علينا أن نبدأ خطابنا هذا باعتذارين مطوّلين بعض الشيء، ويتوضيح شفاف. أوّل الاعتذارات يخصّ الفوضى التي سيجدها القارئ في هذا النص، إذ أنه نتاج تجارب كثيرة، تتقاطع كثيراً وتختلف كثيراً. أغلبنا لم يستطع، حتى الآن، التغلّب على وضعية الميموزا (نبتة المستحية، حسب الاسم الدارج في سوريا) والخروج من تقوقعه على نفسه على طريقة الميموزا حين تنكمش أوراقها عند لمسها؛ فيما بدأ بعضنا الآخر مرحلة تلمّس جسده وأفكاره للتأكد أنها ما زالت موجودة، والتبصّر في نفسه والنظر إلى ما حوله، محاولةً لاكتشاف أين هو وماذا يفعل؛ وبعضنا الثالث أخذ دور الطليعة الثورية، وشرع يشاجر البعض الميموزي بعنف، يراه البعض المُتبصّر مفهوماً وإن غير منتج، ولعلّ فيه بعض النرجسية. لكن أليس هناك نرجسية في الوضع الميموزي أيضاً؟ أين ينتهي الخاص ويبدأ العام في القرارات المتعلّقة بالانكسارات وطرق جبرِها؟

هذا سؤال تأسيسي، ضمن أسئلة تأسيسية عديدة، تحاول الإجابة عليها مجموعةٌ مُجتمعة أصلاً على ذلك العام التأسيسي، عام كل شيء، عام 2011.

الاعتذار الثاني مُتعلّق بأننا لا نعرف بالضبط لمن نكتب هذا النص. فرغم أن العديد من أعضاء المجموعة التأسيسية ينشطون في مجالات المجتمع المدني والصحافة والنشر والفن، وبالتالي فإن تحديد «الجمهور المستهدف» أو «المستفيدين» هو جزء جوهري من بداية التفكير في أي «مشروع»، إلا أننا عجزنا عن التفكير بالتنسيقية كمشروع له «مستفيدون». ثمة أجزاء من البعض الطليعي الثوري تلوم البعض الميموزي على تعلّقه الزائد بموضة العلاج النفسي، حيث يُطلب من المرء أن يكتب، أن يكتب لنفسه، أن يكتب كوابيسه وأحلامه وأفكاره والأشياء التي يخاف منها، والأشياء التي يحنّ لها، وعن ماذا يحب، وماذا يكره، وماذا يُشعِره بالأمان… إلخ.

في الحقيقة، هناك إحساس بليد بالذنب في أن نكتب عن 2011 وكأننا نكتب عقب جلسة علاج نفسي. نعم، مجموع أحاسيسنا تجاه 2011 لها طابع الحلم والكابوس والأمل والفكرة والخوف والحنين والألم والحنان والحب، والأمان وانعدامه، وكل هذه الأمور. لكننا لسنا في جلسة علاج نفسي الآن واليوم، مع كل الاحترام والتقدير للعلاج النفسي، وكل الرفض والإدانة لسلوك المشككين به والساخرين منه.

على أي حال. لا نعرف من هو الجمهور المُستهدف من هذا النص. ربما يكون الجيل الأصغر منا، الذي وصل إلى عام 2011 وهو مراهق أو ما دون، ويحمل اليوم وزر وتبعات الحصار والتهجير واللجوء، أو الحياة تحت وطأة انتصار أسمال النظام وحلفائه؛ أو ربما يكون جيلنا ذاته، ألفينوإيدعشيون وألفينوإيدعشيات، من سوريا ومن غيرها، يبحثون عمّن يشعر بالوحدة المُزدحمة مثلهم؛ أو ربما يكون المستهدف هو أصدقاء ورفاق سابقون لنا، يحبّون رؤيتنا متخبطين لإثبات أن قرارهم بالجمود، أو قرارهم بالوقوف مع القوّة في لحظة سطوتها، كان قراراً مُحقّاً… لا بأس في ذلك، فليس لدينا مشكلة في تغذية الـ«قلنالكم».

في الحقيقة، نفضّل أيّ «قول»، حتى لو كان ذاك الذي «انقاللنا»، على الصمت. ونفضّل أيّ  وجود مزعج على الرغبة بالمسح والإلغاء، ونفضّل الفوضى المستفّزّة على انضباطٍ صحيح مُفترض، ضمن وجهةٍ تاريخية مصيبة نظرياً. قد يبدو هذا الكلام طوباوياً ورومانسياً. هو كذلك، وهذا أصلاً نعتٌ سمعناه من كثيرين في 2011، يوم سُعدنا بانقلاب حياتنا رأساً على عقب مع أول هتاف من أجل كرامة وحرّية السوريين، في الحريقة ثم في الحميدية، ثم في درعا، وبعدها في أرجاء واسعة من الجغرافيا السورية.

