كثيراً ما انتُقدت الثورة (السورية)، وانتُقِد الثوار، من خلال القول إن الناس المؤيدين للثورة لا يعرفون ما يريدون، ولا يفهمون أو لا يفقهون معنى الحرية التي بها يطالبون، وهم لا يؤمنون بهذه الحرية، نظريّاً، وضد معظم أشكالها، وأنواعها، وتجلياتها، عمليّاً. وقد تراوح استهزاء/ انتقاد مؤيدي النظام الأسدي، للثائرين المطالبين بالحرية، بين التشديد على وجود الحريات (الاجتماعية)، في ظل النظاملعل أحد أشهر الأمثلة المعبرة عن هذا النموذج هو ذاك الشخص الذي صرّح، بعد قيام الثورة السورية بأشهرٍ قليلةٍ، في مقابلة مع قناة الدنيا: طالبين الحرية؟! أنو حرية؟!… أنا واحد من الشعب السوري، أنا عايش بحرية، أنا وأهلي. أنا أختي بتطلع الساعة تلاتة بالليل مأمنين عليها، كلو أمان، سورية كلها أمان!، من جهة أولى، وربط مطلب الحرية بأي عملٍ أو حدثٍ سلبيٍّ أو سيء، كحصول تفجير «إرهابي»، على سبيل المثال، من خلال التساؤل الاتهامي غير البريء، حينها، «هاي هي الحرية يلي بدكن ياها؟!»، من جهةٍ ثانية، أو تذكير المعتقلين والأسرى والمخطوفين أثناء تعرضهم للتعذيب، أو حتى للقتل، بأن مطالبتهم بالحرية هي سبب تعرضهم لهذا التعذيب و/ أو ذاك القتل: «بدك حرية مو هيكيه؟ إي خود لكان…!»في الأشهر الأولى من الثورة السورية، ظهر عددٌ من الفيديوهات التي تُظهر تعذيب القوات الأسدية لمؤيدي الثورة أثناء عمليات اعتقالهم أو بعدها أو في سياقات أخرى. ومن أشهر هذه الفيديوهات ذاك الذي يصوِّر هجوم الجيش والشبيحة على قرية البيضا. ففيه نرى الرجال مرميين أرضاً على بطونهم ووجوههم، وهناك من يضربهم ويدوس عليهم ويهينهم ويصرخ: «بدون حرية ولاد الشرموطة»، كما نسمع في الفيديو كلمة حرية تتكرر أكثر من مرة.، من جهةٍ ثالثة.
نُشر موقع الجمهورية مؤخراً مقالاً للسيد موريس عايق، معنونٍ ﺑ «الثورات العربية والثقافة المُحافِظة». ويحفِّز هذا المقال على إعادة تناول هذه المسألة، تناولاً نقديّاً، لكونه يعيد طرحها، وتبني و/ أو صياغة بعض الأطروحات النقدية الشائعة، في خصوص ثقافة المجتمعات العربية المحافظة، ويحاول تقديم إجابةٍ عن نوع الحرية / الحريات التي (لا-) يريدها السوريون، عموماً، والثائرون على النظام منهم، خصوصاً. ويمتاز المقال بميزة «الجمع بين أطروحتين تنتميان إلى سويتين تحليليتين متباينتين في مبنى نظري واحد، أطروحة تفسيرية/وصفية وأخرى معيارية/نقدية، وتقديمهما كأنهما طرح واحد كلي مترابط بالضرورة»أقتبس هنا، في وصف المقال، ما كتبه عايق نفسه، في خصوص كتاب وائل حلاق الدولة المستحيلة. انظر: موريس عايق، بين جبرون وحلاق: محولة في التفسير الاجتماعي، إضاءات، 5 آب/ أغسطس، 2017.. فمن جهةٍ أولى، يتمحور المقال حول ما يراه تناقضاً بين «شعار الحرية الخاص بالثورة السياسية التي سعت الشعوب العربية إلى إنجازها، وبين الثقافة السياسية العامة التي حملتها الغالبية في الوقت ذاته»، بوصفها ثقافةً معاديةً للحريات عموماً. ومن جهةٍ ثانيةٍ، يستخدم هذا التناقض، لتفسير الصدام أو المواجهة بين بعض الجماعات في سورية، وفشل الثورات العربية عموماً. ويتضمن المقال، من جهةٍ ثالثةٍ، نقداً وتقييماً معياريّاً سلبيّاً لهذه الثقافة السياسية المحافظة. ويدمج المقال بين الأمرين، من خلال تأسيس نقده على «شعار الحرية الخاص بالثورة السياسية التي سعت الشعوب العربية إلى إنجازها». وبهذه الطريقة، يكون الوصف تفسيراً ونقداً وتقييماً معياريّاً، في الوقت نفسه. وسأحاول، في ما يلي، إظهار مدى (لا-) معقولية، و/ أو (لا-) منطقية، و/ أو «(لا-) واقعية»، هذا الدمج بين الوصف والتفسير والنقد والتقييم المعياري، ومناقشة بعض النقاط الإشكالية التي يتضمنها.
قد لا يكون مناسباً الحديث، عن مقالٍ صغيرٍ، بهذه الطريقة، لكننا سنتعامل مع هذا المقال، بوصفه فرصةً ﻟ (إعادة) مناقشة أفكارٍ شديدة الشيوع والذيوع و«الخطورة»، في الوقت نفسه. وتكمن خطورة هذه الأفكار في كونها تقدم (إعادة) صياغةٍ لقصة الثورات تجعل المشكلة الأساسية تتمثَّل في الشعب أو في أغلبيته تحديداً، وليس في النظام السياسي/ الاستبدادي، و/ أو تتمثل في الثقافة السياسية لهذه الغالبية، وليس في ممارسات النظام السياسي وشبيحته وداعميه ومؤيديه، أو حتى في الثقافة السياسية لهذا النظام ولهؤلاء الشبيحة والداعمين والمؤيدين. والمتبنون لهذا التعريف للمشكلة، يرون أن المعضلة تتجسَّد تحديداً في تناقض الثقافة الكائنة لغالبية أفراد الشعب مع الثقافة التي يجب أن تكون: ثقافة الثورة والحرياتجاء في المقال: «الثقافة السياسية للجزء الأكبر من الشعب صاحب المصلحة بالثورة، والتي لا يمكن تصور نجاحها بدونه، هي ثقافة محافظة في جوهرها، بما يضعها في مواجهة مباشرة مع الجماعات الأخرى التي هي بدورها تملك مصلحة أساسية في القيام بهذه الثورة والتخلص من الاستبداد والقمع والفساد. […]. بتعبير آخر، من يفترض أن يواجههم المرء لكونهم في صفوف الثورة المضادة، سيراهم عوضاً عن هذا في صفوف الثورة نفسها. وعليه، فالشعب الذي عليه أن يقوم الثورة، تهيمن عليه ثقافة سياسية محافظة معادية للحريات وقيم الثورات نفسها، يمكن أن تستخدم في لجم العملية الثورية وتعطيلها»..
