ثمة توجّهان لتناول مسألة اللامساواة في الكتابات والأدبيات المتعلقة بهذه القضية، الأول يُعنى بقياس الواقع الفعلي للامساواة «reality approach»، والثاني يتناول إدراك الأشخاص للامساواة، أو قناعاتهم حولها «perception approach». وعلى سبيل المثال، قد يشير الواقع الفعلي للامساواة في مجتمع ما إلى أن أغنى 10% من السكان يتحكمون في 70% من حجم الثروة في ذلك المجتمع، ولكن حين نسأل مجموعة من السكان عن القدر الذي تملكه شريحة العشرة بالمئة الأغنى من السكان، قد يميلون لتضخيم نصيب هذه الشريحة، فيقولون إنهم يعتقدون أنها تملك 90% من الثروة، أو أنهم قد يميلون إلى تقليل تلك الحصة، فيقولون إنها تملك فقط 50% من إجمالي حجم الثروة.
في ذلك المجتمع نفسه، قد يكون هناك شخصٌ ضمن شريحة الـ 20% الأفقر من السكان «reality»، لكن حين تسأله عن وضعه وأين يتصور موقعه في السلم الاجتماعي، قد يخبرك أنه يقع في شريحة أعلى من تلك الأكثر فقراً «perception»، وهكذا فإن هذا الشخص يعتقد أن وضعه أحسن حالاً مما هو عليه في الواقع.
في آذار (مارس) 2018، في إحدى الندوات التي أقيمت في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، وكان موضوعها «عدالة الفرص»، علقت إحدى الحاضرات، وهي أكاديمية تعمل في حقل الاقتصاد، بأن اللامساواة في مصر مرتبطة إلى درجة كبيرة بقناعات الأفراد وليس بالأرقام والقياسات الإحصائية التي يتم استخدامها لقياس معدلات اللامساواة. ما حاولت السيدة قوله ببساطة، هو أن الناس في مصر يشعرون أو يعتقدون أن هناك ارتفاعاً كبيراً في معدلات اللامساواة، إلا أن الأرقام والإحصاءات تقول غير ذلك.
أكتشفتُ لاحقاً أن هذه الأكاديمية شاركت في كتاب صدر عن البنك الدولي عام 2014، يتناول وضع اللامساواة في مصر. والفكرة النهائية التي حاول الكتاب إيصالها، متطابقة مع ما قالته الأكاديمية في الندوة، وهي أنه لم يكن صحيحاً ما قيل خلال ثورة الخامس والعشرين من يناير عن وجود نسبة مرتفعة جداً من اللامساواة في مصر، وهو ما ساهم لدرجة ما في اندلاع الثورة، بل إن الأمر هو وجود انطباع عام لدى عموم المصريين بأن هناك تزايداً في حدة اللامساواة. بمعنى آخر، فإن ما يعنيه منطق الإدراك ذلك، هو أن المصريين الذين خرجوا ليطالبوا بالعدالة الاجتماعية، كانت لديهم أوهام بأن وضعهم يسوء، أو في أفضل الأحوال يظل كما هو عليه، في حين أن هناك آخرين يتحسن وضعهم بوتيرة متسارعة للغاية، ولكن الإحصاءات تقول غير ذلك.