هنا، عند الحديث عن درعا، يجب أن نتحدث عن التوضيح الشفّاف المذكور أعلاه: لقد انتصر قرار النشر يوم 15 آذار في تصويت ديمقراطي ضمن مجموعة مغلقة على الفيسبوك (رغم ذاكرتنا السيئة مع تصويتات الفيسبوك)، لكنه أدّى لانشقاق التيار الشعبوي من الألفينوإيدعشيين، أولئك الذين يصرّون على أن الثورة بدأت يوم 18 آذار في درعا، وبينهم قدرٌ لا بأس به من مدمني ذمّ المدينة وطبقاتها الوسطى، وإعلاء شأن الريف ورمنَسته. ندعوهم في هذا البيان بالشعبويين، رغم أنهم اتهمونا نحن بالشعبوية، إذ اعتبروا أننا نحاول استغلال أن 15 آذار هذه السنة يُصادف يوم جمعة، وأننا نودّ بنصّنا هذا استثارة مشاعر المجتمع المُحافظ بطبعه، عساه يخرج في مظاهرات من الجوامع بعد صلاة الجمعة.

تلاطمنا بعض الشيء من أجل اختيار اسم للتنسيقية أيضاً، لكن لم يؤد الخلاف على الاسم لانشقاقات، أقلّه حتى اللحظة الراهنة. كان هناك اتفاق مُحق على تجنّب تعميم الصفة الذكورية، لأن أكبر خلاصة لنا من تجربتنا، كانت أننا بالغنا بشدة في المنطق التأجيلي، ولم ننتبه إلى ضرورة خوض معركة الحريات الشخصية، إلا بعد أن كانت النزعة المُحافظة -امبراطورية التوجّه بطبعها- بقيادة التسلّطيين الإسلاميين قد انهمكت في إخراجنا من الصورة. وبالتالي، لم نقبل اسم «تنسيقية ألفينوإدعشيون» فقط، بل كان يجب أن نقول «تنسيقية ألفينوإدعشيون وألفينوإدعشيات». ولأنه كان ضرورياً أن نضيف إحالة للحرية، المعنى الأسمى في وجه كلّ الموبقات السلطوية التي ظهرت تحت ظلال عسكرة الثورة وأسلمتها، كان اقتراح اسم «تنسقية ألفينوإدعشيون وألفينوإدعشيات الأحرار والحرّات/الحرائر». لكنه كان خياراً صعباً بسبب طوله، وأيضاً لأننا خضنا ساعات من النقاش حول كلمة «حرائر»، نقاش كان «ديجافو» بكل معنى الكلمة… (بالمناسبة، لو أحسست، عزيزي القارئ، ببعض الديجافو وأنت تقرأ كلمة «حرائر» وتذكّرت النقاش حولها، فإذن أنت على الأرجح ألفينوإيدعشي، بادر بالانتساب!)

لذلك، قررنا في النهاية تثبيت اسم «تنسيقية ألفينوإيدعش من أجل الحرية».

أحد الزملاء في التنسيقية تحمّس للاسم، وتبرّع بتصميم لوغو للتنسيقية، باعتبار أن لديه خبرة مسبقة في الغرافيكس، ووعد بإرسال أفكار أولية بعد ساعات قليلة من انتهاء الاجتماع، لكنه اختفى ولم يعد يردّ على مسجات الفيسبوك منذ حينه. مرّت عشرة أيام حتى الآن، عشرة أيام لم تهزّ العالم كثيراً، صراحةً.

*****

لا ندري إذا كان اختيارنا لكلمة تنسيقية يعني أننا سننسق لإنجاز أعمال أخرى غير كتابة هذا النص، لكن هذا الاختيار استعادة ضرورية لتلك الكلمة التي لا نتذكر متى سمعناها أول مرة في السياق السوري. كان ذلك مبكراً على أي حال، والتنسيقية تبدو كلمة مختارة بعناية، لأنها لا تلقي على أصحابها وزر الاتفاق الإيديولوجي أو البرنامجي، لكنها تحمّلهم مسؤولية التنسيق فيما بينهم لتنفيذ النشاطات الاحتجاجية على الأرض.

هذا كان دورها منذ البداية، لكن إذا كان الأمر كذلك، ترى لماذا تناسلت التنسيقيات وانشقت على نفسها مرات ومرات، حتى بتنا نجد تنسيقيتين أو ثلاثاً في قرية صغيرة؟ لا يبدو البحث في الأسباب الحقيقية المتنوعة ممكناً الآن، لكن الواقع أننا لم نكن عام 2011 مجمعين على شيء سوى على ضرورة إسقاط الأسد، والـ «نا» لا تعود هنا على أعضاء تنسيقيتنا هذه فقط، بل تعود على عموم الذين تمردوا على النظام عام 2011.