مفهوم «ثورة» هو مفهومٌ معياريٌّ سميكٌ «thick normative concept»، أي أنه، ككل مفهومٍ سميك، يتضمن وصفاً وتقييماً، في الوقت ذاته. وعلى الرغم من كل الويلات التي حصلت خلال الثورات العربية، والتي جعلت الحمولة القيمية/ المعيارية لهذ المفهوم تصبح، في بعض السياقات، ولدى بعض الناس، أكثر سلبيةً وأقل إيجابيةً، مما كان عليه الحال قبل قيام هذه الثورات، فما زال هذا المفهوم يُستخدم، في كثيرٍ من الأحيان، بوصفه مفهوماً معياريّاً إيجابيّاً. وتبدو إيجابية مفهوم «الثورة»، من خلال التشديد على ارتباطها الضروري بمفهوم سميكٍ آخر، هو مفهوم الحرية تحديداً. لكن البعد المعياري، في كلا المفهومين، يكون أحياناً قويّاً وساطعاً، لدرجة أنه يحجب أو يطمس معظم معالم الجانب الوصفي غير المعياري؛ وهذا ما يجعله، أحياناً، أشبه ﺑ «مفهومٍ نحيفٍ thin concept»، أي أشبه بمفهومٍ معياريٍّ ذي مضمونٍ وصفيٍّ ضعيفٍ جدّاً. لكن يمكن القول إن مفهوم الثورة/ الحرية، في هذا الاستخدام الشائع، (وفي المقال)، يُحيل على (التوسع في) الحريات العامة والخاصة، وعلى المواقف «الليبرالية» من «النساء والمثليين والأقليات وأي تعبيرات عن الاختلاف»، في الحياة العامة، وعلى الديمقراطية، وما تعنيه من سيادة الشعب والمساواة بين أفراده، بعيداً عن أي تمييزٍ، على أساس الدين أو الطائفة، أو الإثنية أو الجنس أو الميول الجنسية… إلخ.
إن مناقشة مفهوم «الثورة السياسية» تقتضي بالضرورة مناقشة مفهوم الحرية. فما الحرية أو الحريات المقصودة، أو التي ينبغي أن تكون مقصودةً، عند الحديث عن الثورات السياسية عموماً؟ لا يبدو منطقيّاً، أن يكون تركيزنا، خلال حديثنا عن «الثورات السياسية» وعن «الثقافة السياسية»، على الحريات الاجتماعية/السياسية، المتعلقة بالمواقف من النساء والمثليين وملبس الناس ومأكلها وطريقة حياتها إلخ، أكبر بكثيرٍ من تركيزنا على الحريات السياسية المتعلقة بالطبيعة السياسية لنظام الحكم، ومبادئه، والقيم الأساسية المؤسِّسة لها. فحين نتحدث عن الثورات السياسية والثقافة السياسية، فإن الحرية التي تحيل عليها الثورة السياسية تعني، بالدرجة الأولى، التحرر من نظامٍ مستبدٍ ما، ومن القمع والظلم الممارسين بحق المحكومين منه و/ أو الثائرين عليه؟ وفي هذه الحالة، تكون الثورة السياسية خروجاً على النظام، يتضمن خروجاً عن النظام، بغية إحداث تغييرٍ جذريٍّ ما في نظامٍ سياسيٍّ ما، هو غالباً وربما دائماً، في السياق العربي المعاصر، ذو سمةٍ استبداديةٍ ما. فالثورة السياسية هي إما تغيرُّ، جذريٌّ وأساسيٌّ، يطرأ على نظام سياسيٍّ (استبداديٍّ) ما، أو السعي إلى إحداث هذا التغيّر أو التغييريقول بشارة، في تعريف الثورة: «المقصود بالثورة هو تحرك شعبي واسع خارج البنية الدستورية القائمة، أو خارج الشرعية، يتمثل هدفه في تغيير نظام الحكم القائم في الدولة». عزمي بشارة، في الثورة والقابلية للثورة، (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2012)، ص 29.. وبعيداً عن الدلالات السلبية التي ارتبطت بمفهوم الثورة، في الآداب السلطانية، وانطلاقاً، جزئيّاً، من مسوغاتٍ دينيةٍ/ إسلامية، يمكن القول إن الدلالات الإيجابية التي ارتبطت بمفهوم الثورة، عموماً، في السياق العربي المعاصر، تكمن في كونه يحيل على تغييرٍ كبيرٍ أو جذريٍّ إيجابيٍّ ما. والثورة السياسية ذات دلالاتٍ إيجابية، بقدر سوء من و/ أو ما تحصل الثورة عليه، وبقدر الإقرار بالحق في رفض هذا الطرف السيء، وفي الثورة عليه. ويحيل مفهوم الحرية، في الثورة السياسية، على التحرر من نظام سياسيٍّ. وعلى هذا الأساس، فإن فهم ثورةٍ ما يقتضي، بالدرجة الأولى، فهم ما تثور عليه هذه الثورة، وما ترفضه، وتدمره أو تسعى لهدمه، والتخلص منه.أستميح القارئ عذراً في اضطراري إلى اقتباس هذه الفقرة الطويلة، من نصٍّ سابقٍ لي، لتوضيح هذه الفكرة: «لا يمكن فهم الثورة انطلاقاً مما تريده، وإنَّما انطلاقاً مما لا تريده. فهي فعلٌ سلبيٌّ، بالمعنى المنطقي، أكثر من كونها فعلاً يتوجه إلى تحقيق هذه الغاية المحددة أو تلك. الثورة سلبٌ، بمعنى أنها رفضٌ لواقعٍ قائمٍ، أكثر من كونها تخطيطاً وسعياً لواقعٍ مرادٍ منظَّرٍ له مسبقاً. والسلب، كما قال هيغل ومن بعده اسبينوزا وماركوزه وغيرهم، هو وجودٌ أصيلٌ، لا ينبغي رده لمجرد نفيٍ للإيجاب. وفي حالة الثورة عموماً، والثورات في بلادنا العربية خصوصاً، السلب هو أساس الإيجاب، وليس العكس. فالثائرون لا ينطلقون من أيديولوجيةٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ واضحة المعالم، ولا من تصورٍ نظريٍّ متماسكٍ عن النظام السياسي البديل الذي يرجون تحقيقه أو تحقُّقه. فمنطلقهم يكمن في رفض الظلم والاستبداد والتسلط والفساد … إلخ. وهذا الرفض، بأبعاده المختلفة، هو ما يشكل ماهية الفعل الثوري، ويميزه عن مطالب أو أفعال من يسعون إلى الإصلاح من الداخل، ويؤمنون بإمكانيته وجدواه.» حسام الدين درويش، «الثورة بين العقلانية والانفعالية، بين مشاعر الخوف ومشاعر الغضب، بين الحوار والمناظرة»، موقع الأوان، ملف انتفاضات العالم العربي (37)، 16/5/2011. لأسباب تقنية، تتعلق بالموقع لم يعد المقال موجوداً، على الموقع، وهو موجود في كتابي: نصوصٌ نقديةٌ في الفكر السياسيِّ العربي والثورة السورية واللجوء (بشارة وباروت أنموذجاً)، (بيروت: الدار العربية للعلوم ناشرون، 2017)، ص 162.
