بفأس أو بمنشار كهربائي؛ فرادى أو مجموعات؛ بغرض البيع والإتجار، أو لمقارعة وحش البرد في ظل غياب المحروقات وانقطاع الكهرباء؛ بمعرفة مسبقة بخطورة ذلك، أو جهلاً بفداحة النتائج؛ يتم القضاء على المساحات الخضراء في سوريا، بطريقة مخيفة، وسط إحصاءات تشير إلى أن ما يتم تدميره منها قد يحتاج إلى عشرات الأعوام لإعادة تدارك جزء منه، ليتقاطع ذلك مع سيناريوهات مشابهة من الخسارات الوخيمة التي قد يبدو تعويضها مستحيلاً، والتي مُني بها السوريون بشراً وحجراً وتاريخاً وبنى تحتية ومجتمعات.

وتطلق المنظمات والتجمعات المعنية إنذارات الخطر في هذا المجال منذ أعوام، دون أن يكون ثمة مساع جدية لكبح جماح عملية القضم التي حولت مساحات خضراء في الغابات والأحراش السورية إلى مناطق جرداء، بإمكان الناظر إليها عبر الخرائط فقط ملاحظة الفرق، ورؤية ألوان التربة والحجر التي كشفها غياب الأشجار الكثيف في مناطق كانت توصف بالجنان، وكانت مقصداً للسوريين البسطاء في «سيران» الجمعة، قبل أن يضطروا لخوض سيران طويل إلى مدن بعيدة وبلاد أخرى. هذه صورة مجازية غاية في إثارة للأسى… البلاد تشبه امرأة بدأ شعرها بالتساقط، بعد أن تعرضت لجلسات الكيماوي وفقدت مناعتها.

تشير التقارير المتقاطعة إلى أن المساحات الخضراء في سوريا فقدت أكثر من نصفها بسبب عمليات التحطيب الفردية والجماعية، إذ يلجأ كثيرون إلى قطع الأشجار بهدف جمع الحطب للتدفئة بشكل أساسي، لكن آخرين رأوا في هذا الميدان فرصة لكسب الأموال من خلال الإشراف على قطع الأشجار بشكل ممنهج بغرض بيعها والإتجار بها، مستغلين حاجة الناس لوسائل التدفئة وغياب السلطات الرقابية، خاصة في مناطق المعارضة في الشمال السوري.

إضافة للتحطيب، اندلعت حرائق واسعة في الأحراش والغابات، لم يكن معظمها بمحض الصدفة أو عن طريق الخطأ، ذلك أن النظام اتّبع أسلوب «حرق الغابة» منعاً لاختباء «الأعداء» فيها في مناطق عدة، فضلاً عن القذائف والبراميل العمياء، التي تُحيل كل ما وقعت عليها رماداً، والتي تم استخدامها بكثافة في قصف مناطق المعارضة في حلب وإدلب واللاذقية وريف دمشق والجنوب السوري، ومنها مناطق تنتشر فيها الأشجار بكثافة، ما أدى لاندلاع حرائق ضخمة أكلت الجذوع والأغصان والثمر الناضج.

تشكلت المساحات الخضراء بشكل طبيعي عبر مئات السنين، ولا يمكن أن تعود إلى ما كانت عليه إلا بجهود مكثفة وطويلة الأمد قد تمتد لعشرات الأعوام. هذا في حال وجود استقرار سياسي واجتماعي وظروف صحية، ووجود جهة حاكمة مسؤولة تتفهم المخاطر الجدية للتصحر. أما في الظروف الراهنة، فإن لا شيء يبشر بخير أو يدعو للتفاؤل، ذلك أن جهود التدمير والمحو أكثف بكثير من تلك الهادفة إلى تلافي الخطر.

وتشكّل الغابات والأحراش السورية مأوى طبيعياً لمئات الحيوانات والطيور البرية، التي تضطر للهجرة وتغيير المكان جراء قطع الغابات، فيما تلعب الأشجار دوراً هاماً وحيوياً في الحفاظ على التربة ومنع انجرافها، إضافة إلى دورها الأساسي في تلطيف المناخ وتنقية الهواء. هناك مئات الأنواع من الأشجار التي يتم التحذير من انقراضها لعدم وجود نظائر لها في بيئات مختلفة، إضافة إلى أنها أشجار معمرة وأعمار بعضها يتجاوز مئات السنين.

وتفيد المصادر بأن هناك مساحات خضراء كبيرة اختفت بشكل كلي في عدة مناطق بسوريا، بسبب القطع الممنهج لها، وأن أغلب هذه المناطق تقع في أرياف إدلب وحمص وحلب والساحل السوري ودمشق.

الناشط سلطان الشامي من ريف دمشق، أفاد للجمهورية بأن أبرز المساحات التي اختفت في المنطقة «هي في سهلي الزبداني ومضايا، وكان ذلك أثناء حملة قوات النظام عليهما، حيث قطع عناصر النظام وحزب الله كافة الأشجار لتسهيل دخول المنطقة، وتعتبر هذه المنطقة من أكثر المناطق الخضراء تضرراً في سوريا، كما كان للمدنيين في المدينتين نصيب من الاحتطاب بغرض التدفئة، لا سيما في الفترة التي شهدت حصاراً خانقاً».

