وحده اللحم يحسّ بما يخالفه، وحده يلمس ويقترب ويبتعد عن شيء آخر، يعاني منه أو يتمتع به، يتأثر به ويستجيب له، لأنه وحده من يشعر.

جان لوك ماريون- الظاهرة الإيروتيكيّة

لا تنصاع اللذة لقوانين العقل ولا للقوانين الطبيعية، بل هي تُشكّلُ موضوعتها في عالم مختلف عن عالمنا هذا، الذي تقتبس منه لتكوين لحم وجلد وصوت يتطابق مع ما يستثيرها، كاللذة الذكورية التي تخلق نساءً مُتخيلات، مفرطات في الأنوثة، يتحركن في عالم فانتازميّ يحكمه رجالٌ فقط، يشكلون أجساداً بلا حدود حيويّة واضحة، مُصمَّمة بدقة لتخدم لذاتهم، يحدّقون بها وتحدّق بأعضائهم.

هذ اللحم المُتخيّل المؤنث، نظيفٌ دوماً، كجسد الجميلة النائمة الذي لا يعلوه الغبار بانتظار الفارس المخلّص؛ يرتعشُ دوماً، كأي ممثلة بورنو تؤدّي دورها؛ يضحكُ دوماً، كأي امرأة في إعلانات منظفات الغسيل؛ مُطيعٌ دوماً، كأي ربّة منزل، أُمّاً كانت أم زوجة نراها في المنتجات الثقافيّة؛ والأهم، منفيٌّ دوماً، يتكالب العالم ضده، كما في الأفلام التي تصور العاملات في الاستعراض من راقصات أو مغنيّات، اللاتي يتعرضنَ لعنف بسبب خياراتهن ورفضهنّ للدور الاجتماعي التقليدي.

ترسم هذه المخيّلة موضوع لذّتها، وتحوّله إلى نموذج تُطالب «الواقعيَّ» بأن يحتذي به، لتتحول الحياة اليومية اللامتناهية بقوانينها الفيزيائية وأدوارها المبتذلة والمتكررة إلى جهد وعمل، في سبيل مطابقة خصائص اللحم الفانتازميّ؛ سواء عبر عمليات التجميل -بغض النظر عن دورها في تحقيق سيادة جسد الأنثى على جسدها-، أو عبر الضوابط القانونية والأخلاقيّة التي توظف «المشين» و«المعيب» لخلق حدّ لا يجب تجاوزه كونه لا يتطابق مع المُتخيَّل الذكوري،  فاغتصاب الذكور ليس اغتصاباً بالمعنى القانوني في العديد من الدول، بل هو عنفٌ جنسي، وكأن ذلك يهدف إلى جعل «المُغتَصبْ» يتجنب عُقدة الضحيّة، التي تُترك لتكون حكراً على النساء، مع ما يرتبط بذلك من نظرة اجتماعية قاسية وأضرار نفسية.

المرأة ذات الثوب الأحمر

تحضر مُنتجات هذه المخيّلة الذكورية أمامنا بأشد أشكالها وضوحاً في شخصية جيسيكا رابيت، التي نراها في فيلم من أوقع بِروجر رابيت-1988. هي مغنية صاعدة في واحد من نوادي لوس أنجلوس، تحلم بأن تكون نجمة، وواحدة من المتهمين بقتل زوجها.

ما يميز جيسيكا أنها تمتلك خصائص جسديّة مُتخيّلة لا يمكن لمسها، لكنها في الوقت ذاته، تأسر الرجال من حولها وتفقدهم عقلهم. هي حسب تعبيرها: «ليست سيئة، لكنها مرسومة بهذا الشكل!». تكشف هذه العبارة سياسات التمثيل التي تحكم جسد جيسيكا القادرة على أسر الرجال فوراً حتى دون أن تتحدث، يكفي فقط أن تمشي-تطفو أمامهم، كي تُفتح أفواههم وينضحَ جبينهم بالعرق.