أزعم أن هذا المفهوم للثورة ينطبق على كل الاحداث الموصوفة بأنها ثورات، وهو ينسجم مع الاستخدامات الشائعة للثورة، عموماً، وللثورة السياسية خصوصاً؛ كما أنه يتضمن مضموناً وصفيّاً، غير معياريٍّ، وواضحاً، ومحدَّداً، إلى جانب تضمنه لبعدٍ معياريٍّ مسوَّغٍ، تسويغاً كبيراً. والثورة السياسية، بهذا المعنى، هي إيجابيةٌ، ليس لكونها تتضمن تصوراً لبديلٍ أفضل مما هو قائم، أو سعياً كاملاً لتحقيق هذا البديل، وإنما، بالدرجة الأولى، لكونها تهدم ما هو قائمٌ، أو تسعى إلى هدمه، وتفسح مجالاً لممكناتٍ جديدةٍ، إيجابيةٍ وسلبيةٍ، لم يكن بالإمكان وجودها، لولا حصول هذه الثورة. في مقابل هذا المفهوم للثورة، نجد، في المقال مثلاً، مفهوماً آخر متطرفاً أو مفرطاً في معياريته الإيجابية أو إيجابيته المعيارية. ووفقاً لهذا المفهوم تتماهى الثورة السياسية مع توسّع الحريات وتبني قيم العقلانية والتنوير واحترام الاختلاف… إلخ. وانطلاقاً من هذا المفهوم المعياري للثورة، قد لا يكون صعباً سحب لقب «الثورة» من معظم، وربما كل، ما يسمى ﺑ «ثوراتٍ سياسية» في التاريخ الإنساني. فكل هذه الثورات تضمنت تياراتٍ قويةً لا تتناسب مع المفهوم المعياري الإيجابي الزاهي. وفي كل الأحوال، هذا ما يبدو، لوهلةٍ أو أكثر، ممكناً، في خصوص «الثورات العربية»، عموماً، وفي خصوص «الثورتين السورية والمصرية»، تحديداً. وما يقوله كثيرون من منتقدي الثورة ومعاديها، في هذا الخصوص، هو أن الثقافة السياسية ﻟ «النسبة العظمى من الثائرين على النظام» هي ثقافة «الثورة المضادة» أو ثقافة «مضادة للثورة»؛ فهي ليست ثقافة الثورة/ الحريات، وإنما هي «ثقافة سياسية محافظة معادية للحريات وقيم الثورات نفسها»، وهي بالتالي، تماماً كما يقول إعلام النظام ومؤيدوه أحياناً، «فورة»، وليست «ثورة».
على الرغم من أن المفهوم المعياري، المتطرف في إيجابيته، يفضي إلى القول إن الثورات العربية ليست بثورات، لأن أغلبية الثائرين «المزعومين» معادون للثورة/ الحريات، فإن كثيرين من متبنيّ هذا المفهوم يترددون في القبول بهذه النتيجة التي تبدو منطقية، انطلاقاً من المقدمات التي أشرنا إليها؛ ويستمرون في الحديث عن «الثورة السياسية التي سعت الشعوب العربية إلى إنجازها»، بدون إبداء أي تحفظٍ أو تشكيكٍ في ثورية هذه الثورات. ويبدو أن ثقافة الثورة المضادة تمثل، من منظور هؤلاء، مجرد «تهديدات» ومساعٍ متناقضةٍ مع «فكرة الثورة»، لكونها ترمي «إلى تقييد الحرية وإخضاعها إلى نظام أخلاقي متشدد ومناهض للحرية والمساواة عموماً». ويبدو أن هذه المساعي لا تنجح بالضرورة، وعلى هذا الأساس، نفهم إشارة المقال إلى أن الثقافة السياسية المحافظة التي تهيمن على الشعب «يمكن أن تستخدم في لجم العملية الثورية وتعطيلها.» والقول بإمكانية هذا «الاستخدام» يعني الإقرار بوجود إمكانية ﻟ «عدم الاستخدام»، ومن هنا ضرورة التساؤل عن الشروط أو التي تحيل هذه الإمكانية المبدئية أو الكامنة إلى ضرورة فعليةٍ أو واقعٍ قائم. وترتبط الإجابة عن هذا السؤال بالإجابة عن سؤالٍ آخر يتعلق بالجهة أو الجهات التي يمكن، أو يُرجَّح، أن تستخدم هذه الثقافة. والحديث عن استخدام هذه الثقافة يفترض أن هذه الثقافة لا تفعل بذاتها أو تلقائيّاً، وإنما هي بحاجة لمن يستخدمها، ويفعل بها أو بواسطتها. فمن الذي يستخدمها ويوظِّفها لصالحه وينقلها من عالم الإمكان والقوة إلى عالم التحقق والفعل؟ نرجِّح أن مستخدمي هذه الثقافة لا يقتصرون على متبنيها، ونعتقد أن الإجابة عن مثل هذا السؤال ذات أهميةٍ كبيرة، وينبغي لها أن تأخذ في الحسبان سيرورة تشكُّل هذه الثقافة، وعوامل تشكلها، وطرق توظيفها واستخدامها، ونتائج وغايات هذا الاستخدام.
فوفقاً للمفهوم المعياري المتطرف للثورة، تتوقف ثورية «الثورات العربية» على مقدار كونها حركاتٍ مؤيدةً للحريات، كل الحريات، وساعيةً إلى توسيعها. والحديث عن عدم ثورية أغلبية «الثائرين» المشاركين فيها، لكونهم يتبنون ثقافة محافظة معادية للحريات – ينفي بوضوحٍ تلك الثورية. ومن هنا جاء عنوان هذا المقال عن «(لا-)ثورية الثورات العربية»، وعن «استحالة ثورات المحافظين». فالعنوان يحيل على ما يتم نقده أو انتقاده، في هذا المقال، من أطروحات منتشرةٍ ويتضمنها مقال عايق. وآمل أنه قد أصبح مفهوماً ما أقصده بالقسم الأول «(لا-)ثورية الثورات العربية». القسم الثاني ينص على «استحالة ثورات المحافظين». وأعني بهذه الاستحالة، ليس (فقط) الإشارة إلى الأطروحة التي تنفي إمكانية قيام المحافظين بثوراتٍ سياسية – بالمعنى الإيجابي معياريّاً لمفهوم الثورة – وإنما الإشارة (أيضاً) إلى استحالة/ تحول هذه الثورات إلى ثوراتٍ مضادة. وهذا يعني أنه، وفقاً لهذه الأطروحة، حتى إن كان هناك إمكانية ما لأن تحصل ثورةٌ ما تكون غالبية المشاركين فيها من المحافظين المتزمتين، فإن هذه الغالبية المحافظة المتزمتة سرعان ما تستغل «لحظة الحرية» التي أتاحتها لها هذه الثورة، وتستغل «الوسائل التي قدمتها الثورة والحرية لها»، فتعمل على «فرض قيمها واعتباراتها الخاصة»، بما يهدد «بإقصاء كل الجماعات التي لا تتبنى مثل هذه القيم، سواء من العملية السياسية نفسها أو من المجال العام.» سنعود لتناول هذه النقطة لاحقاً.