ورغم أننا ندعي محاولة تقديم استعادة غير نوستالجية للحظة 2011، لكن بعض النوستاليجا ستفرض نفسها علينا رغم أنوفنا. كانت تلك لحظات مهيبة، عندما راحت أولى الصرخات تشق حجاب الأبد الأسدي، وعندما قام أوائل الشجعان بتمزيق الصور وتحطيم التماثيل الأسدية، ثم عندما تدفقت الآلاف المؤلفة من الحشود إلى الشوارع والأزقة تهتف للحرية، تطالب بإسقاط النظام، وتقدم أرواحاً عزيزة على مذبح الخلاص. كانت تلك لحظة تأسيسية للوعي بأن ما يبدو مستحيلاً الآن، قد يكون سيد المشهد غداً. هذا درسٌ لا ينبغي نسيانه.

سمعنا كثيرين من أصدقائنا يقولون اليوم إنهم لا يستطيعون مشاهدة فيديو كامل لمظاهرة كرنفالية من عام 2011، وبعض أعضاء هذه التنسيقية، يقولون إن أياديهم ترتعش وقلوبهم تنخلع عند مشاهدة فيديو كهذا، إذ تحضر في أذهانهم بحار الدم وأكوام الدمار التي أعقبت تلك المشاهد، ويُخيّم عليهم إحساس عارم باليأس، إذ ما الذي يمكن لشعب أن يفعله غير هذا كي يظفر بحقه في تقرير مصيره.

بعضنا يسترق النظر إلى فيديوهات كهذه بين الفينة والفينة، يحاول أن يغافل نفسه ويخادعها، وواحدٌ منا يعترف بأن أقسى نوبة هلع أصابته، كانت بعد أن استغرق في مشاهدة فيديو لمظاهرة ضخمة في حي الميدان الدمشقي. لقد كان واحداً ممن شاركوا في تلك المظاهرة، ولا يزال يتذكرها لحظة فلحظة، لكنه عندما شاهد الفيديو من منفاه البعيد، كاد يسقط مغشياً عليه.

ولكن فلندع النوستالجيا جانباً؛ هل يمكن أن تصير تلك الذاكرة عبئاً قاسياً لا يُحتمل، لأنها علامات على زمن لا يمكن استعادته، ولأنها تذكير متواصل بأن ما فعلته الجموع وقتها عاد عليها وبالاً وموتاً ودماراً وانسحاقاً، ولأننا نحن الناجون منها، نجونا ومات غيرنا.

ليست مقاومة شعور كهذا بالأمر الهيّن، لأن ما يُقال لنا تصريحاً وتلميحاً هو أن الكارثة الكبرى في سوريا سببها أن سوريين خرجوا إلى الشوارع متمردين على نظام الحكم في بلادهم، ثم انتهى الأمر إلى هزيمة مدوية لتمردهم، وإلى تمزيق البلاد وإلحاقها ممزقة بدول إقليمية وعظمى. لسان حال كل شيء حولنا يقول: لقد تسببتم بتدمير بلادكم وتحطيم حياة أهلها من أجل لا شيء.

ثمة رد نظري على هذا القول، لا يحتاج إلى كثير من النباهة، وهو أن من حوّل البلاد إلى ساحة حرب هو النظام لا خصومه، وأن إنكار هذا أو القفز فوقه هو ضرب من الانحطاط لا يمكن غفرانه. لكن المسألة ليست نظرية، بل تتعلق بالنقاش حول كيفية تجاوز الشعور العارم بالمرارة عندما تحضر مشاهد 2011 في الذهن بأي طريقة كانت.

عندما تباحث أعضاء تنسيقيتنا في الأمر، كان لا بد من التجربة العملية، والتجربة العملية في المواجهة المباشرة مع ثقل الذاكرة، تقول إن تلك اللحظات تصلح نبعاً للألم واللانكسار، كما تصلح نبعاً لطاقة متجددة لا تنضب، في قلبها أن ما هو مستحيل يمكن أن يصير حقيقة، وفي قلبها أن لحظات المجد النارية، لحظات عناق النار إذا صح القول، هي اللحظات الأكثر خلقاً وإبداعاً في تاريخ البشر.

ثمة إرث كفاحي لا ينضب في عام 2011، ولا نرى أمامنا سبيلاً لتجاوز مرارة الذاكرة المتعلقة به، سوى مواجهتها والاشتباك معها بكل ما يمكن من حب، والتفكير فيها بعمق، أن نضع عيوننا في عينها دون مواربة أو إحساس بالذنب، ودون الركون إلى سرديات المظلومية ولوم الآخرين والدنيا والتاريخ. حسناً، إذا كان لا بد من إحساس بالذنب، فليكن دافعاً للعمل، لا للانكفاء على النفس، وإذا كان لا بد من لوم، فليكن دافعاً للبحث عن العدالة، لا عن مظلومية لا يولد الاستسلام لها شيئاً سوى احتقار العدالة.

