توسعت دائرة القصف الصاروخي والمدفعي الممنهج من قبل قوات النظام وحلفائها خلال الأيام الماضية، لتشمل أكثر من 56 قرية وبلدية في ريف إدلب الجنوبي وريفي حماة الشمالي والغربي، مخلفة عشرات الشهداء والجرحى من المدنيين، ودماراً واسعاً في البنية التحتية والمرافق العامة والمنازل، وهو ما أدى إلى نزوح 7256 عائلة خلال شهر شباط الحالي، وتوزعهم على 66 بلدة وقرية في مناطق أخرى من الشمال السوري، بحسب بيان لمنسقي الاستجابة في الشمال السوري. وقد ترافق ذلك مع إعلان عدد من القرى والبلدات مناطق منكوبة من قبل مجالسها المحلية، ومع عجز مديريات الصحة والمنظمات الإغاثية عن تلبية الاحتياجات الجديدة للنازحين.
البداية كانت من جرجناز
يلاحظ المتتبع لخريطة المناطق التي بدأت بالتعرض للقصف منذ ما يزيد عن الشهرين -رغم وجودها ضمن المنطقة منزوعة السلاح الثقيل التي تم إقرارها في اتفاق سوتشي أيلول الماضي- أنها تتركز قرب طريق حلب- دمشق الدولي في الجزء الجنوبي من المنطقة المشمولة بالاتفاق. وكانت البداية مع جرجناز جنوب شرق معرة النعمان في بداية كانون الأول، ثم تبعتها بعد أيام بلدة التح ومدينة خان شيخون بريف إدلب الجنوبي، وكفرزيتا بريف حماة الشمالي.
وقد تعرضت هذه المناطق لقصف شبه يومي طيلة نحو شهرين، وهو ما أدى لنزوح سكانها بشكل شبه الكامل. ويقول عبادة زكرة، العامل في الدفاع المدني في معرة النعمان، إن أكثر من 80% من سكان جرجناز والتح وخان شيخون نزحوا باتجاه الشمال، في حين أكد ناشطون محليون أن عدد السكان الباقين في جرجناز لا يتعدى نسبة 5%، وأن نسبة النزوح زادت على 90% في خان شيخون.
وكانت المجالس المحلية في جرجناز والتح بريف إدلب الجنوبي، وكفرزيتا بريف حماة الشمالي، قد أعلنت هذه البلدات مناطق منكوبة في وقت سابق من شهر شباط الجاري، وقامت بتعليق الدوام الرسمي في كافة المراكز الحيوية فيها حرصاً على سلامة الأهالي والعاملين.
خارطة القصف تتوسع
بالتزامن مع اجتماع سوتشي الأخير في الرابع عشر من شباط الجاري، الذي ضم رؤساء الدول الضامنة لمسار أستانا واتفاق سوتشي، بدأ النظام تصعيداً عسكرياً واسعاً طال مناطق واقعة على طريق دمشق حلب الدولي وفي محيطه، إضافة إلى قرى ريف حماة الشمالي والغربي، ليشمل القصف المدفعي والصاروخي إضافة إلى المناطق السابقة كلاً من: معرة النعمان، كفرنبل، الدير الشرقي، تلمنس، الهبيط، كفر سجنة، ، بسيدا، قلعة المضيق، كفرزيتا، مورك، اللطامنة، الحويز، الشريعة، باب الطاقة، عطشان، الأربعين، الزكاة.
وقد وثق مركز معرة النعمان الإعلامي سقوط 1256 قذيفة مدفعية وصاروخية على هذه المناطق خلال أربعة أيام فقط، من الثالث عشر إلى السابع عشر من شباط الجاري، محصياً استشهاد 29 مدنياً وإصابة 129 آخرين خلال هذه الأيام الأربعة. ويقول عبادة زكرة إنه تم استهداف هذه المناطق بصواريخ شديدة الانفجار، تعادل القوة التدميرية لبعضها صواريخ الغارات الجوية، ذلك إضافة إلى الصواريخ العنقودية وقذائف المدفعية، ومصدرها نقاط تمركز قوات النظام في منطقتي أبو دالي وأبو عمر بريف حماة.