ولكن، فلنفترض أن وضع اللامساواة في مصر ليس شديد الخطورة كما يحاول أن يؤكد بعض الأكاديميين وصانعي السياسات والمؤسسات الدولية، ولنفترض أن الأمر برمته لا يتعدى كونه نابعاً من الإدراك الشخصي للأفراد، بعيداً عن الموضوعية التي توفرها القياسات الإحصائية، مثل معامل جيني الذي يقيس معدلات التفاوت في الدخول، علماً أنه لا يمكن التعويل كثيراً على تلك القياسات في الحالة المصرية، خاصة في ضوء رداءة قواعد البيانات؛ فلنفترض أن كل ذلك صحيح، فهل يعني هذا أن الإدراك الشخصي لوضع اللامساواة والتفاوتات الاقتصادية والاجتماعية أمر غير مهم؟
يجيبنا الاقتصادي الفرنسي فرانسوا بورجوا في كتابه عولمة اللامساواة بالنفي، إذ يؤكد على أهمية بُعد الإدراك الشخصي لوضع اللامساواة داخل البلدان، وتأثير ذلك على الاقتصاد السياسي لعملية التوزيع وإعادة التوزيع التي تتم فيها. ويشير بورجوا في كتابه إلى أحد المسوح التي تم إجراؤها لمعرفة الإدراك الشخصي لتطور اللامساواة داخل عشرة بلدان بين عامي 2000-2010، وقد جاءت الإجابات فيه مفاجئة بعض الشيء، إذ أن أقل من 50% من الأميركيين المشاركين في المسح فقط رأوا أن اللامساواة في أميركا تزايدت خلال تلك الفترة، على الرغم من أن أميركا تعدُّ أكثر الدول الصناعية لامساواة، بل ويشار لها بالبنان كنموذج صارخ فيما يتعلق بالاستمرار المتزايد في معدلات اللامساواة، سواء على صعيد الدخل أو الثروة. بينما على الجانب الآخر، في فرنسا التي تشهد معدل لامساواة أقل من أميركا، فإن ما يقرب من 80% من الفرنسيين المشاركين في المسح رأوا أن اللامساواة تزايدت في بلدهم. وفي الحقيقة، فإن الفرنسيين والأميريكيين على حق، فاللامساواة تزايدت في البلدين، ولكن الزيادة في الحالة الفرنسية لا يمكن مقارنتها بالزيادة الملفتة للانتباه في الحالة الأميركية.
وفي الصدد نفسه، يشير مسح آخر إلى وجود ميل لدى الأميركيين والإنكليز للتقليل من حجم اللامساواة في البلدين، في حين يميل الفرنسيون والألمان للتضخيم من حجم اللامساواة في بلدانهم. وفي الحالة الأميركية بشكل خاص، يبدو أن ذلك الميل لدى الأميركيين للتقليل من حجم اللامساواة ينطبق على كل من الثروة والدخل. فهل نستطيع أن نقول إن لدى الأميركيين ميلاً للتصالح مع اللامساواة، أكثر من نظرائهم في بلدان أوروبا القارية، فرنسا وألمانيا وإيطاليا أو الدول الإسكندنافية؟ أو هل نستطيع أن نقول إن لدى الفرنسيين حساسية أكبر من الأميركيين فيما يتعلق بالتفاوتات الاجتماعية واللامساواة الاقتصادية؟
تبدو نتائج تلك المسوح ملفتة للانتباه، خاصة في ضوء ما عاشته ولا زالت تعيشه فرنسا على وقع حركة السترات الصفراء. تعدّ فرنسا من البلدان القليلة ضمن مجموعة الدول المنضوية في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD، التي لم يحدث فيها تحرير لعلاقات العمل، بل إن فرنسا وعلى عكس التوجه العالمي، تزايدت فيها صرامة القوانين والقواعد التي تحكم علاقات العمل. أما على الجانب الآخر في أميركا، فقد شهدت علاقات العمل تحريراً منقطع النظير، بحيث أنه يمكن في غمضة عين أن يتم فصل العامل دون أدنى مشكلة.
يتباهى الأميركيون بانخفاض معدل البطالة لديهم مقارنة بأوروبا، ويشيرون إلى أن عدم تحرير أوروبا لأسواق العمل هو السبب الرئيس وراء ارتفاع نسب البطالة فيها. كذلك فإن الحد الأدنى للأجور في فرنسا أعلى من نظيره في أميركا، وهو الأمر الذي يضرّ بمعدل التوظيف ويرفع نسبة البطالة وفقاً للنظرية الاقتصادية التقليدية، ولكن خلال احتجاجات السترات الصفراء، لم يكترث المحتجون للاقتصاديين ونظرياتهم، وكان من بين طلباتهم رفع الحد الأدنى للأجور. ويمكن القول إن القواعد والمؤسسات الحاكمة لعلاقات العمل، تعكس إلى درجة ما قناعات ورؤى المجتمعات حول مسألة العدالة الاجتماعية والعملية التوزيعية، تلك القناعات التي تؤثر بدورها على تفضيلات عموم المواطنين بين السياسات المختلفة.