وللتمييز بين «الثورة» و«الثورة المضادة»، في عالمنا العربي، لا يبدو مناسباً اتخاذ مسألة الموقف من المثلية الجنسية، معياراً للحكم على انتماء أي شخصٍ ﻟ «الثورة» أو ﻟ «الثورة المضادة»؛ ليس لأن هذا الموضوع غير وثيق الصلة بالمسألة الديمقراطية، فهو، من وجهة نظرنا، يتصل بها بالتأكيد، بقدر الصلة الكبيرة لمنظومة حقوق الإنسان بها، وإنما لأن اتخاذه معياراً سيجعل الأغلبية الساحقة من السوريين (والعرب والمسلمين على الأرجح) مضادة للثورة أو مع الثورة المضادة، بغض النظر عن مواقفهم السياسية المؤيدة للاستبداد أو المعارضة له. كما أن اتخاذ هذا المعيار أساساً للحكم على مدى تبني الثائرين على النظام، في العالم العربي الإسلامي، لثقافة الثورة/ الحرية – قد يعطي الانطباع بأن هؤلاء الثائرين، هم، وحدهم، من يتبنون ثقافةً محافظة، في هذا الخصوص. وهذا غير دقيقٍ بالتأكيد، فمعاداة المثلية الجنسية، في العالم العربي الإسلامي، سائدةٌ ومهيمنة، ليس شعبيّاً فحسب، بل في المستوى القانوني والتشريعي، وفي سياسة الدولة والأنظمة السياسية الحاكمة، أيضاً. ويمثِّل إصدار نظام السيسي، منذ بضعة أشهرٍ، قانوناً يجرِّم المثلية الجنسية ممارسة وترويجاً… إلخ، ويشدِّد العقوبات، في هذا الخصوص – قرينةً، أو حتى دليلاً قويّاً، في هذا الخصوص.
ومن الضروري، في هذا الخصوص، الانتباه إلى مسألة «الموقف من الأقليات». فهذا الموقف هو أحد أهم المعايير التي تتُبنى، لنفي ثورية «الثورة السورية»، والحكم على الثقافة السياسية الشعبية بأنها ثقافةٌ «مضادة للثورة/ للحريات/ للاختلاف». ولهذه المسألة أهميةٌ ودلالةٌ كبيرتان، في خصوص الثقافة، عموماً، والثقافة السياسية خصوصاً. وثمة نظرةٌ شائعةٌ تجعل الأقليات (الإثنية أو الدينية أو الطائفية) في موقف رد الفعل، وتجعل، في المقابل، «الأكثرية» في موقع الفعل، بحيث أنها تفسِّر/ تبرر ضعف مشاركة أفراد هذه الأقليات في الثورة، بفشل الثائرين «في اكتساب أيّ من الأقليات الدينية والطائفية والإثنية للثورة»، بسبب ثقافتهم المحافظة المعادية للحريات والتنوير والاختلاف… إلخ. ووفقاً لهذا المنطق، على الثائرين، تحديداً، تقع مسؤولية السعي إلى اكتساب غير الثائرين للثورة، وبالتالي هم تحديداً من يمكننا أن نلومهم وننتقدهم، في حال امتناع هذه الأقليات أو غيرها عن المشاركة في الثورة، وهم من يمكن أن نحكم عليهم بالفشل أو النجاح، في هذا الخصوص. والجدير بالذكر أن الفئات أو الجماعات المذكورة، التي فشلت الأغلبية المحافظة من الثائرين في اكتسابها للثورة السورية، تمثل نصف عدد السكان تقريباً، أو على الأقل. والحال ذاته في مصر، وفقاً لعرض المقال ذاته للموضوع. وليس واضحاً الأساس الذي ينطلق منه كثيرون للحكم على أغلبية المصريين أو السوريين، أو حتى على أغلبية الثائرين أو المؤيدين لثورتي هذين الشعبين، بأنهم يؤيدون النزوع المتشدد و/أو المحافظ أخلاقيّاً، واجتماعيّاً، وسياسيّاً.
ولا يبدو مستغرباً وجود استقطابٍ حادٍّ، في مثل هذه السياقات، لكن ينبغي الحذر الشديد من رد تلك المواقف والاستقطابات إلى الثقافة السياسية المحافظة أو غير المحافظة، في هذا الخصوص، والنظر إلى أن هذه الثقافة تمثل حالةً مستقرةً ومستمرة. الثقافة (السياسية)، في هذا السياق، تكون مُنتَجة بقدر كونها منتجةٌ، وربما أكثر بكثير، وهي في حالة صيرورةٍ دائمةٍ ويزداد تسارع هذه الصيرورة والتغيرات التي تطرأ على هذه الثقافة في أوقات الأزمات والإضرابات والقلاقل وما شابه. وفي أوقات الأزمات، يكون الموقف المتوقّع الذي تتخذه الجماعات العرقية والدينية والطائفية المختلفة، تجاه بعضها بعضاً، هو التوتر والريبة، على أقل تقدير. وتزداد درجة هذا التوتر والريبة، في حال انتشار العنف وهيمنته على المشهد. والعلاقة بين السوريين المنتمين، نسباً و/ أو انتساباً، إلى أديان و/ أو مناطق و/ أو طوائف و/ أو إثنيات… إلخ، تأثرت وتتأثر بكثيرٍ من المتغيرات التي حصلت قبل الثورة و/ أو بعدها. ولا تقوم هذه المتغيرات، بالدرجة الأولى، على عوامل ثقافية، ولا على الثقافة السياسية المحافظة عموماً، والموجودة قبل هذه الأحداث.
إن «استنكاف الأقليات عن المشاركة في الثورة»، وحصول «مواجهة بين الجماعات»، ليسا نتيجة أن «الثقافة السياسية للجزء الأكبر من الشعب صاحب المصلحة بالثورة، والتي لا يمكن تصور نجاحها بدونه، هي ثقافة محافظة في جوهرها، بما يضعها في مواجهة مباشرة مع الجماعات الأخرى التي هي بدورها تملك مصلحة أساسية في القيام بهذه الثورة والتخلص من الاستبداد والقمع والفساد.» كما يقول المقال. فهذه المواجهة وذاك الاستنكاف، هما، مع الثقافة السياسية السائدة، نتيجة لتاريخ طويل، وحاضر ثقيل، من العنف والإقصاء والمعاناة الرهيبة وسياسة فرِّق-تسُد. فالثقافة السياسية المحافظة، والتوتر بين الطوائف، وحصول مواجهات بينها، على المستوى الرمزي الفكري والشعوري والخطابي، أو على المستوى الفعلي والمادي، هذا كله نتاج علاقات القوة والتسلط القائمة بين الدولة والنظام السياسي والأمني، من جهةٍ، والمجتمع و/ أو الثقافة، من جهةٍ أخرى.