وإذا كان لا بد من طلب الصفح من أحد، فسيكون ذلك من أنفسنا، ومن الغيّاب والحاضرين من أحبابنا، على أخطاء اقترفناها في سياق عملنا من أجل ما آمنّا ونؤمن به؛ ولكن ليس من المجرمين وحلفائهم وأحبابهم وزبائنهم واعتذارييهم. لهؤلاء، فوق ذاكرة نضالنا ضدّهم في 2011 وما قبله وما بعده، نحتفظ لهم بذاكرة عن كيف كانوا خائفين، كيف كانوا خائفين جداً، وفوق ذاكرة الماضي نحتفظ، وسنحتفظ دوماً، بأمل أن نراهم خائفين مرّة أخرى.

*****

بعض أبناء «تنسيقية ألفينوإيدعش من أجل الحرية» كانوا خارج سوريا في 15 آذار 2011، ولم يعودوا إليها إلّا في ذلك اليوم. لم يعودوا كأجساد مادية، بل ربما على العكس، حسموا أمرهم في ذلك اليوم أو بعده بقليل، وعبّروا عن مواقف علنية جعلت من المستحيل أن يعودوا إلى البلاد عبر بواباتها النظامية بغير سقوط النظام؛ لكنهم عادوا إليها بقلوبهم وعقولهم بعد أن كان واقع الانسلاخ التدريجي عنها يحكم حياتهم، وربطوا مصائرهم الشخصية بمصيرها بعد أن كانوا قد تعلموا على مدى سنوات طويلة أن الأجدى والأذكى هو السعي الفردي المحموم للخلاص من ظلمها وتخلّفها. كان بعضنا يعتقد أن «النجاح» والـ«الاندماج» والـ«تحضر» والـ«تمدن» يعني لنا، نحن الخارجين حديثاً من ذلك البلد الفقير المجهول الذي يدعى سوريا، أن نتجاوز «سوريتنا» وننساها، أن نبتعد عن معظم السوريين عندما نلقاهم لأنهم كما حذّرنا أهلنا على الأغلب من «المخابرات» أو «كتيبة التقارير». كنا نشتاق طبعاً، لكن لمجتمعاتنا المحلية وروابطنا الحميمية؛ مدننا وبلداتنا كانت هي أوطاننا، وفي حال دفعت بنا الأقدار إلى التسيّس، كان ذلك على الأغلب من أجل فلسطين أو العراق. أما سوريا فلم تكن إلا كناية عن مدرب الفتوة وعنصر المخابرات، والسفارات المخيفة ودوائر الدولة.

كل هذا تغيّر مع أول شهيد سقط في درعا. كثيرون منا نحن أبناء «الخارج» يتذكر تماماً أين كان عندما سمع الأخبار، وكم كانت الساعة، وماذا كان يفعل، وكيف انقلبت موازين الأمور والحياة كلها خلال ساعات قليلة. نتذكر تماماً أسماء البلدات التي كانت مجهولة لغير الحورانيين منا، وباتت فجأة قريبة وشديدة الألفة: الصنمين، إنخل، داعل، جاسم؛ نتذكر كيف اكتشفنا مع أولى فيديوهات المظاهرات القادمة عبر يوتيوب أن هناك سوريين لا يمتون لنا بصلة قرابة أو معرفة شخصية، وليسوا من كتبة التقارير الأمنية! نتذكر كيف بدا الخارج المتحضر مع أولى صور الشهداء باهتا سخيفاً وبلا معنى، وكيف باتت سوريتنا المنسية متألقة وعظيمة وملحمية.

هل يفترض الفكر النقدي منا أن ننظر إلى تلك اللحظات ونهز رأسنا بمزيج من الخجل والسخرية؟ قد نشعر ببعض هذا عندما نعود لنقرأ بعض منشوراتنا على فيسبوك، فنعثر على كمّ الجد والصرامة التي تحدثنا فيها عن «الضرورات الثورية»، و«المصلحة العليا»، و«التناقض الرئيسي والتنقاضات الثانوية»، و«ضرورة توحيد المعارضة»، لكننا لا نشعر بالخجل ولا بالسخرية عندما نتذكر المظاهرات والشهداء، أو عندما نستعيد كم الشجاعة والبطولة التي رأيناها فبتنا أشخاصاً آخرين بعدها، أو عندما نفكر بمعنى أن يضع الإنسان بملء إرادته كل مشاغله الفردية جانباً من أجل لحظة عامة خاطفة، تُظهر أفضل وأجمل مافي بني البشر. لا نشعر بالخجل ولا بالسخرية، بل بالفخر والامتنان.

