ما المعنى في أن تحيا أكثر من أربع سنوات ضمن مساحة لا تزيد عن ثلاثة كيلومترات مربعة؟ سؤال لم يؤرقني خلال تلك السنوات الأربعة التي قضيتها محاصراً، بقدر ما أرّقني بعد الخروج من تلك القوقعة، التي تتميز عن الأسر في أمر واحد فقط، هو أنها في الهواء الطلق، الهواء الذي لا تتنفسه إلا مع دخان البراميل والهاون والصواريخ الفراغية. لم أجد الجواب حتى الآن، وأجزم أنني لن أجده، فلا سبب معقولاً وراء فعل لم تفعله أنت، ولم يكن خيارك ولا قرارك، بل كان قرار النظام.
أما قراري خلال تلك السنوات الأربعة، فقد كان أن أحيا الواقع كما هو، بلا فلسفة زائدة تؤرق البال ولا أسئلة تزيد من الضيق الذي نعيشه؛ مع ذلك كان السؤال عن معنى أن أُحاصَر يُلحّ عليَّ أحياناً، فأُسكِته بجواب–كليشيه: «غيمة وبتزول»، لكن هذه الغيمة أصبحت سوداء قاتمة، لا تمطر ولا سبيل لها كي تعود إلى أصلها، بيضاء. هي وحدها من بقيت، ونحن الذي زُلنا.
حاولتُ أن أكتب كثيراً عن تلك الفترة، تفاصيلها وحكاياتها، عن معتقل الهواء الطلق، عن الضيق ومعنى الضيق، عن أرضٍ كانت يوم كنّا، ولم تعد؛ لكنني لم أجد إلا هذه الكلمات التي كُتبت في حمص، في حي الوعر المحاصر، وفي ذلك الوقت؛ وقت الحصار الذي أكل من العمر والقلب والوقت، قبل أن أمضي عبر الباص 29.
قشّة
قررتُ أن أهزم فكرة الحصار التي كل ما حاولتْ السيطرة عليَّ أبعدتُها هازئاً، ربما لأُبقي خيطاً أتعلق به كقشّة تبعدني عن التفكير في مكان تواجدي هذه اللحظات؛ أنا المُصاب بفوبيا الأماكن العالية، على سطح ذلك البناء الهرم والعالي، واسمه مستشفى البر والخدمات الاجتماعية، طارت القشة بعيداً لتسيطر عليّ الفكرة من جديد، وتهزأ بي وتجعلني أشعر بدوار في رأسي، الذي تتطاير الفكرة تائهة منه، والأكسجين الذي أتنفسه يقلّ.
– أما من هواء هنا؟ هل يوجد فسحة للتنفس؟!
– أنتَ في الهواء الطلق الآن، الجدران غير موجودة هنا، ألا ترى! انظر بعيداً خلف هذه الكيلومترات المربعة الثلاثة التي تحاصرك، انظر هناك في الأفق القريب، هناك بيتك، أتعرف ذلك؟ لو وقفت في نهاية هذا الشارع وركضت لخمس دقائق فقط لوصلت.
اركضْ … هيا اركضْ، حسناً لا تحاول؛ في نهاية الشارع بساتين صفراء من حرقة الغياب، تسدُّ طريقك.
أمي تهاتفني الآن، تقول لي: سنراك قريباً.
هي تقول وتردد وأنا أحاول مجدداً التقاط ذرة هواء أتنفسها من ذلك المكان العالي.
ما يفصلني عن أمي رأيتُهُ الآن، قاومتُ الفوبيا للحظات ونظرتُ بعيداً، هي أشجار عالية، لكنها صفراء! أليس غريباً أن يفصلني عن أمي سياجٌ أصفر وبركة ماء لم أتبين ملامحها!
الدوار غلبني من جديد، ظننتُ أن بركة الماء تلك هي السبب، قالوا لي إنه «العاصي».
– ليس ذلك فقط ما يفصلك عنها، انظر هناك في عمق المشهد، انظر جيداً إلى ألسنة اللهب؛ بعد ذلك العاصي، شيءٌ ما يحترق.
وقتٌ لا ينقضي
تركتُ كل الحرائق ورائي محاولاً إيجاد حلٍ للضيق الذي أعيشه، والوقت الذي لا ينقضي في نهاراتي المتشابهة، استلهمتُ ما كانت تقوله لي أمي وأنا صغير حتى أنام: «تخيل هالنجوم بالسما وجرّب عدّهن»، لذا صرتُ أقضي نهاراتي في عدِّ خطواتي، التي لم تبلغ على كثرتها عدد أيامي هنا.