وبالتزامن مع هذا التصعيد، شهدت مدينة إدلب يوم الاثنين الماضي تفجيراً مزدوجاً في حي القصور المكتظ بالسكان، أودى بحياة 17 مدنياً، إضافة إلى إصابة نحو 80 آخرين بينهم مسعفون وإعلاميون. ونظراً لهذا التزامن، وجه كثيرون أصابع الاتهام للنظام بالمسؤولية عن هذا التفجير، إذ يقول الناشط المدني أبو محمد، المقيم في مدينة إدلب بعد تهجيره من حلب، إن «قوات الأسد سبق أن استخدمت سياسة التفجيرات إلى جانب القصف، في معركتها للسيطرة على أحياء حلب الشرقية عام 2016».
الواقع السياسي
يقول الناشط الحقوقي عبد الناصر حوشان إن «ما يجري في المنطقة يندرج في إطار محاولة فرض معادلة على الجانب التركي، تقول إن منطقة إدلب مقابل منطقة شرق الفرات، إذ لا ننسى أن هدف روسيا هو إعادة جميع المناطق إلى سيطرة النظام، سواء عن طريق العمليات العسكرية، أو من خلال الاتفاقيات والمصالحات».
وهو ما تؤكده أيضاً إيمان هاشم، رئيسة مجلس مدينة حلب الحرة، إذ تقول إن «المناطق المحررة باتت ملعباً للدول الكبرى والإقليمية في توازناتها واجتماعاتها، بحيث يتم تصعيد القصف في كل مرة يصل فيها المجتمعون إلى طريق مسدود، أو عند كل استحقاق يخص الحل في سوريا».
ويتخوف جميع الناشطين الذين تواصلنا معهم في المنطقة من إعادة سيناريو مطلع العام 2018، عندما تقدمت قوات النظام وسيطرت على مناطق شاسعة بريف إدلب الشرقي وحلب الجنوبي تنفيذاً لتفاهمات دولية، معتبرين أن النظام يسعة اليوم إلى السيطرة على الطريق الدولي، وهو ما يفسر استهداف المناطق المحاذية له.
وتستند هذه المخاوف إلى التصريحات الأخيرة التي أطلقها وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، عندما تحدث في مؤتمر ميونيخ منذ أيام عن اتفاق الدول الضامنة على استراتيجية «الخطوة بخطوة لاستعادة إدلب من التنظيمات الإرهابية» على حد تعبيره، مؤكداً أن روسيا ستفعل كل شيء لمساعدة الحكومة السورية على استعادة أراضيها، وهو ما يبدو مناقضاً للتصريحات التركية المتكررة عن عمل مكثف لتنفيذ اتفاق سوتشي بشأن إقامة منطقة منزوعة السلاح الثقيل في إدلب، والتوصل إلى تفاهمات تقضي بإطلاق دوريات مشتركة روسية تركية في المنطقة.
الفصائل ترد، ونقاط المراقبة التركية صامتة
تتداخل أماكن انتشار عدة فصائل المعارضة في المناطق التي تتعرض للقصف، إذ تتوزع نقاط التمركز فيها على فصائل جيش العزة وجيش النصر وأحرار الشام والجبهة الوطنية للتحرير، إضافة إلى فيلق الشام وهيئة تحرير الشام، كما تتوزع العديد من النقاط التركية التي أنشئت لمراقبة اتفاق خفض التصعيد في المناطق المستهدفة.
ويقول إبراهيم الصالح، رئيس المجلس المحلي بقلعة المضيق، إن وفوداً شكلت من أبناء المنطقة بهدف التواصل مع نقطة المراقبة التركية في شير مغار، التي تقع على بعد سبعة كيلومترات شمال قلعة، وكان رد الجانب التركي بأنه «يجري اتصالاته مع روسيا لوقف خروقات النظام على المنطقة»، إلّا أن هذه الخروقات لم تتوقف، بل ازدادت حدتها خلال الأيام الماضية. وهو ما أكده الناشط المدني عبيدة من أبناء كفرنبل، الذي قال «إن النقاط التركية لم تتخذ أي إجراء منذ بدء الهجمات»، فيما يرى الناشط المحلي ممتاز أبو محمد إن «النظام يسعى من خلال هذه الخروقات إلى جر الفصائل العسكرية إلى المعركة، وإلى تخريب الاتفاقات العسكرية بين الروس والأتراك، معتبراً أن ما يحدث هو خطة إيرانية».