*****

بعضنا لم يتمكن من تقبّل منفاه إلا بداعي المجزرة، أحدنا من المنفيين إلى باريس، يقول مثلاً إنه يشعر بألفة ما، دون انقباض وقلق، حين يمر في شوارع شهدت مجازر خلال كومونة باريس. المجزرة هي «العصب الغامض» إذا أردنا استخدام اللغة الطبية، ذاك العصب الممسك بتلابيب المخ منتقلاً إلى المعدة والأمعاء مروراً بالكبد. 2011 كانت لحظة استثنائية تَعدُ بتحرير العصب الغامض من المجزرة. 2011 كانت لحظة استثنائية لتحررنا من تواطئنا مع عائلة الأسد في أن نجهز على أنفسنا، ونستكمل قتلنا حين لا يقتلنا هو. معظمنا ممن تمرّسوا بالنجاة، كنا متوغلين في الثلاثينات أو نقترب منها، ما يعني أن ثمانينات سوريا زرعت في أحماضنا النووية مجزرة ينبغي النجاة منها. أن تبذل مجمل طاقتك للنجاة، هو أمرٌ سوري، ولحظة 2011 كانت لحظة فريدة أردنا الخلاص فيها جماعياً.

بعضنا يزعم أنه لم يخرج من عزلته وتقوقعه في دائرته الاجتماعية إلا مع أولى المظاهرات التي بدأت في سوريا، تلك النشوة لم تكن سياسية فقط، بل كانت نشوة الانفتاح على هوية جمعية ما، غير محددة المعالم كهوية سورية.

كانت أسماء الجمع كبيرة الأهمية بالنسبة لنا. أثناء «الجمعة العظيمة» في نيسان 2011، شهدت أطراف دمشق عدداً كبيراً من الشهداء الذين كانوا يحاولون الوصول إلى ساحة العباسيين في محاكاة لاحتلال الساحات العامة كما حصل في تونس أو القاهرة؛ فيما بعد نسينا موضوع الساحات العامة، في إخصاء آخر لنا كسوريين. الساحات العامة ليست لنا. في نيسان نفسه شهدت ساحة الساعة في حمص مجزرة. الإخصاء في سوريا يتم بالمجزرة، المجزرة وسيلةٌ وهدفٌ في آن معاً.

في أول 2011 كنا نهتم بالمحللين السياسيين السوريين الذين يخرجون على القنوات «المغرضة» يتحدثون عن انتفاضة السوريين، فيما بعد لم يعد الأمر يعنينا كثيراً.

يؤكد بعضنا أنه لم يكن يوماً ثائراً كما ينبغي، أو كما توحي الكلمة، لكنه يعرف شيئاً واحداً هو أن نظام عائلة الأسد «شرّك» حياته بالمعنى الشخصي للحياة، وأنه يكره هذا النظام. «التشريك» هو أن تهدر ثوب القماش بقصه بغير حذر وحساب. نظام عائلة الأسد شرّك حياتنا، ولحظةُ 2011 كانت لحظة لنُبقي شيئاً صالحاً من ثوب القماش.

*****

وبالحديث عن «الثائرين» الذين قد لا يكونون ثائرين كما ينبغي، لا يسعنا أن ننسى عبارة بدأنا نسمعها بكثافة منذ أواخر 2011؛ إنها «ثوار الفيسبوك». يبدو عسيراً التأريخ للحظة ولادة هذا المصطلح في السياق السوري، لكنه مرتبطٌ بلحظات الاستعصاء الأولى، التي بدا فيها أن الأمور لا تسير كما ينبغي، لأنه عندما لا تسير الأمور كما ينبغي، وعندما ترتفع فاتورة الدم دون أفق للخلاص، وعندما يطول الصراع أكثر مما كنا نتخيل، يتصاعد التنازع على الشرعية والحق في اتخاذ القرار.

ثمة من يناضلون على الأرض، وثمة من لا يناضلون على الأرض، وهؤلاء الأخيرون هم ثوار الفيسبوك بحسب الأولين. تحمل الكلمة في ذاتها شحنة احتقار ونزع لمشروعية الحق بالكلام، إذ عليك أن تثبت ما الذي قدمته على الأرض، قبل أن يحق لك رفض الأسلمة أو العسكرة، أو اقتراح أشياء ترى أنها ترسم معالم طريق أفضل. ولأن الاتهام بالثورية الفيسبوكية كان يتم على فيسبوك، ويُستخدم سيفاً من قبل أشخاص يكتبون على فيسبوك، ضد أشخاص آخرين يكتبون على فيسبوك، أصبح من غير الممكن أن نعرف أين يبدأ الأمر وأين ينتهي.