وهكذا فإن المسألة الاقتصادية ليست حكراً على الاقتصاديين وأدواتهم الاحصائية، بل تتداخل فيها أمور أخرى بعيدة تماماً عن منطق الحدّ الأمثل الذي يعبده الاقتصاديون، فنجدهم يقولون إن هناك حداً أمثلَ للّامساواة، التي لا بدّ من وجود قدر منها حتى لا يتضرر النشاط الاقتصادي، أو يتضرر الحافز لدى المشاركين فيه. ويقولون إن هناك حداً أمثلَ للحدّ الأدنى للأجور، لا ينبغي تخطيه حتى لا يتأثر معدل التوظيف. لكن القدر الأمثل من اللّامساواة من وجهة نظر الاقتصاديين، قد لا يكون كذلك من وجهة نظر عموم الناس، أو من وجهة نظر الباحثين في الفروع الأخرى من العلوم الإنسانية، مثل المؤرخين وعلماء الاجتماع ودارسي الاقتصاد السياسي.
لكن وكما يوضح الاقتصادي الفرنسي توماس بيكيتي، في صفحات كتابه القيم رأس المال في القرن الحادي والعشرين، فإن الأعراف الاجتماعية في أميركا لم تكن ثابتة على طوال الخط، فهي لم تكن دائماً تلك الدولة التي يميل معظم الأشخاص فيها للتصالح مع التزايد في معدلات اللّامساواة، وفي محطات تاريخية كثيرة على مدار القرنين التاسع عشر والعشرين، كانت أميركا أقل لامساواة من العالم القديم في أوروبا. ويوضح بيكيتي أيضاً أن السويد، التي يشار لها بوصفها من أقل دول العالم من حيث معدلات اللامساواة، كانت فيها أيضاً معدلات لامساواة مرتفعة في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. وبالتالي يمكن القول إن القناعات حول مسألة اللامساواة والأعراف الاجتماعية المتعلقة بها، هي نتاج تفاعل اجتماعي، وتتطلب العديد والعديد من السنين للتشكل أو التفكك.
في كتابه عن الدور الذي يلعبه الحظ في نجاح الأشخاص على الصعيد المادي بالأساس، يشير الاقتصادي الأميركي روبرت فرانك إلى أن الأشخاص الأغنياء، الناجحين، بتخيلهم الدائم أن كل ما حققوه هو فقط بسبب عاملين هما الموهبة والمجهود، فإنهم نتيجة لذلك يقفون في طريق أي سياسات من شأنها خدمة المجموع العام من المواطنين، مثل إعانات للبطالة والحد الأدنى للأجور، أو مزيد من الإنفاق على التعليم والصحة، أو فرض ضرائب تصاعدية على الثروة والدخول، بما يمكن من الإنفاق على برامج الرفاه الاجتماعي.
أعود هنا إلى ما ذكرته سابقاً عن الفرق بين إدراك الفرنسيين وإدراك الأميركيين لمسألة اللامساواة. فهل يمكن الافتراض، بناء على نتائج ذلك المسح، أن الفرنسيين لديهم حساسية أعلى تجاه اللامساواة من الأميركيين، حيث يتغلل الحلم الأميركي داخل عقلية كل شخص يقطن في الولايات المتحدة، أو يحلم بالهجرة إليها بوصفها أرض الأحلام والترقي الاجتماعي السريع؟ هل أصبح العرف الاجتماعي في أميركا أنه مع بذل قدر من المجهود، يمكن لأي شخص أن يحقق درجة من الثراء والرفاه، وبالتالي ليس هناك مشكلة في وجود كل ذلك القدر من اللامساواة، لأنه بإمكاني أن أغير وضعي يوماً، فأصبح ضمن شريحة الـ 10% الأغنى في المجتمع على سبيل المثال؟
الفكرة هنا أنه حين يعتقد الشخص أن هناك إمكانية للترقي اجتماعياً بشكل سريع، فقد يقوده هذا الاعتقاد للتفكير بأنه ليس من الجيد دعم سياسة تقوم مثلاً على زيادة تصاعدية الضريبة، أو فرض ضريبة على الثروة، فذلك الشخص قد يفكر بأنه ربما يملك في يوم من الأيام ثروة كبيرة أو دخلاً مرتفعاً، وبالتالي ليس من مصلحته وجود هكذا أنواع من الضرائب. بالتالي، يمكن القول إن المسألة الاقتصادية، ومسألة ترك الاقتصاد لآليات السوق الحر أو ضرورة تدخل الدولة، هي معركة مرتبطة بالإدراك والأعراف الاجتماعية والوعي الجمعي، وليس فقط بالنظريات والمصطلحات المعقدة لجماعة الاقتصاديين.