وربما كان من الضروري الإشارة إلى بعض ما حصل ويحصل، في هذا الخصوص، في البلاد الديمقراطية موطن، أو أحد أهم مواطن، الثقافة الليبرالية غير المحافظة اجتماعيّاً وأخلاقيّاً وسياسيّاً، بمعنى ما، ولدرجةٍ ما. فمن الضروري أن نتذكر ماذا حصل في أمريكا بعد تفجيرات برجي التجارة، وماذا حصل في أوروبا بعد حوادث العنف التي قام بها مسلمون أو مهاجرون أو لاجئون… إلخ. فهذه الأحداث العنيفة الطفيفة، مقارنةً بما حصل في سورية خلال السنوات القليلة الماضية، غيرت وتغير الكثير من توجهات ومضامين الثقافة السياسية الشعبية والرسمية «الغربية». لكن ذلك التغيير يحصل في إطار قانوني وسلميٍّ، بدون أن ينفي ذلك وجود مواجهات بين الآراء المتناقضة. فعلى سبيل المثال، عند سؤال أحد الفلاسفة، أو الباحثين في الفلسفة، الألمان عن الواجبات الأخلاقية تجاه اللاجئين، أجاب بأن المحافظة على السلم الاجتماعي تحظى بأولوية أكبر من أولوية الالتزام بهذه الواجبات، وبفكرة/ قيمة العدالة، في هذا الخصوصFabian Wendt, Gerechtigkeit ist nicht alles: Über Immigration und sozialen Frieden, in Welche und wie viele Flüchtlinge sollen wir aufnehmen? Philosophische Essays. Grundmann T, Stephan A (Eds); (Stuttgart: Reclam, 2016), pp. 45-56.. لقد تخلى هذا الشخص عن فكرة/ قيمة العدالة وعن الواجبات الأخلاقية المستندة إلى العدالة، لأنه رأى وجود خطرٍ أو تهديدٍ ما يمكن أن يمسّ السلم الاجتماعي في بلده. ومن الضروري التشديد على أن تأثيرات أحداث العنف المشار إليها متوسَّطة دائماً، بعمل السياسة ووسائل الإعلام. ومع الأخذ في الحسبان لهذا التوسُّط، نلاحظ أن بضعة «هجماتٍ إرهابية» في «بلدٍ ديمقراطيٍّ ما» يمكن أن تؤثِّر تأثيرً كبيراً أو هائلاً في الثقافة السياسية الشعبية والرسمية للشعب والأحزاب والمؤسسات الوطنية والخاصة، على حدٍّ سواءٍ. وهذا ما ينبغي أن نتذكره، عند مقاربتنا للثقافة السياسية المحافظة في عالمنا العربي. فقد يساعدنا هذا التذكر على رؤية أن الثقافة السياسية «لدينا» أقل محافظةٍ بكثيرٍ، مما «ينبغي لها أن تكون»، وأنَّها والمواجهات الفعلية أو الممكنة بين الجماعات، نتيجةٌ أكثر بكثيرٍ من كونها سبباً. والحديث عن معضلات الثقافة السياسية، ينبغي أن يتم في إطار الحديث عن معضلات العنف والتطرف السياسي المُنتِج لهذه الثقافة، بدلاً من التركيز على مواجهاتٍ ثقافيةٍ بين ثقافة الحرية/ الثورة وثقافة الثورة المضادة للحريات والثورة!
يشير المقال أحياناً إلى الدور الأساسي للنظام السياسي وللعنف الذي يمارسه، فهو يؤكد أن هذه الثقافة ليست «نتيجة تراثٍ ما» بل هي «ناتجة عن تحول الدولة الوطنية إلى دولة مستبدة وفاشلة». ومع ذلك، تُحمَّل الثقافة السياسية التي يتبناها الجزء الأكبر من الشعب، مسؤولية المواجهة بين أفراد أو جماعات الشعب، وفشل هذه الثورة. وعلى الرغم من التأكيد أن ما يقوله لا يعني «تعليق الثورة السياسية بانتظار ثورة ثقافية ما، ثورة في الرأس، وهو الادعاء الذي عادة ما يُستخدم لتبرير الاستبداد السياسي.» إلا أننا نجد في الختام تشديداً على أن ما يحصل في البلاد العربية ليس شبيهاً بذاك الذي حصل في الربيع الأوروبي عام 1948، فـ «الشبح الذي يخيم على الثورات العربية ليس شبح ربيع الشعوب، كما تقترح تسمية الربيع العربي، بل شبح الثورة الإيرانية». ويضيف المقال إن تهديد هذا الشبح هو الذي يجعل من يشعر بخطره ينضم إلى تحالفٍ مناهضٍ له أو للثورة، وأنه لأسبابٍ كثيرةٍ، من المستبعد تماماً حصول ثورةٍ شبيهةٍ بالثورة الإيرانية. وانطلاقاً من هذه الرؤية – التي يتبناها مقال عايق ولا يتبناها هذا المقال – يبدو أننا أمام استعصاءٍ ثقافّيٍّ/ سياسيٍّ كامل. فمن ناحيةٍ أولى، لا يبدو أن الثورة، بوصفها ثورةً ليبراليةً تسعى إلى توسيع الحريات، ممكنة، لأن الثقافة السائدة هي ثقافةٌ محافظةٌ ومعادية، للتنوير والحريات؛ ومن ناحيةٍ ثانية، لا تبدو الثورة الدينية المحافظة على النمط الإيراني ممكنةً، أو قابلةً للنجاح، لأسبابٍ كثيرةٍ. وعلى هذا الأساس كان عنوان مقالنا هذا هو: «(لا-) ثورية الثورات العربية واستحالة ثورات المحافظين».
وعلى الرغم من أن هذ المنطق أو الفكر يفضي، بالضرورة، على الأرجح، إلى القول بضرورة «تعليق الثورة السياسية بانتظار ثورة ثقافية ما، ثورة في الرأس، وهو الادعاء الذي عادة ما يُستخدم لتبرير الاستبداد السياسي»، إلا أن بعض متبنيّ هذا المنطق يرفضون هذه النتيجة، وينكرون كونها نتيجةً منطقيةً للمقدمات التي يتبنونها. لكن السؤال الذي يبدو أن النص لا يواجهه بوضوحٍ (كافٍ)،هو التالي: إذا كانت «ثقافتنا السياسية غير متسقة»، من وجهة نظر متبنيّ هذا المنطق، وإذا كان ذلك يعني، من وجهة نظرهم، أن «الثورة السياسية ستكون متعسرةً بالضرورة، في هذه الحالة»، ألا يعني ذلك أنه، إما أنه «ينبغي تعليق الثورة السياسية بانتظار ثورة ثقافية ما، ثورة في الرأس»، أو أن «سؤال الثورة السياسية يبقى متعثراً إذا لم ترافقه ثقافة سياسية متسقة»؟
مقابل القول بهذا الاستعصاء، والتنظير «الثقافوي» له، ومقابل النفي الكامل لإمكانية قيام ثوراتٍ عربيةٍ ولإمكانية نجاحها، في حال قيامها، نعتقد أن الثورات العربية، بالمعنى المعياري الإيجابي للكلمة – قد قامت، حقّاً قامت، وبأن الثقافة السياسية للشعوب العربية المعنية، عموماً، وللمشاركين في الثورة خصوصاً، لم تكن العامل الحاسم في تحديد مصيرها – بدون أن يعني ذلك بالتأكيد إنكار الدور المهم الذي لعبته هذه الثقافة – وبأنه كان من الممكن نجاح عددٍ من الثورات العربية – التي لم تنجح، حتى الآن، على الأقل – على الرغم من هذه الثقافة السياسية، بل وبسببها أيضاً أحياناً. وسنستبق بعض الأفكار التي سنناقشها لاحقاً لنقول: على العكس مما يقوله مقال عايق، لقد كان شبح «ربيع الشعوب» هو أحد الأشباح التي خيمت على الثورات العربية بالتأكيد، ومن هنا معقولية الحديث عن «الربيع العربي». لكن ذلك لا يعني أن هذا الشبح هو الشبح الوحيد الذي كان مخيّماً في تلك الثورات، فشبح الثورة الإيرانية كان حاضراً، و/ أو تمَّ استحضاره، أيضاً بالتأكيد. ولا نعتقد بموضوعية القول الذي يتضمنه مقال عايق والذي يذهب إلى أن «شبح الثورة الإيرانية» فقط، وليس «شبح ربيع الشعوب» هو الذي كان يخيم على الثورات العربية.