لا يمكن لجيسيكا رابيت أن تُوجَد حقيقة، لا يمكن لها فيزيائياً أن تكون من لحم ودم، فتكوينها الجسدي لا يسمح لها بأن تمتلك أعضاء داخليّة، هي ذات خصر دقيق جداً، وخصائص لا تتوافق مع الجاذبية الأرضية، هي نقيض الجسد الغروتيسك، مُتقنة الانحناءات، حادة الحواف، تتثنّى كأنها تتوازن على خيوط المُخيلة، ينجذب لها الجميع كالمنوَّمين مغناطيسياً. هي الشكل المثالي الذي لا بد من تذوقه والتهامه والإيلاج فيه، هي لا تخاطب العقل، بل تخاطب اللذة بصورتها الصرفة التي لا يمكن تفسيرها. هي جسد بلا أعضاء، تتصل «أجهزتها» ببعضها بعضاً على أساس قدرتها على إنتاج اللذّة الصرفة. الحدُّ بين جزء وآخر في جسدها، مرسومٌ على أساس شبقيّة الرجل، لا بهدف استمرارها بالحياة.

رابيت محفّز فائق للرغبة الذكوريّة، تتجاوز حدود الإدراك، والأهم أن انتشار هذا التمثيل للحم المؤنث والسعي لمحاكاته، يجعل وعينا بهذا «الشكل» من اللحم ذا معنى واحد، وكأنه «إعلان». هي امرأة، تبدو ساذجة، لعوباً، مُحترفةَ غواية، لا داعي لأن تعمل في مهن شاقّة، أحلامُها رومانسيّة، وكأن تكوينها الجسديّ مجموعة من «الأغراض» مسبقة الصنع، التي إن تواجدت مع بعضها بعضاً وفق أسلوب محدد، فهي تفترض أدواراً  ندركها في عقولنا فقط. هي تمثيلات تحرّك الذكورة والأنوثة في الوقت ذاته نحو وعي غرائزي لا يمكن ضبطه، وكأننا كلنا كالممثل بوب هوسكينز، الذي لعب دور المحقق الذي يبحث عن قاتل زوج جيسيكا رابيت، والذي قال إنه اضطر لتعلم كيف يهلوس، حتى يتمكن من رؤية جيسيكا، فهي غير موجودة إلا في عقله. وقد قيل له أثناء الأداء، فكّر بأكثر النساء جاذبيّة بالنسبة لك، وما حصل، أن رابيت تفوقت على مخيلته حسب تعبيره.

تعود المرأة ذات الرداء الأحمر للظهور مرة أخرى في فيلم ماتريكس-1999، وينظر لها بوصفها سلاحاً أنتجته الذكورة/النظام للهيمنة وتشتيت الوعي بزيف العالم، هي القادرة على تجاوز القانون والأخلاق، التي تسيطر عبر محاكاة أشد الغرائز ذكوريّةً. هي التجلي البصري المثاليّ للمُتخيَّل عن المرأة الخطرة-Femme fatal ، والضابط للتماسك الرمزي للعالم الذكوريّ ضد أي انحرافات أو اختلافات. هي فخُّ مصممٌ للإيقاع بمن يهدد النظام القائم، هكذا تُشكّلها المخيّلة الذكوريّة، كـ«أغراض» مجموعة تشكّل جهازاً  ذا هدف واحد، وهو تركيز الوعي في نقطة واحدة، وتحويله إلى ألم أسفل المعدة يقود الانتصابَ ويوجهه.

عالم من فتحات

يشكّل الفضاء البورنوغرافيّ مساحة مثيرة لرصد الجسد المؤنث المُتخيّل، ففيه مجموعة من أشكال الأداء وتكوينات اللحم التي تتطابق حرفياً مع كلّ أشكال المخيّلة الشبقيّة بِفئاتها الرئيسية والفرعيّة. وتتمثل قدرة البورنوغرفيا الذكورية على الهيمنة في أنها لا تترك مجالاً للتفكير، فرغبات المشاهد تُلبّى للأقصى، تقول البورنوغرافيا إن هذه لذّاتُك، وهذا شكلها، وكأن اللحم على الشاشة تجسيدٌ لحدود المخيلة الشبقيّة.