ومن هنا أود الانتقال إلى مسألة الإدراك الشخصي لثنائية اللامساواة، الفقر والغنى، والتفاوتات في مستويات المعيشة بشكل عام، والمقارنات التي يعقدها البشر بين بعضهم بعضاً.
المقارنات الاجتماعية وسباق الفئران
من الأمور الملفتة للانتباه لدى الناطقين باللغة الإنكليزية، هو وضعهم مصطلحاً لكل نوع من أنواع المنافسة، سواء كانت المنافسة على المستوى الفردي أم المستوى الجماعي بين الدول. فعلى مستوى الدول هناك مصطلح «Arms race» أو سباق التسلح، وكذلك هناك «race to the bottom» الذي يعني تنافس البلدان على اجتذاب الاستثمارات من خلال خفض معدلات الضرائب، وخفض الحماية التي تتمتع بها العمالة عبر تحرير علاقات العمل. أما على مستوى الأفراد، وهو ما يهمنا هنا، فقد تم صك مصطلح معبر للغاية عن التنافس بين الأشخاص لتحسين مستوى معيشتهم، إذ يُطلق مصطلح «rat race» أو سباق الفئران على السعي المحموم للأفراد لتحسين أوضاعهم الاقتصادية والمادية، وتحقيق مزيد من الثروة والغنى.
في كل الحالات السابق ذكرها، تحدث المنافسة في السياق الذي تتواجد فيه الجماعات أو الأفراد، أو ما يطلق عليه الموقع النسبي «relative position» لكل فرد أو لكل دولة، أي موقع الدولة بالنسبة لغيرها من الدول، أو موقع الفرد بالنسبة لغيره من الأفراد. وفيما يتعلق بنا كأفراد نعيش داخل مجتمعات بعينها، فإن استهلاكنا يتأثر لدرجة كبيرة باستهلاك من هم حولنا ويعيشون معنا في المجتمع نفسه، وهو الأمر المرتبط بدوره بالانكشاف، أو التعرض «exposure». الانكشاف بمعنى ما أفتح عيني عليه وأراه من حولي، فهل أنا أعيش في مجتمع تتزايد فيه التفاوتات إلى درجة كبيرة للغاية، أم أنني أعيش في سياق يتمتع بقدر معقول من المساواة، بحيث يتشابه نمط معيشتي مع معظم من هم حولي، فلا أشعر دائماً بالحاجة الملحة للدخول في سباق فئران معهم.
يمكننا القول إن اللامساواة تفتح الباب واسعاً لسباق الفئران داخل المجتمعات، والأمر نفسي أيضاً، فالإنسان دائماً ما يعقد مقارنات بينه وبين أقرانه، وهو ما يُعرف في علم النفس بالمقارنة الاجتماعية «social comparison»، وغالباً ما يميل الفرد لمقارنة وضعه بمن هم أفضل منه، الأمر الذي يحفز في داخله روح التنافس والسعي المحموم ليصبح مثل قرينه أو أفضل إن أمكن. وفي الطريق لتحقيق حلمه، من الممكن أن يتحسن وضع أقرانه أكثر، فيجد نفسه في حاجة لمزيد من السعي والتنافس للوصول للمكانة الجديدة التي وصل إليها أقرانه فندخل في سلسلة لامتناهية من التنافس والسعي المحموم.
الأمر مضر على الصعيد النفسي دون شك، ولكن للتخفيف من ذلك الضرر، ليس من المنطقي أن نستمع لنصائح من نوعية «لا تنظر لمن هم أفضل منك، أنظر لمن هم أقل منك، فستجد أن وضعك أفضل حالاً من كثيرين». وقد يقوم الشخص بالفعل بالتفكير في إنه أفضل حالاً من آخرين، وينجح ذلك الأمر لفترة من الوقت، ولكن هذا لن يعني أنه لن يعود مرة أخرى لمقارنة نفسه بمن هم أفضل حالاً، وبالتالي فإن الحل يكمن في السعي نحو مجتمعات أكثر مساواة، وليس بغض البصر.