وقد تفرّع عن تهمة ثوار الفيسبوك تهم كثيرة، كلها تندرج في سياق المزاودات حول من فعل كذا ولم يفعل كذا، وحول من يحق له قول هذا ومن لا يحق له قول ذاك. هل يمكن أن ننسى واحداً من أكثر الأبناء الشرعيين لعبارة «ثوار الفيسبوك» طرافة: «تعالوا عملوا كتيبة غيفارا قبل ما تحكوا». لا تزال تطالعنا هذه العبارة أحياناً، يتم قذفها مثل تعويذة في وجه كل من ينتقد سلوك الكتائب الإسلامية من مواقع تبدو علمانية.

لقد تنازع الثائرون مبكراً على الحق في القول، وعلى شرعية القول، ثم مع المسالك الوعرة التي سلكناها جميعاً، ومع تعدد أشكال الموت والخسارات والتهجير والنفي، ومع تعدد المواقع والاصطفافات وتضاربها، بات كل سوري عرضة لأن يُتهم بما يطعن في حقه بالقول، حتى أصبح الموتى وحدهم من يمتلكون شرعية الكلام.

*****

بعض أعضاء هذه التنسيقية، لم يكن لديهم حسابات فيسبوك أصلاً يوم هرب زين العابدين بن علي من تونس، لكننا جميعاً كنا قد أصبحنا فيسبوكيين عندما كان المصريون يعيشون أيامهم المجيدة في ميدان التحرير. يقول أحدنا إن نكتة مصرية دفعته إلى إنشاء حساب على فيسبوك، يُعرّفُ فيها أحدُ المصريين فيسبوك على أنه «بتاعة بيغيروا بيها الريّس».

نعرف اليوم أن فيسبوك لم يكن «بتاعة» صالحة لتغيير الرئيس، لكنه كان صالحاً للقيام بأشياء كثيرة. كان فيسبوك عالماً جديداً ينفتح أمام سوريين كُثُر عام 2011، عالماً للقول والتعبير عن النفس، عالماً للثورة والتضامن وإعلان الانحيازات. وقد اعتقد كثيرون أن وسائل التواصل الاجتماعي بوصفها عالماً مفتوحاً يتيح تناقل الأفكار والأخبار سريعاً، ستؤدي إلى امتناع المجزرة أو شلّ قدرة مرتكبيها على حصد ثمارها على الأقل، وستكون ميداناً لتبادل الأفكار وبناء مساحات مشتركة للفعل والقول والتأثير.

لم يحصل هذا، المجزرة وقعت واستمرت وراح العالم يعاين فصولها على فيسبوك، وتحولت كثير من مساحات فيسبوك إلى مساحات للعدوانية والإقصاء وتراكم سوء الفهم، لكن هذا لا يلغي حقيقة أنه بات عالماً بديلاً للتواصل بالنسبة للسوريين المبعثرين في أرجاء الأرض، وبقدر ما تلقّى كثيرون منا أكواماً من الألم والصفعات والاحتقار عبر فيسبوك، تلقينا أيضاً كميات كبيرة من التضامن والدعم والصداقات، والمعرفة.

لم تسر الأمور كما ينبغي، لا في فيسبوك ولا في غيره، لكن عبارة «لم تسر الأمور كما ينبغي»، التي وردت مرتين أو ثلاثاً في هذا النص حتى الآن، هي عبارة ينبغي التوقف عندها ملياً.

*****

ترى كيف كان ينبغي للأمور أن تسير؟

في هذا النص، كان المقصود بالعبارة حيث وردت أن تفضي الثورة إلى تغيير نظام الحكم دون تدمير البلاد وإبادة شرائح من أهلها، وأن تكون الثورة ممراً إلى حياة أفضل. لكن مرة أخرى، ترى ما هي «الحياة الأفضل»؟

أسئلة كهذه ستفتح الباب على حوارات وأخذ ورد لا ينتهي، لكننا سننتهز هذه الفرصة كي نقول كلمة لأولئك الذين يعرفون بثقة كاملة كيف ينبغي للأمور أن تسير، أولئك السعداء بالتعرف على أنفسهم فقط، الذين يعرفون الحقيقة وحدهم، ويحملونها سيفاً يضربون به كيفما اتفق.

ستجدونهم في أماكن كثيرة، على فيسبوك خصوصاً، يختمون تعليقاتهم بكلمات مثل: نقطة انتهى. ينزّ من كلماتهم قيح التسلط والتعنيف والتوبيخ، ولا يكلّون ولا يملّون وهم يجوبون كل النقاشات والحوارات، يحطمون كل مساحة للكلام العام، ويحضرون دائماً كي يتهموا الآخرين بواحد من أمرين؛ الغباء أو الخيانة، ذلك أنهم يعرفون الحقيقة، وإذا كنت تقول شيئاً غير حقيقتهم تلك، فأنت أحد أمرين، جاهلٌ أو متواطئ. وعند الإسلاميين منهم تهمة أخرى ليس بعدها قول، هي الكفر والخروج على شرع الله.