ولكن الأهم، أن البورنوغرافيا تُطالَبُ دوماً بأن تكون «حقيقية» تشابه الواقع، بعكس السينما التي لا تتعرض لهذا الضغط، فالأداء الإباحيّ يحرّك الأجساد فوق طاقتها، وأيّ خطأ بسيط على الشاشة يُفقد الأجساد الشبقيّة قيمتها لتُّتهم بأنها «غير حقيقة» و«زائفة». وهنا تتجلى هيمنة اللذة، إذ هي تُغيّبُ العقل وتنفي مفهوم العمل، فالمؤدون يتقاضون أجوراً مقابل «جهدهم» وعملهم الذي يتقنونه، وفي كلّ مرة سننال النتيجة نفسها، أما زمن الاستهلاك فينتهي عند الرعشة، لا عند انتهاء الفيلم، الذي يُصمَّمُ فيه اللحم لضبط إيقاع اللذة وفق زمن الانتصاب والقدرة على الاحتمال.

يحضر اللحم المؤنث ضمن هذا الأداء المتخيّل بوصفه شديد الشبقيّة، هو مؤغلم في كل مكان، كأنه بأكمله بظرٌ يصلح للاستمناء، لا فرق بين يدٍ، أو فرج، أو فخذٍ، أو قدم، فكلها لا بد أن تُستثار بمجرد لمسها، ولا بدَّ أن ينتهي هذا اللمس برعشة. شدة التحديقة البورنوغرافيّة تحوّل اللحم بأكمله إلى مساحة للاستمناء، كل مسام صالحٌ للأغلمة الذاتية لهذا اللحم، وكأن لا وظيفة له سوى أن يكون شبقياً ومطابقاً لمخيّلة المشاهد المُذكّر.

ينسَحبْ هذا الأداء على سلوك اللحم المؤنث بأكمله، ليكون تمهيداً للإيلاج في أي لحظة، حركات المؤديّة البورنوغراغيّة مدروسة بأسلوب خاص ينتهي دوماً بما يريد «الرجل»؛ هي تحبّ ما يحب، تلعق ما يلعق، تلمس ما يلمس؛ هي حسب تعبير فيرجيني دويانت مؤلفة كتاب نظرية كينج كونج: «تؤدي كرجل مثلي في الغرفة الخلفيّة، هي تظهر في الفيلم على أنها تريد الجنس دوماً، مع أي أحد، في كل حفرة، وترتعش في كلّ مرة، كرجل يختبئ في جسد امرأة»، وكأن هذا اللحم المُتخيّل مجموعة من الفتحات اللامتناهية، كلها تصلح للإيلاج الذي لا بدّ أن يكون مثيراً للمؤديّة؛ كل مسام صالحٌ لأصبع أو لسان أو ذكر، وكأن هذا الداخل اللحميّ يتأغلم بأكمله بمجرد الدخول في أي فتحة، فم، فرج، شرج وحتى سرّة، كلها فتحات نشاهد على الشاشة أصابع توسِّع أقطارها للأقصى، لنرى حفراً تملؤها أصابع رجال ونساء تنبش لذة الدفينة، حفرٌ تتسع للأقصى لتبتلع كل الرغبات، فهذا الداخل، كميدوزا، غواية لا نهائيّة، لا بدّ من النظر إليه كي يتجمّد المحدّق شبقاً، وكأن النشوة لا تتم إلا حين تتطابق فتحة الوعي «العين» مع واحدة من فتاحات اللذّة، وتضيع في ظلامها.

هذه المخيّلة التي تُحركها دخولاً وخروجاً أصابع وأغراض مبتلة باللعاب أو السائل الأمنيوسي، تجعل من الحفر علامات على لا حدود المُخيّلة وما تتطلبه اللذة من شدّة، وكأن كل هذا اللحم يجب أن يتكوّر بشكل ما، ليخلق دوائر في كل مكان يلج فيها الذكر، لحم مؤنث مائع لا بد أن يفقد عموده الفقري وعظامه وحساسيته الذاتية لصالح الاستدارة استعداداً لاستقبال أي انتصاب.