يشبه هذا إلى حد بعيد النغمة التي رددتها أبواق السلطة المصرية على مدار الأعوام السابقة، التي تقول إن مصر أفضل حالاً من سوريا والعراق، وإن علينا كمصريين الرضا بواقعنا، لأنه رغم الوضع الاقتصادي الصعب والقمع المتفشي، إلا أن حالنا أفضل كثيراً من العراقيين والسوريين. ولكن ماذا عن القابعين في أسفل سلم المقارنة؟ الذين ليس هناك من هو أقلّ منهم، ليقارنوا أوضاعهم بأوضاعه به فيشعروا ببعض الغبطة ولو لبعض الوقت، بمن يقارن العراقيون والسوريون أوضاعهم على سبيل المثال؟
يمكن القول إن المقارنات هي المحرك الرئيسي لمحاولات الترقي الاجتماعي، أو إنها شرط مسبق لها. ومسألة الانكشاف هنا مهمة للغاية، فلنتخيل طالباً من خلفية اجتماعية بسيطة من محافظة في محافظات صعيد مصر، حصل على منحة دراسية في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، حيث التكاليف الدراسية هي الأعلى في مصر، بحيث قد تصل التكلفة لأكثر من مليون جنيه للحصول على درجة البكالورويوس. لا شك أن انكشاف ذلك الشخص على نمط حياة غيره من الطلبة القاهريين سكان المجتمعات السكنية المسوّرة، سوف يغيّر من نظرته لأمور كثيرة، من بينها طموحه في الترقي الاجتماعي وتوقعاته من المستقبل، ويمكن القول إن ذلك الانكشاف سوف يرفع من سقف مقارناته.
ولا يمكن إغفال تأثير التطور التكنولوجي في تسهيل عملية الانكشاف تلك، فحتى لو لم تذهب إلى لندن أو باريس، يمكنك أن ترى بسهولة نمط المعيشة في تلك البلدان عبر شاشة التلفاز أو الكمبيوتر أو هاتفك الشخصي. يقول بيكيتي في كتابه سالف الذكر، إن الثروة متركزة إلى درجة تجعل من الصعب تخيل وجودها من الأساس، ومن هنا تأتي الصدمة التي تنتج عن الانكشاف على الثروة والغنى. وقد ساهم التطور التكنولوجي كثيراً في زيادة هذا الانكشاف. ويمكن القول إن الانكشاف والصدمة التي قد تليه ينطبق على طرفي اللامساواة، أي الغنى والفقر، بمعنى انكشاف الفقراء على وجود قدر كبير من الثروة والترف لم يكونوا يتخيلون وجوده، وكذلك انكشاف الأغنياء على قدر من الفقر قد يكونوا لم يتخيلوا وجوده. وفي الحالتين عدم تخيل وجود ذلك التركز من الفقر أو الغنى ناتج بالأساس من السمة التي تميز مجتمعاتنا اليوم، وهي الانفصال والانعزال بين مناطق سكن الأغنياء في مجتمعات مسوّرة في مناطق متطرفة بعض الشيء، ومناطق سكن باقي طبقات المجتمع بمن فيهم الفقراء. الجامعة الأمريكية بالقاهرة على سبيل المثال هي مجتمع مسوّر، طلبته في الأغلب يسكنون في المجتمعات المسوّرة التي تنتشر بكثرة في المناطق المحيطة بالجامعة. الأغنياء يسكنون في مناطق لا يراها الفقراء، وأبناؤهم يذهبون إلى مدارس وجامعات لا يتواجد فيها أبناء الفقراء.