ولهؤلاء مواقع متعددة، ومتناقضة أحياناً، فيهم أنصار النظام وخصومه وما بينهما، وفيهم إسلاميون وعلمانيون ويساريون وليبراليون، لكن سمات مشتركة تجمعهم؛ عبادة الأقوياء أصحاب السلطة أو اختلاق الأعذار لهم؛ أو مهاجمة الآخرين في نقاط ضعفهم الشخصية، الشخصية جداً؛ أو المزاودة باسم الوطن أو الدين أو الشهداء أو غيرها؛ أو كلها معاً، حتى ينتهي كثيرون منهم إلى موت كلّي للضمير، ذلك أن الضمير يقتضي أن نراقب أنفسنا، ولكن كيف يراقب نفسه من يعرف الحقيقة كلها؟!

بعضنا يكره هؤلاء الجلادين الرمزيين بالقدر نفسه الذي يكره فيه بشار الأسد.

*****

وماذا الآن؟

لنكن صريحين: أغلبنا لا يحبّ نفسه على ما هي عليه الآن، لكننا جميعاً متّفقون على أنه من الجيد أننا ما زلنا قادرين على أن نُحبّ أشياءً وأشخاصاً كثيرين. في العمق، نعتقد، نُحبّ بعضنا بعضاً، أو على الأقل نحبّ تلك اللحظة العملاقة التي جمعتنا وآمالنا واندهاشاتنا وانفعالاتنا. ربما يتجنّب اللاجئون منا اللقاء، لأن اللقاء يتطلب طاقة قادرة على استيعاب انعكاسات لحظات ماضية كثيرة على الحاضر؛ وربما لا نفعل ما يكفي لنكون سويّة، بل ربما نبالغ في قطعيّتنا وقسوتنا على بعضنا بعضاً؟ لماذا؟ في الحقيقة، غالباً لأننا قطعيون وقساة على أنفسنا، ونحن كذلك لأننا -ولا فخر- «حقّانيون» أكثر من كلّ  ما مرّ بنا في تاريخ سوريا المعاصر.

أغلبنا اليوم يتلمّس نفسه ويتلفّت حوله. يودّ أن يتأكد من المكان والزمان، ومما جرى. ثمة بحثٌ مستمر عن أرض ثابتة في أرض لجوءٍ تُقدّم فرصاً كثيرة، فرصاً مهمّة بقدر كونها باردة مثل درابزون حديدي فجر يومٍ ثلجي.

نتلمّس أحياناً أهالينا الذين تركناهم في البلاد، ولا نصدق أن كل هذا الدهر قد مرّ علينا، وعليهم. نقرأ الدمار أحياناً في نيراتهم وأسنانهم المتداعية وتجاعيدهم المتغضنة، وفي جَنَف ظهورهم المتعبة وضيق حياتهم ويومياتهم، التي لم تعد تتجاوز حبوب أدويتهم والخوف الذي عاد، ويقولون لنا إنه قد انهار في 2011. نحدّق فيهم، فلا نصدق. «حدّق في الفظيع!»، وهل هناك أفظع من أن تحكم سيرورةُ بلد سيرورةَ حياتك الشخصية؟ نحن أيضاً أو بعضنا، بدأت أجسادنا بالانحناء.

أحد الكتاب في القرن العشرين، لا يهم اسمه، انتحر بعد عشرين عاماً من خروجه من المعتقلات النازية، وذلك عندما بدأت أصابع قدميه وعظام أوراكه تتغير؛ الشيخوخة استدعاءٌ للتعذيب في الذاكرة، كان يقول… نتلمّس معاً ما عرفناه وخبرناه معاً ونحاول أن نقول شيئاً، أي شيء لنغذي حديثاً ما، لا شيء.

هل سينجح هذا النظام مرة أخرى في بسط مملكة الصمت، حتى خارج حدوده؟ نحاول أن نقول شيئاً لأهالينا الذي قضوا أعمارهم ينتظرون السعادة، آه صحيح، الانتظار عند السوريين تجربة أصيلة لا تشبه الانتظار. الانتظار وتحضير خطط بديلة، لكل شيء. نحاول أن نقول شيئاً، أي شيء… «هل تضعين السلق مع الفول المقلى»؟ ما أخبار فلان؟ سافر. وفلان؟ مات… صمت. لا شيء على الإطلاق، ماذا نقول؟ في 2011 كان لدينا أشياء كثيرة نقولها معاً.

