تواجه أنقرة ما يمكن أن يكون التحدي الأخير في المسار الذي انتهجته خلال الأعوام القليلة السابقة، المتمثّل في فتح قنوات مع كل من موسكو وواشنطن بشكل منفصل لتعزيز موقفها في سوريا. وكانت هذه السياسة قد بدأت منذ أواخر العام 2016 تعبيراً عن سخط أنقرة من دعم حليفتها واشنطن لوحدات حماية الشعب، ومن ثم قوات سوريا الديمقراطية التي تشكل الوحدات مكونها الرئيسي، في مواجهة تنظيم داعش. إلا أن الاستعصاء الذي تواجهه السياسات التركية اليوم جراء التناقض التام بين حليفيها، قد يضطرها أخيراً إلى اختيار حليف واحد فقط.
خلال المؤتمر الصحفي الذي جمع كل من مولود تشاويش أوغلو وزير الخارجية التركي وسيرغي لافروف وزير الخارجية الروسي، في مدينة أنطاليا التركية يوم الجمعة التاسع والعشرين من آذار الماضي، أكد تشاويش أوغلو أن تركيا ماضية في صفقة شراء منظومة الدفاع الجوي الروسية «S 400»، رغم تحذيرات واشنطن المتكررة من عواقب تسلم أنقرة لتلك المنظومة. وقد ترافقت هذه التحذيرات مع ضغوط سياسية من واشنطن، كان آخرها تقديم أعضاء من الحزبين الجمهوري والديمقراطي مشروع قانون إلى الكونغرس، يقضي بمنع أنقرة، في حال مضيها في صفقة الصواريخ الروسية، من تسلم طائرات F35 التي شاركت في تمويل مشروع تطويرها، أو من حيازة أي من براءات الاختراع التي نجمت عن تطوير تلك الطائرة الحربية التي تُعدُّ الأحدث في العالم.
وكان الرئيس التركي قد أكد خلال شهر آذار الماضي في لقاء مع قناة تلفزيونية، أن بلاده ماضية في إتمام الصفقة التي وقعتها مع موسكو لتسلم منظومة الدفاع الجوي، فيما قالت الناطقة باسم وزارة الدفاع التركية خلال مؤتمر صحفي عقد قبيل منتصف الشهر الماضي، إن موعد نشر هذه المنظومة سيكون في شهر تشرين الأول/أكتوبر المقبل.
وتطرح هذه الأزمة تساؤلات كبيرة حول مستقبل أنقرة في حلف شمال الأطلسي الذي تقوده واشنطن، خاصةً وأن الأخيرة أوضحت بشكل متكرر أنه من المتعذر دمج الصواريخ الروسية في منظومة الدفاع الجوي التابعة للحلف. كما أن الأمر يتجاوز بالتأكيد المسائل التقنية إلى ضرورات استراتيجية وسياسية لدى واشنطن، ستجعل موقفها من مثل هذا التطور حاسماً إذا ما أرادت الحفاظ على تماسك حلف الناتو، خاصةً في ظروف التوتر الكبير الناتج عن الأزمة الأوكرانية بين روسيا ودول أوروبا الغربية المنضوية في الحلف، والذي يجعل من الصعب التسامح مع علاقات عسكرية عالية المستوى بين أي دولة من دوله وروسيا.
وبالمقابل، فإن أنقرة وواشنطن تشتركان في ملف حيوي آخر بالنسبة للطرفين، وهو ملف المنطقة المعروفة باسم شرق الفرات في سوريا؛ وعلى عكس ملف منظومة الدفاع الجوي الروسية، فإن التوتر بين البلدين بخصوص مستقبل شرق الفرات راح يتراجع مؤخراً، خاصةً منذ إعلان البيت الأبيض في الثاني والعشرين من شهر شباط/فبراير الماضي ، نيته الإبقاء على جنود أميركيين في سوريا.
وفي هذا السياق، يتكرر الحديث عن اتصالات يجريها رئيس تيار الغد أحمد الجربا مع واشنطن وأنقرة، لتقديم ورقة عمل حول الأدوار التي يمكن أن تلعبها قوات النخبة التابعة له في شرق الفرات لحماية الحدود التركية. وتحظى هذه الاتصالات برضى مبدأي من أنقرة وواشنطن، وهو ما يشير إلى وجود حلول قد تكون مناسبة لتركيا، التي تريد إبعاد مقاتلي وحدات حماية الشعب عن حدودها الجنوبية، وأيضاً لواشنطن التي لا تريد السماح بالقضاء عسكرياً على حلفائها في سوريا بعد الانتهاء مع العمليات العسكرية ضد تنظيم داعش.
لكن انفراجة محتملة في هذا الملف، لا تعني أن واشنطن قد تغير من سياستها في ملفات أخرى، وعلى وجه الخصوص ملف منظومة الدفاع الجوي الروسية، التي قد يترتب على إلغائها نزولاً عند طلب الولايات المتحدة تدهورٌ في العلاقات بين موسكو وأنقرة، سينتهي على الأغلب ببدء عمليات عسكرية على محافظة إدلب، ما سيعني نهاية اتفاق سوتشي الذي وقعه كل من بوتين وأردوغان في شهر أيلول/سبتمبر من العام الماضي.
كما أن موسكو قد ترى في أي نجاح لاتفاق بين تركيا والولايات المتحدة بخصوص شرق الفرات، تهديداً لنفوذها في سوريا، سينتهي هو الآخر أيضاً على الأغلب ببدء عمليات في إدلب. ومن شأن تطورات كهذه أن تطيح بالعلاقات الروسية التركية، التي تم بناؤها من خلال مسار أستانا والاتفاقات الثنائية بخصوص الملف السوري، وبخصوص التعاون الاقتصادي بين البلدين.
إذن، تبدو التحديات التي تواجهها تركيا اليوم كما لو أنها تحديات نهائية بخصوص موقعها في المحاور الدولية، وسيترتب على أي قرار حولها انحياز أنقرة إلى أحد الجانبين، الروسي أو الأمريكي. أما الوصول إلى إجابة على التساؤل: إلى أي الجانبين ستميل أنقرة؟ فإنه قد يبدو ضمن الظروف الدولية الحالية سهلاً، فواشنطن ما زالت حتى اللحظة القوة العظمى في العالم من دون منازع حقيقي، والمراهنة على عالم متعدد الأقطاب، تلعب فيه الصين وقوى أوروبية وآسيوية دوراً سياسياً أكبر، استجابةً للمكانة الاقتصادية الهامة التي تشغلها هذه الدول اليوم، غير مرتبطة تماماً بالرهان على موسكو في الحقيقة، فموسكو ليست قوة عظمى اليوم، وليست مرشحةً لأن تكون كذلك غداً مثل الصين.
لكن رغم هذه المعطيات، فإنه ليس ممكناً تقديم توقع حاسم حول الخيار الذي ستتخذه أنقرة، لأن عالم السياسات الخارجية اليوم، الذي أصبح طائعاً للأشخاص ونزعاتهم السلطوية أكثر من أي وقت مضى، قد يحمل كثيراً من المفاجآت. وأياً يكن الخيار، فإنه سيكون مؤثراً حتماً على مستقبل الوضع في سوريا، كما أن نتائجه ستشمل خريطة التحالفات في المنطقة كلها.