خرج أحد الأكاديميين المصريين المعروفين بتأييدهم الشديد للنظام المصري الحالي، ليصرح بأن على المصريين أن يشعروا بالامتنان لوضعهم الاقتصادي، فحتى الفقراء منهم يعيشون في وضع معيشي أفضل من ذلك الذي كان يعيش فيه الملوك في العصور الوسطى. ما يغيب عن ذهن هذا الأكاديمي، «المطبلاتي»، أنني كمواطن مصري يعيش في الوقت الراهن، ليس عليَّ أن أقارن نفسي بالحاكم بأمر الله الفاطمي على سبيل المثال، ولكني سوف أنظر للحاكم الحالي والنخبة الحاكمة ومستوى المعيشة الذي يعيشون فيه مقارنة بعموم المصريين. فلنتخيل مثلاً أن ماكرون خرج في وقت نشاط حركة السترات الصفراء، وأخبرهم أن عليهم أن يدركوا أن وضعهم الذي يحتجون عليه لم يكن ليحلم به طبقة النبلاء والعائلة المالكة في فرنسا في زمن قيام الثورة الفرنسية أواخر القرن الثامن عشر. الأمر نسبي، ووهذه النسبية حاضرة بوضوح في الوعي الجمعي للجماهير التي تخرج غاضبة، والتي تعرف أفرادها مسألة عدالة التوزيع والصراع الطبقي، حتى لو لم يسمعوا عن تلك المفاهيم النظرية من قبل.
في انتفاضة يناير 1977، التي أسماها الرئيس المصري الراحل أنور السادات «انتفاضة الحرامية»، والتي حدثت في مصر إثر رفع أسعار بعض السلع الأساسية ومن بينها المحروقات، كما هو الحال في احتجاجات السترات الصفراء، كانت الشعارات تدل على تلك النسبية فكان من بينها: «بيشربوا ويسكي وياكلوا فراخ… الشعب من الجوع أهو داخ»، «هو بيلبس آخر موضة… وتحنا بنسكن عشرة في أوضة»، «يا ساكنين القصور… الفقرا عايشين في قبور». الصراع بين الطبقة العاملة والطبقة الرأسمالية يأتي في هذا الإطار من النسبية والمقارنات؛ لماذا عليّ أن أعمل طوال النهار من أجل مبلغ ضئيل من المال لا يكفيني لحياة كريمة، بالمقارنة بنمط الحياة الذي يحياه صاحب المصنع الذي أعمل فيه على سبيل المثال. هناك طرفان للمعادلة إذن، هما الفقراء والأغنياء، وكما يقول جيلبرت ريست في كتابه تاريخ التنمية «حين يكون هناك غنى، يكون هناك فقر»، وبالتالي فإن محاولات بعض المؤسسات الدولية مثل البنك الدولي، والذي يقوم شعاره الرئيسي على مكافحة الفقر، لتصوير الأمر برمته على أن هناك طرف واحد فقط وهم الفقراء، وإخفاء الطرف الأخر من الصورة، هي محاولة شديدة الغباء، إذ ليس هناك أي سبيل لمكافحة الفقر بدون مكافحة الغنى.
أطلق السادات وصف انتفاضة الحرامية على انتفاضة يناير 1977، بسبب بعض أعمال السلب والنهب التي حدثت وتكسير واجهات المحلات، وهو الأمر نفسه الذي حدث خلال احتجاجات السترات الصفراء، التي شهدت قدراً من التخريب في أحياء الأغنياء، وهو التخريب الذي يأتي ضمن ثنائية الفقراء والأغنياء، أو ثنائية الخاسرين والرابحين، الفقراء(الخاسرين) ينتقمون من الأغنياء (الرابحين) من النظام الاقتصادي المعولم. وهي ثنائية جغرافية أيضاً: الضواحي مقابل العاصمة في حالة السترات الصفراء في فرنسا، الأرياف مقابل المدن في حالة سوريا ومصر وغيرها. في كل هذه الحالات هناك قدر من اللامساواة بين الأطراف والمركز. في الحالة السورية حضرت الأرياف وضواحي المدن بقوة في الفعل الاحتجاجي، في مقابل صمت أو خوف عدد لا بأس به من سكان المدن الرئيسية، وعلى رأسهم أعيان تلك المدن أصحاب المصالح الاقتصادية. كذلك في حالة السترات الصفراء، كان سكان الضواحي هم شرارة الحركة وفاعلها الرئيسي. ثنائية الفقر والغنى كانت حاضرة في مطالب حركة السترات الصفراء، إذ لم يكتفِ المحتجون بالمطالبة بزيادة الحد الأدنى للأجور، ولكنهم طالبوا بوضع حد أقصى للمرتبات.