نتلمّس سلامتنا. سلامتنا المؤلمة. نحمل سلامتنا كالفتى الذي اختلس قطعة ثياب ثمينة من والده أو أخيه الأكبر ليتغندر بها، ولكنه خائف عليها من الاتساخ أو التجعيد، وفي الوقت نفسه ليس مُرتاحاً فيها تماماً. سلامتنا ليست لنا وحدنا، ففيها قطع كثيرة من سلامات مفقودة، لشهداء ومُعتقلين ومُغيّبين ومحطمين ومنسحبين وغيرهم. ماذا نفعل بتلك المساحات من سلامتنا التي هي فعلياً مُلك هؤلاء؟ هل يجب حفظها في مكان آمن بعيداً عن الأعين؟ أم يجب الكتابة عنها في الجرائد، كتلك الدعايات القصيرة عن إيجاد هوية أو جواز سفر أو مستندات باسم فلان، وعليه أن يُراجع قسم الشرطة لاستعادتها؟

ضمن تلمّسنا لعالمنا، نتلمّس الجغرافيا التي باتت، رغم فيسبوك وسكايب ووتس أب، شبكة جدران نُقذف داخلها من مساحة إلى أخرى. وكما يُقال، ثمة فيل في الغرفة، عتب مكتوم، حذرٌ صامت، بين من بقي منّا في الداخل السوري في مناطق سيطرة النظام اليوم، مناطق تركيز الأسديّة الأعلى، وبين من أُخرج من هذه المناطق وصار في مكانٍ آخر من هذا الكوكب، مناطق أقلّ أسديّة. في الواقع، ينقصنا التواصل، وينقصنا أن نتبادل الأفكار والأحاسيس كي نصل إلى نتيجة أننا نشعر بأشياء متشابهة في أجواء مختلفة، ومتباينة القسوة والخطر، بلا شك. لكن ثمّة لحظات توحّد المشاعر وتعيدها إلى نقطة الصفر: بعض اللاجئين منا ما زال يحتاج تجديد جواز سفره، وتنتابه أشكال مختلفة من القشعريرة القذرة عند مواجهة صورة بشار الأسد عند مدخل القنصلية السوريّة أو داخلها. وحين يروي ذلك، يقول بعضنا في الداخل: هل تعلم ماذا يعني أن تعيش، عام 2019، في قنصلية متواصلة؟ قنصلية أبشع؟ قنصلية «غير دبلوماسية»؟

«الفيل الذي في الغرفة» هو صورة بشار الأسد…

*****

ومثلما لا نعرف بعد بالضبط كيف نتعامل مع سلامتنا -التي ليست لنا وحدنا-، ما زلنا في مرحلة اكتشاف كيف نتعامل مع 2011. العام العظيم. عام كلّ شيء. أحدنا قال إن 2011 هو الجرح الذي ولدنا منه، وكان مقتنعاً أنه تعريفٌ عظيم قبل أن يتلقى وابلاً من السخرية من بعض زملائنا الآخرين. حصل بعض التشنّج في الموقف، لكن كان هناك كثيرٌ من الألفة والحنان في الكلام.

نعرف أننا لا نريد من 2011 أن يكون شعاراً، أو «ذكرى انطلاقة» نعود إليها موسمياً كلّ عام كما يُعيدك فيسبوك إلى ذكريات «في مثل هذا اليوم». نريد أن نمسك بـ 2011، أن نمسحه، نفككه ونعيد ترتيبه، ننظفه من الغبار، نغطّيه كي لا يبرد… نريد أن نراه، ونرى أجزاء أنفسنا التي بقيت فيه، أن نحكي له، أن نسمع منه، أن نضحك ونبكي سويّة.

نريد أن ندافع عن 2011 في وجه جلاّديه، الرمزيين والفعليين.

هذا العام العظيم، عام كلّ شيء، هو واحدٌ منا. نحبّه، نتابع أخباره، نطمئن إلى أن أموره بخير، أن أموره مقبولة حيث يعيش داخل سوريا، وأنه تعلّم لغة جديدة أو وجد عملاً في لجوئه. ربما لا طاقة لنا على لقائه باستمرار. لكننا نريده بخير. 2011 هو نحن، والشهداء والمعتقلون والمغيّبون من أهلنا وأصحابنا. هو ليس ماضينا، بل هو مستقبلنا. حاضرنا قائم على أن ندافع عن هذا الماضي، أن ونخوض المعارك من أجله، وأن ننظر إليه طويلاً، وأن نعاتبه، وأن نسخر منه، وأن نتشاجر معه، وأن نخاصمه لبعض الوقت قبل أن نصالحه. هو نحن، الـ«نحن» الذي لا يمكن إلا أن نكون شديدي الحنان معه.

2011 هو ما جرى، وما جرى هو هويتنا. هويتنا هي مجموع ذكرى من رحلوا وكرامتنا، نحن الذين بقينا. الباقي تفاصيل.

*****

عاشت سوريا، ويسقط بشار الأسد.