وقد طالب المجلس المحلي في خان شيخون الفصائل العسكرية باتخاذ كافة الإجراءات الرادعة، وباستهداف المواقع العسكرية لقوات النظام، مستنكراً «عدم إيفاء الضامن التركي بالتزاماته وتعهداته بحماية المناطق المحررة من القصف»، مؤكداً أن على المجتمع الدولي التدخل لحماية المدنيين من «القتل الممنهج وإرهاب الدولة التي تمارسه قوات الأسد». أما النقيب ناجي مصطفى، الناطق باسم الجبهة الوطنية للتحرير، فيرى من جهته أن نقاط المراقبة التركية تقوم بعملها من خلال «توثيق الانتهاكات»، وأن للفصائل «حق الرد» على هذه الخروقات، مؤكداً أنها قامت باستهداف تجمعات نظام الأسد والميليشيات الحليفة له، وحققت إصابات في صفوفها.
النقيب مصطفى معراتي، الناطق باسم جيش العزة في حماة، قال للجمهورية «إن التصعيد الأخير أسلوب قذر بأدوات قذرة، اعتمد استهداف المدنيين لإنهاء الثورة وحاضنتها الشعبية التي خسرت أكثر من 100 شهيد في الأيام الأخيرة، وهو لن يزيدنا إلا إصراراً على المتابعة»، مقللاً من أهمية الاتفاقيات المبرمة حول مناطق خفض التصعيد، ومؤكداً أن الفصائل ترد في كل يوم على هذه الخروقات، وأنهم على أهبة الاستعداد لصدّ أي هجوم على المنطقة، وهم لم يستبعدوا يوماً خيار المعركة التي لن «تكون نزهة»، مؤكداً أن «الصراخ على قدر الألم» على حد تعبيره.
وبعيداً عن التصريحات الرسمية، أبدى معظم الذين التقيناهم في المناطق المستهدفة تخوفهم من «تخلي تركيا عن دورها في الوقوف إلى جانبهم»، ومن احتمالية قيام الأسد بهجمات عسكرية برية للسيطرة على مناطقهم، مقللين من أهمية الدور التركي الذي يكتفي بإحصاء هذه الانتهاكات وتوثيقها، وهو «أمر لا يجدي نفعاً مع نظام قتل وشرد آلاف السوريين».
وقفات احتجاجية وأوضاع إنسانية حرجة
شهدت الأيام الماضية وقفات احتجاجية في عدة مناطق في الشمال السوري، تضامناً مع المدنيين الذين يتعرضون للقصف، وتأكيداً على رفض الاستسلام للنظام، كان آخرها الوقفة الاحتجاجية في بلدة أورم الكبرى بريف حلب الغربي يوم أمس، التي عبر فيها المحتجون عن «رفض أي اتفاق يجري على حساب على دماء الشعب السوري»، بحسب سامي القربي عضو مجلس محافظة حلب، الذي طالب في حديث له مع الجمهورية الفصائل العسكرية بالرد على هذه الخروقات بكافة الوسائل الممكنة.
من وقفة احتجاجية في أورم الكبرى
لا يزال القصف مستمراً على مناطق عدة، ومعه تستمر حركة النزوح في ظل غياب القدرة على الاستجابة جراء تعليق منظمات كثيرة لعملها بعد توسع سيطرة هيئة تحرير الشام مؤخراً. وتعاني سائر مناطق إدلب وريف حماة من نقص حاد في الأدوية والمستلزمات الطبية، إذ أعلنت عنه مديرية صحة حماة في بيان أصدرته قبل أيام حالة الطوارئ لاستقبال الإصابات والجرحى، مؤكدة أن معظم المستشفيات والمراكز الصحية التابعة لها تعاني من نقص في المخزون الاستراتيجي من الأدوية والمستلزمات بعد توقف الدعم عنها. كما أعلن منسقو الاستجابة في شمال سوريا في بيان لهم أن هناك 179 مركزاً طبياً معرضاً لخطر التوقف عن العمل بعد انقطاع الدعم عن المنطقة، التي تضم 4.7 مليون نسمة من السكان والنازحين والمهجرين.