تعدُّ دولة القانون الديمقراطية مشروعاً تنويرياً طوباوياً تمّ تصميمه في غرف الفلاسفة منذ قرابة ثلاثمائة عام. وقد ضَمَنَت الثورات التي اندلعت لاحقاً تبنّيهِ كنموذجٍ فكري سياسي من قِبَلِ دول أوروبا الغربية وأمريكا. ولم يكن هذا النموذج ليفضي إلى ذلك التاريخ الديناميكي لولا قدرته العقلانية على الإقناع، ولولا – قبل كل شيء – جذرية طموحاته التي يتأسس عليها: الحرية والمساواة والعدل والكرامة الإنسانية. وها هي طموحات دولة القانون تتحول اليوم إلى شعارات تُلهِم الحركات السياسية وتحثُ على الثورة والتمرد على القمع والمعاملة اللاإنسانية. بيد أن تلك الطموحات تنطوي في الوقت ذاته على طابع مفتوح ومتعدد المعاني يجعلها عرضةً لمختلفِ التأويلات الإيديولوجية وغير العقلانية وحتى الخيالية. ولقد علّمَنا التاريخ أن الطموحات ذاتها تَفْسَد أحياناً وينتجُ عنها أشكالٌ جديدة من القمع والإرهاب. في البلدان العربية التي تشهد حالياً انطلاقة ربيعٍ سياسيٍ، ما زلنا نلمح القوة الجامحة لمبدأ الحرية، ولكننا نجهل كيف سيتطور ضمن مسرح الصراعات السياسية الوعِرة.
لا تشكل الطموحات الجذرية لوحدها نقاط قوة وضعف دولة القانون، إذ ينسحب الشيء نفسه على التناقضات والتصورات والمفارقات التي تميّزها، نظرياً وعملياً، رغم ادعاءاتها العقلانية. بوسع هذه الأبعاد غير العقلانية أن تدعمَ دولة القانون أو أن تضعفها.
خذوا على سبيل المثال الحقوق الأساسية الكلاسيكية التي تحمي المواطنين من الدولة أو من «أشد الغيلان برودة» كما وصفها نيتشه يوماً. أليست الدولة هي المعنية بتوفير وصيانة الحماية من نفسها؟ أو انظروا إلى حرية الفرد، إحدى مبادئ دولة القانون الأساسية. ليس بإمكان الفرد أن يضمن هذه الحرية، بل يحتاج إلى دولة قوية تساعده على فرض حريته. وكيف تقيّمون مثلاً ظاهرة معاصرة كالشعبوية؟ ألا تعني الديمقراطية – شكل الحكم الذي تفرضه دولة القانون منطقياً – أن الشعب يمتلك السيادة السياسية بنفسه؟ وأنه هو الذي يقرر أيّ القوانين يتبناها؟ لمَ لا يحق لصوت الشعب أن يصدح عالياً إذن؟ يبدو أن سيادة الشعب لا تعني سيادة العامّة، فالديمقراطية التمثيلية تحاول منذ الأزل إقصاء الجزء الفقير من الشعب وغير القادر على المداولة العقلانية أو السيطرة على نفسه. كما كانت النخب السياسية في القرن التاسع عشر تؤمن بشكل عام أن الديمقراطية لا تعني أن يتمّ الحكم من قِبل الشعب، وإنما من أجله. وما زال نظام الديمقراطية التمثيلية يعتمد هذه الفكرة حتى الآن، بحيث غدت الشعبوية منتوجاً حتمياً له. وكلما أحسّ جزء من الشعب أنه غير ممثَّل وأن مصالحه مهملة لفترة طويلة، تمكنت حركة شعبوية من الظهور للمطالبة بالوعود الجذرية للحرية والمساواة التي تنطوي عليها دولة القانون الديمقراطية. وبالرغم من جوانبها العاطفية وغير العقلانية، تشكل الشعبوية في تلك الحالات تصحيحاً لديمقراطية تمثيلية فاشلة. وبهذا المعنى كانت كل الأحزاب الاشتراكية شعبوية في بداياتها.
كما عرف التاريخ، لسوء الحظ، حركات شعبوية كثيرة ذات طابع مختلف تماماً. تنادي بالمساواة في التمثيل، ولكنها في الوقت نفسه تداعب بأسلوب ديماغوجي مشاعرَ الخوف والحقد والغضب، أي ذلك الرصيد غير العقلاني الموجود أبداً في قعر أرواحنا جميعاً ومن السهل تفعيله في حال وجدنا البلاغة والتشبيهات المناسبة ووسائل الإعلام الشعبية المستعدة للتنفيس عن استراتيجية الخوف. إن الخوف والضغينة والعدوانية عبارة عن تقلبات مزاجية لا تعرف الحدّ ولا تنضبط بقياس معين من تلقاء نفسها. يكفي قليلٌ من الزيت على النار لإضرام العواطف الجياشة.