تماهي
ما زال الضيق مسيطراً عليَّ ضمن هذه المساحة التي أراها هي الأخرى ضيقة؛ في الحصار ترى كل شيء ضيقاً، هكذا أشعر على الأقل، حتى الشوارع العريضة في هذا الحي مقارنة ببقية أحياء حمص أراها ضيقة، ضيقة وقصيرة، لا تسعني، ولا تسع خطواتي، وركامها أكثر من خطواتنا جميعاً، لكنني مع ذلك ألفتُها حتى أنها باتت تتمشّى معي أينما مشيت؛ يكفي أن تمشي في شارع واحد أربع سنين حتى تتماهى معه ويتماهى معك فتصيران واحداً؛ يتمشّى معي الشارعُ الآن وأنا أعدّ خطواتي، فلا أحد له إلاي حتى يجد أحداً آخر.
رُكام
يخلق هذا الركام المنتشر في كل الشوارع ركامنا الشخصي، وركامنا يتكفل بخلق الحزن من ضلعه، ضلع هذه البيوت المهدّمة؛ ولأنه مخلوق من ضلعنا فهو المواساة الوحيدة لأي شخص سويٍّ منّا، فالسعادة ترفٌ لا أحد يقدر عليه في الحصار، والبحث عنها كالبحث عن حطب التدفئة في حي احترقت جميع أشجاره؛ لذا أتفقد حزني كل ليلة، أبحث عنه وأداريه كما يداري عاشقٌ وردته، أبحث عنه كل ليلة وأهمس له: لا تقلق… أنا لا أخون.
ليل
في الليل، كحارس يتفقد حدود السجن، أتمشّى في الحي الذي لا يعكر صفو سمائه إلا صفير «الأسطوانات» المتفجرّة. وفي ليلة من هذا الحصار، رأيتُ بركة ماء شكَّلَها صاروخٌ ومطر؛ البركة تعكسُ أضواء المدينة القريبة، لكن وحشة هذا المكان تقتل المعنى.
نهار
الشمس هنا مِطرَقةٌ فوق الرأس، صيفاً وشتاءً، لا فرق عندها إن كنتَ وحيداً، بلا مظلّة أمٍّ أو ظلّ حبيبة.
سنونوة
على شبّاكي بَنَتْ سنونوة عشاً لوليدها، هي لا تحبّ السنونو كما قالت لي مرة: «السنونو سيطير عاجلاً أم آجلاً، سيهجر شبّاكك وهذا الخراب».
وأنا المسكون بالخراب والضيق أحبُّ السنونو، تركتُ الوليد يكبر على شبّاكي حتى استطاع أن يطير كما كنتُ أطير في مناماتي صغيراً؛ كنتُ أحلم بأن روحي تنسحبُ من جسدي لتطير وتطير وتطير، كنتُ أحبّها لو طارت كغيمة، لكنها طارت على هيئة جسدٍ من ضباب يشبه جسدي الضئيل؛ أحاول في طيراني أن أتسلّل إلى عوالم الآخرين، أحاول أن أتقمّص أحدهم لأفكر كما يفكر وأرى ما لا أرى، لكن الضيق الذي أعيشه حتى في مناماتي يمنعني دائماً من إكمال الحلم، فأستيقظ.
عُزلة
أفكر دائماً في روايتي التي لم أكتبها بعد، أتقمّص شخوصها واحداً واحداً لأزرع لهم طرقاً لا ركام فيها، وحين أصل إلى شخصيَّ الأخير، أجده وحيداً وأمامه قهوة ووردة، حصارُهُ يقتل روايتي دائماً.
لا أنتظر
الوقت لا ينقضي هنا، كل النهارات متشابهة، لكنني أحلم ولا أنتظر؛ «نهارٌ واحدٌ في الوجود كله، طويل وحارق، أكون قد تعلمت فيه كل ما يُرجى في الحياة، الحب والحريّة»بسام حجّار..
فقد
في الحصار، تشهد تكثيفاً لكل معاني الوجود: الحياة والموت، الامتلاك والخسران، الحب والبغض، الصدق والكذب، العدل والظلم، الحريّة والطغيان؛ وستخرج منه في النهاية فاقداً لكل معنى.
الباص 29
انتهى الضيق، أو هكذا ظننتُ على الأقل. جاء هذا اليوم، وأنا الآن في الأول من نيسان، اليوم المعروف بالكذب الأبيض، لكنها لم تكن كذبة بيضاء، بل لم تكن كذبة في الأصل، فهذا هو اليوم الذي سأمضي فيه عبر الباص رقم 29، عبر باصات الشمال نحو المدينة المرتقبة؛ قلت: سأبحث عن قلب جديد في أرضها الخضراء، سأجد قلبي أخيراً، وأنظّف ذاكرتي من غبار الماضي، أمسح عنهما ما سلف، ليعودا إلى الرقم صفر كيوم ولدت، ثم أبني عليهما من جديد ما أشتهي وما أحلم؛ لكن الذاكرة تُبنى من أجل أن نتذكر لا من أجل أن ننسى، وما حصل كان خطئي، خطئي بأنني عمّدتُ ذاكرتي بالجثث والجوع والركام، أما قلبي فكانت تلك خطيئته التي لم يرتكبها، ومن يندم على خطايا القلب؟ أنا لم أندم.