ما الإشكالي تحديداً في تبني الأطروحة القائلة إن «المعضلة التي تواجهها الثورات العربية» هي معضلةٌ ثقافيةٌ، وهي تكمن في تناقض ثقافة الشعب المحكوم مع ثقافة الثورة/ الحريات؟ الإشكالي هو أنه، في حديث متبنيّ هذه الأطروحة، عن «الثقافة السياسية» و«الثورة السياسية»، يتغلب حديث الثقافة على حديث السياسة، ويتركز الاهتمام على الثقافة السياسية المحافظة لأغلبية الثائرين على النظام، بما يوحي أو يبيِّن أن متبنيّ هذه الاطروحة يرون أن المعضلة هي في «الثقافة الكارثة» التي يتبناها الجزء الأكبر من الشعب، وأن «الشعوب أسوأ من حكامها»أُحيل هنا على عنوان مقال: سامي الكيال، الثقافة الكارثة: هل الشعوب أسوأ من حكامها؟، القدس العربي، 7 آذار/ مارس 2019.، في خصوص مسائل الحريات. انتقادنا لهذه الأطروحة لا يروم نفي/ إنكار وجودها، نفياً مطلقاً، وإنما يهدف، من ناحيةٍ أولى، إلى إبراز أنها إحدى المعضلات وليست المعضلة (بأل التعريف)، وليست أبرز أو أهم المعضلاتٍ التي تواجهها الثورات العربية، ومن ناحيةٍ ثانيةٍ، إلى التشديد على ارتباطها الضروري ببعض المعضلات و/ أو الإشكاليات الأخرى التي قد تفوقها أهميةً وتأثيراً، ومن ناحيةٍ ثالثةٍ، إلى مناقشة بعض افتراضاتها ودلالاتها والاستنتاجات المستخلصة منها، مناقشةً نقدية.
نحن نعتقد أن هذه المعضلة تكون، في البلاد التي تحكمها أنظمةٌ ديمقراطيةٌ، ذات مركزيةٍ أكبر بكثيرٍ من مركزيتها في الواقع السياسي للبلاد التي تحكمها أنظمةٌ استبداديةٌ. ففي البلاد الديمقراطية، ثمة إمكانيةٌ دائمةٌ، من حيث المبدأ، لأن يتعارض رأي الأغلبية الشعبية أو البرلمانية مع رأي الجهات القضائية التي تبطل رأي الأغلبية، ولا تسمح بتنفيذه، لكونه يتعارض مع ما ينبغي أن يكون، وفقاً لفهمها لمبادئ الديمقراطية ذاتهاأدينُ بالانتباه إلى هذه الفكرة للدكتورة لمى أبو عودة.. ولا يمكن عموماً تخيل حصول مثل ذلك التعارض في البلاد المحكومة من قبل أنظمةٍ استبدادية، حيث تنسجم عموماً قرارات كل الأغلبيات الرسمية أو المعلنة والمتاحة مع رغبات المستبد، وتتراقص وفقاً لمعزوفاته وإيقاعاته. فهذه المعضلة هي «شأن ديمقراطيٌّ داخليٌّ»، أكثر من كونها تحيل على علاقةٍ ما بين الديمقراطية وما هو خارجها، سواء كان ذلك الخارج هو (الثقافة) الليبرالية أو الثقافة المحافظة. فهي لا تتعلق بالعلاقة بين الديمقراطية والليبرالية، بقدر الإقرار بعدم قابلية اختزال الديمقراطية في رأي الأغلبية وصناديق الاقتراع. وهي ليست ذات علاقةٍ خاصةٍ بالثقافة المحافظة، لأن الرأي الديمقراطي/ القضائي الرسمي قد يتعارض مع الكثير من الآراء غير المحافظة، بل والشديدة الليبرالية أيضاً. ومن هنا نرى أن الممكنات، المبدئية أو الأولية، لحل هذه المعضلة/ المشكلة، والتفاعل معها إيجابيّاً، موجودةٌ في النظام الديمقراطي، وليس في النظام الاستبدادي، حيث لا رأياً مهمّاً إلا رأي المستبد. وإن وجود آراءٍ مضادةٍ للحريات، بل وللديمقراطية نفسها، هو أمرٌ «طبيعيٌّ» في أي نظامٍ سياسيٍّ، وجزءٌ أساسيٌّ منه عموماً. وعلى هذا الأساس، لا نرى معقوليةً ولا واقعيةً في الاستناد إلى وجود ثقافةٍ محافظةٍ، لدى جزء كبيرٍ من السكان أو الثائرين على النظام الاستبدادي، للذهاب في الاستنتاجات إلى درجة القول بأن لا إمكانية لثورات عربية ديمقراطية، بسبب وجود ثقافةٍ محافظةٍ مضادةٍ للديمقراطية. فمعضلة وجود هذه الثقافة تتحول إلى مشكلةٍ قابلةٍ للحل، جزئيّاً ونسبيّاً، في حال وجود نظامٍ ديمقراطيّ، لكن هذه المعضلة تظهر بوصفها «المعضلة الكبرى»، بسبب وجود النظام المستبد الذي يعزز وجود الثقافة المضادة للديمقراطية، تعزيزاً مباشراً أو غير مباشرٍ، عن طريق مهادنتها والخضوع لها أحياناً، أو معاداتها وتحويل أفرادها إلى مظلومين ذوي مظلومياتٍ، أحياناً أخرى. فهذه المشكلة/ المعضلة هي سببٌ إضافيٌّ للسعي إلى إقامة النظام الديمقراطي، وليس منطقيّاً كثيراً اتخاذها ذريعةً للخضوع للنظام الاستبدادي، كما يفعل «الشبيحة» وبعض أصدقائهم.