يمكن القول إن سباق الفئران هو السبب وراء عدم تحقق نبوءة الاقتصادي الإنكليزي الشهير جون ماينارد كينز، من أنه بحلول عام 2030 سوف يعمل الأفراد 15 ساعة فقط أسبوعياً، ويخصصون باقي الوقت للاستمتاع بالحياة نظراً للقدر الكبير من الرفاه الاقتصادي الذي سوف يتمتع به العالم. حسنا نحن قريبون للغاية من 2030 ولم تتحقق نبؤة كينز، وذلك تحديداً لعدم وجود سقف للرفاه الاقتصادي الذي يتمتع به الأفراد، وليس المجموع العام.
والمثير للانتباه في ثنائية الفقر والغنى تلك، هو أنه لدينا خط للفقر،ولكن ليس لدينا خط للغنى، ويمكننا القول إنه للوصول لنبوءة كينز، فإن علينا إيقاف سباق الفئران من خلال وضع خط للغنى لا يُسمح بتخطيه، تماماً كما تحارب البشرية لعدم وقوع أي فرد تحت خط الفقر. ومن هنا بالضبط، تأتي وجاهة مقترح وضع حد أقصى للمرتبات أو الدخول بشكل عام.
المقولة المصرية الشهيرة «إحنا أحسن من غيرنا» تبين بوضوح مدى تعمق فكرة المقارنة الاجتماعية داخل العقل الجمعي لكثير من المصريين، ولكن ماذا سوف يحدث حينما تخبر شخص ما إنه ليس أفضل من غيره كما يعتقد؟ هنا يعمل تأثير الانكشاف، فحينما تُصحح معلومات ذلك الشخص عن وضعه مقارنة بغيره، وحينما يتكشف له أن وضعه سيء في حقيقة الأمر، وأن أحلام الترقي الاجتماعي التي يعتمد عليها ليست بالسهولة التي يتخيلها، وحينما ينكشف على قدر الثراء الذي تحيا فيه طبقة ما، من الممكن أن يحفز ذلك بداخله رغبة أكبر في دعم سياسات تقوم على إعادة التوزيع، مثل ضرائب أكثر تصاعدية. وكذلك الحال بالنسبة للأغنياء الذين ينكشفون على مقدار الفقر الموجود داخل البلدان، الأمر الذي قد يحفز في داخلهم رغبة في دعم سياسات أكثر توزيعية.
ولكن في حالة بلداننا العربية، حيث تغيب الديمقراطية، فليس هناك مجال للاستفادة من تأثير تصحيح المعتقدات والتخيلات لدى الأشخاص عن اللامساواة، من خلال اختيار أحزاب سياسية تميل إلى تبني سياسات تقوم على إعادة التوزيع على سبيل المثال، بل يمكن القول إن زيادة وعي الناس بحجم اللامساواة يزيد من حجم الغضب الذي يصعب التنفيس عنه بسبب حالة الخناق المفروضة على المجال العام، التي لا تسمح لأي شخص أو أي مجموعة بالمشاركة في رسم السياسات العامة الموضوعة بصورة سلطوية وفوقية.
ولهذا انفجرت الاحتجاجات في عالمنا العربي، حيث أن صيغة العقد الاجتماعي التي تلت فترة الاستقلال، والتي قامت على معادلة مفادها أن يترك عموم الناس حقوقهم السياسية والمدنية في أيدي النخب الحاكمة في مقابل مزايا اقتصادية واجتماعية، تلك الصيغة بدأ يصيبها الخلل شيئاً فشيئاً خلال سنوات التحول النيوليبرالي، وبالتالي باتت تلك النظم لا تقدم للجماهير أي شئ، وعجز المكون الأمني في تلك النظم عن الصمود طويلاً أمام حالة الاحتقان والغضب التي تراكمت مع سنوات التحول تلك. يمكن القول إن الاحتجاجات والثورات سوف تندلع مرة أخرى، ولن تكفّ عن الحدوث، وإن المكون الأمني الذي يتشكل حالياً بعد فشل معظم الثورات العربية، مصيره الانهيار الحتمي أيضاً.