هذا الجسد المتخيّل، لا نهائيّ الفتحات، نراه في صناعة الألعاب الجنسيّة، وأشهرها القدم ذات الفرج، Vajankle، التي لا يمكن النظر إليها إلّا كعلامة مرئيّة على صناعة اللذّة الذكوريّة، تلك التي تتجاوز الشكل البشريّ، نحو آخر، لا حقيقي، لكنه ذا خصائص بشريّة-فيتيشيّة تخاطب العين-الوعي، والقضيب- اللذة. هذه العلامة المصنوعة من اللايتكس، تُخفي وراءها سلسلة من المعايير التي تتحكم بأشكال وأساليب التعديل الرقميّ لخلق صور «جذّابة»، كما أنها تحرك صناعات الأنوثة الفائقة، تلك التي تنصاع لمعايير الجمال الذكوريّة، المرتبطة بحجم اللحم والطول والوزن والملمس، لخلق أجساد مؤنّثة مُعدّلة مُفرطة في خصائصها، أجساد بدون أضلع سفليّة في القفص الصدري، لا تنصاع فقط لشكل الدمية ذات الحركة المثاليّة التي تتطابق مع أصابع مُحرِّكها، بل تتحرر أيضاً من سطوة العُمر. تتلاشى التغيرات الجسديّة وخبرة اللحم عبر الزمن، فهناك سعيٌ ليكون اللحم المؤنثّ المتخيّل متقنَ التكوين، ناصعاً، مشدوداً، فائق الواقعيّة، وكأنه يتحرك خارج الزمن.

تحمي هذه المخيّلة الذكورةَ وتمنع انتهاكها، بل وترى في رد الفعل على عنفها شيئاً غير مألوف، كما في الأفلام التي تصور الاغتصاب، الذي ينتهي عادة بأن ينصاع اللحم المؤنث المُتخيَّل للقضيب، ويفقد قدرته على المقاومة، فلا بدّ من ملء الحفرة في النهاية، في حين أن أي رد فعل «عنيف» من قبل «المؤنث» يُقابَل بالنقد الشديد، وخصوصاً في المُنتجات التي تصور قطع القضيب أو الخصاء، أو التمثيلات التي تهدّد الذكورة في جوهرها وتجليها الماديّ، إذ تتم محاربة الأفلام التي تصور ذلك، كفيلم انكحني لـ فيرجيني دبيانت وضد المسيح لـ لارِس فون تراير، وكأن هناك لوماً واتهاماً للمرأة حين تمارس حقها بالدفاع عن نفسها، رافضة الانصياع لرغبات التستوسترون الذي يشبه غازاً يملأ الهواء، ولا بد من استنشاقه والتخفيف من تركيزه وإلا فإنه سينفجر. والأهم، هو أن رد الفعل الذي يهدد الرجولة يتبعه اتهامات بالوحشية واللاطبيعيّة، حتى لو جاء ضمن سياق مُتخيّل، في حين أن إدخال عشرة أصابع في فرج ما لا مشكلة فيه، وهو أمر فانتازمي شبقيّ.

نلاحظ الأمر ذاته حين نقرأ عن الحوادث الحقيقية التي يكاد يحصل فيها اغتصاب، لولا أن المرأة تمكنت من الفرار، إذ أن هناك نوعاً من السخرية عند الحديث عنها، كونها تهدد الشكل الماديّ للرجولة (القضيب)، إذ نتلمس نوعاً من التأنيب الضمني، وكأن الأمر «لا يستحق كل هذا»، فـ «نجاة» الفتاة أمر جيد، لكن الرجل المسكين قُضِمَ قضيبه، وإصابته خطيرة حتى أنه قد يخسر «رجولته». ثمة عتبٌ من نوع ما، وكأن دفاع المرأة عن سيادتها على جسدها مؤذ، ويسبب عطباً للرجل الشبقي المُنتصب ذي التستوستيرون الخارج عن السيطرة.