إن متبني الأطروحة القائلة بأن «المعضلة التي تواجهها الثورات العربية» هي معضلةٌ ثقافيةٌ – يرون أن ثقافة غالبية أفراد الشعب العربي هي ثقافةٌ محافظةٌ، ليس سياسيّاً فقط، كما هو حال النظام، بل وأخلاقيّاً واجتماعيّاً أيضاً. ولهذا يرى كثيرون من مؤيدي الثورة، بوصفها ثورة من أجل الحريات، أن من يفترض أن يواجههم المرء لكونهم في صفوف الثورة المضادة، [هم] عوضاً عن هذا في صفوف الثورة نفسها. في حين أن «الأنظمة العربية في سياق تبرير ثورتها المضادة لا تتبنى ثقافة محافظة (ثقافة ثورة مضادة كلاسيكية)، بل تقدم نفسها بوصفها خط الدفاع الأخير عن قيم الحرية والحداثة والتقدم». وعلى هذا الأساس، يمكننا أن نفهم القول الشائع كثيراً لدى «أفراد بعض الجماعات»، والذي يمثل أحد أهم أسس المقال ونقطة انطلاقته، بأنه يمكن لأحد أبناء الطبقة الوسطى في سورية، وهو «صاحب مصلحة جدية في الثورة على الدولة العربية المستبدة والفاسدة، أن يقضي يومه ببساطة مع “شبيح” يرغب بالثورة عليه، لكنه قد لا يستطيع أن يقوم بالشيء ذاته مع “ثوري” من المتمردين على النظام. فالنظام يترك له كامل “حريته الشخصية” لفعل وقول ما يرغب طالما لا يتدخل بالسياسة، بالمقابل فإن النسبة العظمى من الثائرين على النظام يسعون لضبط وتقييد كل ما يعتبرونه شأناً خاصاً يطاول ملبسه ومأكله وطريقة حياته وإخضاعها لما يعتبرونه حقاً، والذي هو خاضع بدوره للتقاليد والدين».
يكثِّف هذا القول أبرز إشكاليات هذه الاطروحة، والفكر الذي يتبناها، وسلبياتهما.
فمن جهةٍ أولى، ليس نادراً أن يعتقد/ يقول كثيرٌ من المؤيدين و«الرماديين» إنَّ النظام أفضل من الثائرين عليه؛ لأن الثائرين عليه مستبدون سياسيّاً مثله وأكثر، ولأن النظام غير محافظٍ، ولا مستبدّ، لا أخلاقيّاً ولا اجتماعيّاً، على العكس من غالبية الثائرين عليه. وبغض النظر عن غياب أو تغييب العوامل السياسية المفصَّلة في المقارنة والمفاضلة بين الطرفين، وبغض النظر مؤقَّتاً عن دقة هذا القول، وعن تقديمه في صيغة معضلة، إلا أنه يبدو أنه يقدِّم «تسويغاً معقولاً» لقيام كثيرين من «أصحاب المصلحة الجدية في الثورة» بتفضيل النظام وثورته المضادة للثورة عليه!
ومن جهةٍ ثانية، ثمة مغالطةٌ شائعةٌ تقول بإمكانية الفصل بين السياسة والحريات الشخصية للأفراد في سورية. وليس واضحاً لي كيف يمكن أن يكون للسوري «حرية شخصية» كاملة لفعل وقول ما يرغب، بدون «التدخل بالسياسة». فهل يمكن للسوري فعلاً أن يفعل أو يقول ما يرغب في خصوص أي جانب من جوانب حياته التعليمية أو الاقتصادية أو الثقافية أو الخدماتية… إلخ، بدون أن يستحضر السياسة، وبالتالي «يتدخل فيها»، بشكلٍ أو بآخر. من الواضح زيف كل الدعوات التي تقول بوجود أو بإمكانية وجود فصلٍ، في سورية، بين السياسة أو الموقف السياسي، من جهة، والرياضة أو الفن أو التعليم أو العمل الثقافي (النخبوي) …إلخ. وعدم إمكانية هذا الفصل هو نتيجة تغوّل النظام على المجتمع والتهامه شبه الكامل للدولة. إن «الاستحالة شبه الكاملة» لعدم التدخل في السياسة، ليست ناتجةً عن رغبة الأفراد في «التدخل بالسياسة»، وإنما نتيجةً لتدخل السياسة/ الأمن في كل مفاصل حياتهم. وليس مسموحاً في سورية أن تكون حياديّاً أو أن لا تتدخل، بل يجب عليك أن تتدخل بالطريقة الملائمة للسلطة السياسية/ الأمنية، وإلا تعرضت لمضايقاتٍ كثيرةٍ على الأقل، ولعقوباتٍ شديدة، قد تصل إلى درجة الاعتقال والتصفية، على الأكثر.
ومن جهةٍ ثالثة، من المرجَّح أن الحريات الشخصية المقصودة، في هذا السياق، تتعلق غالباً «بالشأن الخاص الذي يطاول ملبس الإنسان ومأكله وطريقة حياته». وليس واضحاً كثيراً ما المقصود ﺑ «طريقة الحياة» التي لا يتدخل فيها النظام الأسدي، لكن يمكن الإقرار بأن هذا النظام هو أقل تدخلاً من الفصائل في ملبس الناس، وفي مأكلهم ومشربهم (من حيث أنه لا يمنع المسكرات ولحم الخنزير مثلاً). لكن هل تمثِّل هذه الأمور معياراً مناسباً للمفاضلة بين «الشبيح» و«الثوري»؟ وهل من الواقعي والمعقول أو المنصف المطابقة بين الرؤية الإيديولوجية للفصائل المتشددة ورؤية «النسبة العظمى من الثائرين على النظام»؟ إن القيام بالمطابقة بين هذين الطرفين، أو افتراض عدم وجود تمايزٍ بينهما، كما يفعل المقال، هو، من وجهة نظرنا، أمرٌ غير مناسبٍ على الأطلاق، لا معرفيّاً/ منهجيّاً ولا أخلاقيّاً ولا سياسيّاً. وهذا شبيهٌ باختزال الناس الموجودين في محافظة إدلب الخارجة حاليّاً عن سيطرة النظام، في كونهم، أباءً وأبناءً، متطرفين ينتمون للقاعدة التي تحكم كل «مقاطعة إدلب» وتمثل، بثقافتها المحافظة والمعادية للحريات والتنوير، إيديولوجيا (الجزء الأكبر من) السكان هناك. يجب الحذر جدّاً من استسهال القيام بمثل هذه الاختزالات، ومن تبني مضامينها ونتائجها.
ومن جهةٍ رابعة، وفي مناقشة القول بإمكانية أن يقضي صاحب مصلحة جدية في الثورة على الدولة العربية المستبدة والفاسدة، يومه ببساطة مع «شبيحِ»، من الضروري التساؤل عن المعنى المقصود تحديداً ﺑ «الشبيح» هنا، وما معنى أن «يقضي يومه معه»؟ وهل يقضيه معه بوصفه شبيحاً فعلاً؟أنا مدينٌ للصديق الدكتور أحمد نظير الأتاسي بعددٍ من الأفكار والملاحظات، وربما كانت هذه الملاحظة أبرزها. كما أنني مدينٌ دائماً للصديق الدكتور أحمد اليوسف الذي يقرأ كل نصوصي ويزودني بملاحظاته عنها قبل تقديمها للنشر. فالسوري، بوصفه شبيحاً، «مغمّسٌ» بالسياسة «دائماً»، ومن المستبعد ألّا يتضمن اليوم العادي للشبيح تدخلاً بالسياسة، لصالح النظام طبعاً. فالشبيح «النموذجي» يلهج بالثناء على سياسة نظامه، بمناسبةٍ – وما أكثر المناسبات التي يجدها او يختلقها لهذا الغرض! – وبدونها. فهل يمكن فعلاً لمثل ذلك الشخص أن يقضي ببساطةٍ يوماً كاملاً مع «شبيحٍ»، أثناء تشبيحه؛ أم أن الشبيح يكون حينها «شبيحاً مع وقف التنفيذ»؟ وفقاً لفهمي للفهم السائد لمصطلح «شبيح»، فهو يحيل على من يشبِّح للنظام بيده (ببندقيته أو هراوته أو عضلاته… إلخ) أو بلسانه (وهذا أضعف التشبيح). وليس واضحاً كيف يمكن لحديثٍ عن الثقافة السياسية، وعن الثورات السياسية، أن يركِّز في مقارنته، بين «الشبيح» و«الثوري»، على «مسائل غير سياسيةٍ» كالملبس والمأكل وطريقة الحياة، وأن يستبعد، في مفاضلته بينهما، ليس الموقف السياسي لكلٍّ منهما فحسب، بل والسؤال الأخلاقي أيضاً؟ وتزداد المقارنة/ المفاضلة «سوءاً»، حين يتماهى الشبيح مع النظام، بحيث يتم الانتقال، في المقال، من الحديث عن كون «الشبيح» «أفضل»، أو «أقل سوءاً»، من «الثوري»، إلى الحديث عن أفضلية النظام – مقارنةً بالنسبة العظمى من الثائرين عليه – لكونه يترك للمرء «كامل “حريته الشخصية” لفعل وقول ما يرغب طالما لا يتدخل بالسياسة». ربما كان ضروريّاً مناقشة مضمون «الثقافة السياسية» للأشخاص الذين يتبنون مثل هذه الأطروحة، بدلاً من التسليم بصحة مضامينها، واتخاذها نقطة انطلاقٍ لمساءلة/ محاكمة «الثقافة السياسية» للأغلبية المحافظة، كما يفعل مقال عايق.