وأضاف الشامي أن أحراش بئرعجم وبريقة في القنيطرة «اختفت فيها المساحات الخضراء، حيث كان المدنيون وفصائل المعارضة يحتطبون منها، وبعد سيطرة النظام بدأ عناصره بقطع الأشجار وبيعها، فيما شهدت منطقة تل الحارة في درعا حملات احتطاب من قبل المدنيين وفصائل المعارضة». مشيراً إلى أن «قطع الأشجار بهذه الكثافة قد يسبب انجرافات ترابية كبيرة، وارتفاعاً في درجات الحرارة خلال فترات الصيف، حيث كانت الأشجار تساهم في خفض درجات الحرارة في المناطق المجاورة لها. ويمكن تدارك هذه المشكلة بتنفيذ حملات تشجير واسعة ومركزة، ولكن ذلك غير متاح إطلاقاً ضمن المعطيات الراهنة».

أما من ريف حمص، فقد أفاد الناشط أنس أبو عدنان للجمهورية بأن أهم الغابات التي اختفت في محافظة حمص كانت في الرستن ومناطق الريف الشمالي، مثل الأشرفية وتلبيسة والحولة وأبو حمام، وذلك بسبب الاحتطاب من قبل الأهالي والتجار. ويضيف أبو عدنان: «أدى ارتفاع أسعار المحروقات وندرتها، مع غياب اليد العاملة جراء اعتقال قوات النظام للشبان، إلى جعل التحطيب الوسيلة الوحيدة للعوائل التي لا تملك ما يكفيها، وإلى اختفاء الأشجار عن جوانب الطرقات بشكل واضح».

وقبل ذلك كانت قوات النظام قد قصفت الأراضي الزراعية بالنابالم والفوسفور والبراميل، خلال معاركها مع فصائل المعارضة خلال الأعوام الماضية، ما أدى لفقدان مساحات زراعية واسعة في أرياف حمص جميعها، مثل القصير ومهين ومحيط العاصي. كما تراجعت المساحات الخضراء والأحراش بشكل ملحوظ في ريف حمص الغربي، في مناطق وادي النصارى المتداخلة مع أقصى ريف طرطوس الشرقي، جراء التحطيب الجائر من أجل الحصول على الفحم والإتجار به، وفي مناطق الزارة ومحيط قلعة الحصن، جراء المعارك التي شهدتها المنطقة خلال العام 2013، وذلك بحسب مصادر محلية من أبناء المنطقة.

كذلك شهدت المناطق الخضراء في الشمال السوري، إدلب واللاذقية خصوصاً، وهما المحافظتان اللتان تحتويان على ما يقارب خمسين بالمئة من أشجار سوريا، تغيراً كبيراً في ملامح الغابات والأحراش الكثيفة فيهما. وأفادت مصادرنا بأن أكثر الغابات المتضررة هي تلك الواقعة قرب نهر العاصي من الجهة الغربية، ومنها غابات الشيخ سنديان وعين جرون والحسينية والحمامة، التي تضم مئات الأنواع المختلفة من الأشجار المعمّرة ودائمة الخضرة، حتى أن نحو سبعين بالمئة من المساحات الخضراء في هذه المناطق اختفت بسبب التحطيب واسع النطاق، والحرائق الكبيرة التي تسبب بها القصف.

وقال خالد الإدلبي،  وهو ناشط محلي في إدلب، إن العديد من الغابات والأحراش والجبال الخضراء اختفت، إضافة لغياب الأشجار عن طرفي طريق حلب دمشق الذي يخترق المحافظة، إذ كانت عمليات التحطيب جائرة جداً. ويضيف الناشط أن من يذهب للاحتطاب، يبرر ذلك بالقول إن «البلد كلها راحت… شو وقفت عالشجر؟». وبالإضافة إلى ذلك، ذكرت تقارير عدة أن مئات الأشجار في منطقة عفرين شمال غربي حلب، التي تسيطر عليها فصائل مدعومة تركياً، تم قطعها بهدف بيع الحطب، وعلى وجه الخصوص أشجار الزيتون التي تنتشر بكثافة في تلك المنطقة.

إذا ما استمر قطع الأشجار بهذه الوتيرة، فإن المستقبل لا يحمل بشائر طيبة على الإطلاق بخصوص سلامة البيئة وغنى الثروة الشجرية في سوريا، التي تحتشد المنظمات على حدودها، وتفيض بالجوعى والراجفين برداً والنائمين على الطوى، ويحكمها السلاح متعدد الجنسيات. ستتراكم جذوع الشجر المقطوعة على امتداد البصر قرب ركام البيوت والشواهد، وسيكتب التاريخ أن المجازر الجماعية طالت كل شيء يتنفس في هذه البلاد. أن الطيور كانت ترتحل فوق رؤوس النازحين تاركة أعشاشها المهدومة، وأن كل الفؤوس وقعت في رأس البلاد دفعة واحدة.