراءات التحقيق والمحاكمة، التي سيشارك فيها عدد من المعتقلين السابقين كشهود يحملون آراءً متباينة، وهو ما قد يزيد من تعقيد القضية، ويصعّب على المتابعين مسألة اتخاذ موقف جذري منها بناء على المعلومات المتوافرة حالياً.
وكان الصحفي عبد الناصر العايد قد كتب أواخر 2012، بعد انشقاق رسلان، على صفحته في فيسبوك: «انشقاق العقيد أنور رسلان من الفرع الداخلي بأمن الدولة… العقيد أنور من الأكثر إطلاعاً في هذا الفرع، عرفت عنه الكثير عند اعتقالي في هذا الفرع وبعد ذلك، عندما ناقشني في طريقة كتابة الرواية وتقنياتها، رحت أضحك فسألني لماذا تضحك؟ قلت له منذ ربع ساعة كان أحد زملاءك يدعس على راسي بحقد وازدراء شديدين.. أطرق بصمت وقال كلمة الاعتذار الوحيدة التي سمعتها في فروع الأمن، وربما الوحيدة الصادقة: قال انا آسف.. ولكن بعض الزملاء لا يعرفون شيئاً سوى فعل ذلك.. وصمت طويلاً. جمعت عنه الكثير من المعلومات فيما بعد، كما جمعت عن آخرين في ذلك المكان، كانت المعلومات كلها تشير الى أنه رجل في غير مكانه، فهو ميجور دورته في كلية الشرطة، ومن ضباط الداخلية الأكفاء، ندب في رتبة معينة إلى هذا الفرع لكفاءته قبل كل شيء، طوال الوقت كنت أفكر بلماذا لم ينشق، هذا الرجل الذكي والمثقف والصادق، ولكن عندما أتذكر كم الحراسة والريبة الذي يحيط بذلك المكان أجد له عذراً، لا زلت احتفظ برقم هاتفه في دمشق وتراودني نفسي للاتصال به بين الفينة والأخرى لأحضه على الانشقاق، حتى سمعت النبأ منذ قليل… أهلا بك في عالم الحرية سيادة العقيد وأتمنى أن تستدرك ما فاتك بما يحويه عقلك الذكي من معلومات وملاحظات».
وقد قال العايد في منشور جديد له، تعليقاً على اعتقال رسلان في ألمانيا: «ألتزم الصمت، فالكلمة الآن للقضاء، الذي آمل أن يكون عادلاً، بعد ذلك سأتكلم بما أعرف، إخلاصاً للعدالة، وانحيازاً كلياً للضحايا، وإنصافاً للعقيد أنور أيضاً».
أما الصحفي مهدي الناصر، الذي تربطه قرابة بإياد الغريب، فقد قال في بث مباشر على صفحته على فيسبوك إن «إياد انشق في بداية 2012، وما أعرفه أنه كان يرسل تحذيرات للأشخاص الذين يخطط النظام لاعتقالهم، لحثهم على الهرب، وكان بحكم عمله يقدم تقارير عن أن المظاهرات يقوم بها ملثمون، كي لا يتهم أحداً، لدرجة أن تهديدات طالته من قبل مديره في فرع الخطيب»، داعياً إلى انتظار نتيجة المحاكمات وعدم رمي الاتهامات دون بينة، مؤكداً: «إذا ثبت على إياد تورطه بجرائم فأنا أول الداعين لمعاقبته».
المحامي أنور البني، أحد الحقوقيين العاملين على تحريك هذه الدعاوى، قال في حديث للجمهورية، تعليقاً على الجدل الذي أثاره اعتقال رسلان والغريب: «لقد تابعت العاصفة التي أثارتها قضية اعتقال أنور وإياد، وبعض التعليقات طالتني شخصياً، وهنا أود القول بناء على ذلك إن الانشقاق لا يعطي براءة ذمة لأي شخص. أساساً لا يمكن لأي أحد أو جهة أن تقدم عفواً أو براءة ذمة لمن ارتكب جرائم ضد الإنسانية في سوريا، بالتالي فإن المحاججة بأن الانشقاق يبرئ المتهم هي غير منطقية. ربما عندما تنتصر الثورة ويكون هناك سلطة منتخبة، قد يمكن لهذه السلطة أن تمنح العفو لمن ساعد الثورة على الانتصار من خلال انشقاقه، هذا من الناحية السياسية، ولكن من الناحية القانونية، لا يمكن إسقاط أي تهمة عن أي شخص، ما لم يكن هناك مرجع قانوني لإسقاط هذه التهمة».
وإيضاحاً للآلية التي يتم بها رفع الدعاوى من قبل الضحايا، أفاد البني بأن «الأساس في كل الدول الأوروبية أنه إذا تواجد المتهم مع الضحية في بلد واحد، فيمكن للضحية أن يقدم شكوى ضد المتهم، وخاصة في الجرائم ضد الإنسانية، أو جرائم الحرب والتعذيب والاغتصاب والاختفاء القسري. ولكن بعض الدول الأوروبية تسمح بمحاكمة المتهمين حتى لو كانوا خارج أراضيها، كألمانيا والسويد والنرويج والنمسا، وقد تقدمنا بملفات أمام القضاء في هذه الدول، وصدرت مذكرات توقيف بحق عدد من رموز النظام».
وتأتي هذه الجهود القانونية تزامناً مع محاولات مستمرة منذ أعوام لإعادة تأهيل للنظام، بعد سيطرته على مناطق واسعة وإخراج المعارضة منها، وصلت في النهاية إلى الحديث عن تحركات لتحضير دستور جديد للبلاد بإشراف قوى إقليمية ودولية. ويرى البني أن «التحركات القانونية ضد النظام ستساهم كثيراً في عرقلة محاولات تأهيله، باعتبار أن رموز النظام والمشاركين في جرائمه أصبحوا متهمين، بمقتضى هذه الدعاوى، بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، إن لم يكونوا مدانين أصلاً. بالتالي ستصب كل هذه الجهود والقضايا في غير صالح البروباغندا والتحركات السياسية الرامية إلى تلميع صورة النظام، والتي تشارك فيها أحزاب يمينية عدة في أوروبا وحول العالم»، حسب قوله.
على أي حال، ستحدد المآلات التي ستسير إليها هذه القضايا ملامح مرحلة جديدة، تفتح أبواب القلق أمام الذين عملوا في مناصب حساسة لدى النظام على مدار الأعوام الماضية، وتورطوا في سفك الدم وتحطيم العظام والإخفاء القسري والقنص والقصف العشوائي. وطالما أن هناك جرائم يمكن إثباتها، فليس ثمة ما يمنع الضحايا من رفع دعاوى بخصوصها إلا الصفح الطوعي… لا أحد يستطيع إجبارهم على ذلك.