ومن جهةٍ خامسة، يتأسس الحديث عن أفضلية النظام مقارنةً بالثورة/ الثائرين عليه، وأفضلية «الشبيح» على «الثوري»، على ثنائية تبسيطيةٍ كثيرة التداول: «نظام سيءٌ – ثائرون أسوأ منه». وانطلاقاً من هذه الثنائية، ينبغي اختيار أحد طرفي التخيير الذي يتخذ شكل القضية العنادية التالية «إما النظام السيء، وإما الثورة الأسوأ منه!». في مقابل هذه الثنائية وذلك التخيير، ثمة اعتقاد بأن الثورات العربية ليست ممكنةً إلا من خلال رفض الخضوع لمثل هذا التخيير. فهذا التخيير هو الإيديولوجيا الرسمية للأنظمة الاستبدادية في معظم الدول العربية، على الأقل. ومن الضرورة القيام بمساءلةٍ نقديةٍ للأسئلة المطروحة على أساس هذا التخيير (مثل: هل تفضِّل داعش والنصرة أو أمثالهما أم النظام؟)، وللافتراضات المعرفية/ المنهجية التي ينطلقان منها، وللغايات والنتائج السياسية، (غير) الأخلاقية التي يحققانها أو يسعيان إلى تحقيقها، بدلاً من الرضوخ لهذه الأسئلة، وقبول افتراضاتها وتحقيق غاياتها. وغالباً ما يستسهل أصحاب هذا الحديث الرضوخ لهذا الاختيار، ولا يفكرون في إمكانية وجودٍ مسبقٍ لطرفٍ/ خيارٍ آخر بل وأطرافٍ/ خياراتٍ أخرى، أو في إمكانية الإسهام في خلق/ إيجاد هذا الطرف أو هذه الأطراف. ويبدو أن القبول الساذج بهذا التخيير، وعدم إخضاعه للنقد، هو، أحياناً وربما غالباً، ذريعةٌ وتسويغٌ للاختيار القائم أو الحاصل مسبقاً، في المستوى العملي، على الأقل.
ثمة مشاكل هائلة ولا شك، في الثقافة السياسية للشعوب العربية، وثمة سلبيات قاتلة في الممارسات التي أقدمت عليها التنظيمات والأحزاب، الإسلامية/ الإسلاموية، خصوصاً، من داعش والنصرة إلى جيش الإسلام وأحرار الشام… إلخ، وفي التنظيرات التي قدمتها أو قدِّمت لها. لكن لا نعتقد مطلقًا بأنه من الموضوعي، أو المنصف، القول بأن أيديولوجيا هذه الفصائل وثقافتها السياسية تمثِّل فعلًا “الثقافة السياسية للنسبة العظمى من الثائرين”، كما يزعم كثيرون، بحسن نيةٍ، أو بسوء نيةٍ.
وعند الحديث عن «المعضلة التي تواجهها الثورات العربية» نعتقد أنه ينبغي التركيز أكثر على تفاوت القوى بين النظام والثائرين عليه. وفي حال التركيز على الدور السلبي للثقافة السياسية، نعتقد أن المشكلة الأساسية أو الأكبر تكمن في «الثقافة السياسية للنظام وداعميه وشبيحته ومؤيديه»، وليس فقط في «الثقافة السياسية للنسبة العظمى من الثائرين عليه»، وأن معظم سلبيات الثقافة السياسية الأخيرة هي نتيجةٌ، مباشرةٌ أو غير مباشرةٍ، لممارسات النظام وشبيحته ومؤيديه، وعنفهم المادي أو الخطابي، وممارساتهم وثقافتهم السياسية.
ليس نادراً محاولة توصيف الأوضاع العربية، وتشخيص مشكلاتها، بلغة المعضلات التي تبدو، جزئيّاً ونسبيّاً على الأقل، مستعصيةً على الحل. لكن ينبغي الحذر من الحديث عن «الثقافة السياسية للجزء الأكبر من الشعب» بوصفها «المعضلة التي تواجهها الثورات العربية». فالمعضلة أو المعضلات التي تواجهها هذه الثورات أسوأ من أن تتمثل، بالدرجة الأولى، في مواجهةٍ أو مواجهاتٍ ثقافيةٍ. فمن منظورنا، نعتقد أن إحدى أسوأ المعضلات التي تواجه مسألة التحول الديمقراطيانظر: محمد عابد الجابري، الديمقراطية وحقوق الإنسان، «كتاب في جريدة»، عدد 95 – الأربعاء 5 تموز (يوليو) 2006، ص 5. تكمن، من جهةٍ أولى، في عدم استعداد الأنظمة الحاكمة للتنازل السلمي عن السلطة و/ أو قيادة الإصلاح والانتقال الديمقراطي التدريجي، ومن جهةٍ ثانية، في صعوبة إزاحة هذه الأنظمة بالعنف، وفي أن هذه الإزاحة إن حصلت، ستترافق، على الأرجح، مع دمارٍ وتدميرٍ كبيرين، وانقسامات مجتمعيةٍ هائلةٍ، وأنه من (شبه) المستحيل أن تفضي هذه الإزاحة إلى بناء نظامٍ ديمقراطيٍّ، في المدى المنظور، على الأقل. وهذه المعضلة تشرح أوضاع معظم الثورات العربية عموماً، والثورة السورية خصوصاً. ونحن لا نقول بوجوب الاختيار بين القول بهذه المعضلة أو تلك، وإنما نقول بأن استحضار إحدى المعضلتين على أنها المعضلة (الأكبر)، وتغييب المعضلة أو المعضلات الأخرى ذات الصلة، ليس أمراً محموداً ولا مناسباً، في كثيرٍ من الأحيان، وهذا هو الحال، في المقال المذكور، على سبيل المثال، لا الحصر.