بيد أن هذا النوع من الشعبوية لا يهدد الديمقراطية بالضرورة. فالديمقراطية هي مساحة الصراع في آخر المطاف، المساحة التي يتمّ فيها الدفاع عن المصالح المتضاربة، وحيث تتصارع الكلمات عوضاً عن الأسلحة. ولكن حالما تنقلب الكلمات إلى أسلحة شعبوية لا تهدف سوى إلى إخراس الآخر والحط من إنسانيته، لا تتضعضع الديمقراطية فحسب، بل دولة القانون معها. إذ أن دولة القانون تتطلع أن تكون مساحة الوحدة والتعايش السلمي، حيث يتم تصريف المشاعر والمخاوف والتخيلات وكبحها من قبل القانون الذي يدعو إلى الاعتدال والتوازن والتناسب، وقبل كل شيء الثقة. وبهذا تكون وظيفة دولة القانون تزويد الديمقراطية بإطار قيَمي. فبعكس دولة القانون، بوسع الديمقراطية تحمُّلُ كمٍ كبيرٍ من العنف البلاغي. الرهان هنا على دولة قانون أعلى من أن يطالها ذلك العنف. فالهدف، بالدرجة الأولى والتاريخية، ليس أقل من درء المخاوف ولجم العدوانية. والتبادلية هي الآلية التي تستخدمها دولة القانون لحفظ السلام بين الغرباء.
التبادلية آلية بدائية
من منّا لا يعرف ذلك التوتر الذي يطغى عندما يتوقف القطار أو المصعد فجأة، فيضطر الموجودون الغرباء لاتخاذ موقف من بعضهم بعضاً لأن تجنب الآخرين لم يعد مطروحاً؟ غالباً ما تجري الأمور وفق الطقوس التالية: يكحّ أحدهم بخجل، ومن ثم ينظر في عيون الآخر ويقول شيئاً من قبيل: «ماذا حصل؟». وهنا يتنهد الجمع الصعداء وسوف يتواجد دائماً من يرد على السؤال، وتنبثق الأحاديث عن التجارب مع القطارات أو المصاعد العطلانة، وتطول في حال استمر الوقوف طويلاً. باختصار، سيكون هناك حدّ أدنى من التآخي بين الغرباء لمدة قصيرة من الزمن.
تصوروا أن أحداً لم يرد على السؤال الافتتاحي، ولا تمّ تبادل النظرات، ولم يأتِ الجواب، بل ساد الصمت الكلي في المصعد أو القاطرة. في تلك اللحظة سوف يتشكل جوّ عدائي بارد، ويشعر المبادر بالخذلان لعدم تجاوب الآخرين مع دعوته التي أرسلها عبر الكلمة والنظرات. لا توجد تبادلية، وحيث تنتفي التبادلية، تظهر العدوانية في أغلب الأحيان.
بيد أن الحالة الثانية أقل حدوثاً من الأولى بكثير. ولحسن الحظ يتجاوب معظم الناس مع اليد الممدودة والنظرة المستفسرة والدعوة إلى التواصل. قدرتنا على التبادلية مترسخة في بنيتنا العقلية التي يبدأ تطورها بعد الولادة مباشرة من خلال تفاعل الأم مع طفلها. عندما تتجاوب الأم بشكل يلائم إشارات الطفل، تترسخ ثقته بأن الإشارات التي يبثها إلى محيطه سوف يتم الرد عليها بحركة من اليد وبسمة وكلمة واهتمام.
وتُعتبر التبادلية المعيار والتطبيق ضمن الأجواء الأسرية على وجه الخصوص، ففي عملية دائرية مستمرة من الأخذ والعطاء وردّ الجميل – والنقل إلى الأجيال الجديدة – يساعد أفراد العائلة بعضهم بعضاً حسب الضرورة والحاجة والإمكانيات. كما تنسحب عملية التبادلية العاطفية نفسها على الصداقات طويلة الأمد، وعلى العلاقات بين الجيران والزملاء، حيث يتم تقديم الهدايا والخدمات والإنجازات بكامل الثقة بأن العطاء سيرتد يوماً إلى صاحبه. حتى أننا غالباً ما نجد التبادلية واجباً أخلاقياً. فمن منا لا يشعر بالذنب حين يقصّر تجاه فردٍ من أفراد العائلة أو صديقٍ أو جارٍ أو زميلٍ كان قد ساعدنا حين كنا بأمس الحاجة إلى ذلك؟ لذا بتنا نعرّف التبادلية على أنها نموذج للتوقعات أو معيار تمّ دمجه في النفسِ ليصبح مبدأً سارياً في جميع حالات التبادل. والمحفز على آلية التبادلية هي تلك اليد الممدودة أو الهدية التي تباشر دائرة الأخذ والعطاء وردّ الجميل، وتولّد الارتباط الاجتماعي والتكافل. تنطوي التبادلية على معنى التقابلية كرابطة مستدامة ومبنية على الثقة يتم فيها تسديد ديون غير معينة على المدى القريب أو البعيد. وأصل كلمة التقابلية reciprocity يعود إلى الجذر اللاتيني reciprocare الذي يدل على حركة الذهاب والإياب (للماء أو النَفَس) المتكررة.
التبادلية آلية اجتماعية عمرها من عمر البشرية. من دونها لا إمكانية للتصالح بين الغرباء، بل سوف تتربص العدوانية والخوف والمقاومة بنا على الدوام، ولن ينشأ مجتمع ينعمُ بنوعٍ من السلام. لذا بتنا نعرّف التبادلية اجتماعياً على أنها المبدأ البنيوي غير المُعلَن للنظام الاجتماعي. فإن رغب البشر بالنجاة، يتعين عليهم جميعاً كبح نزعتهم الغريزية إلى تأكيد الذات، والبحث عن أساليب تواصل سلمية فيما بينهم. لذلك فإن التبادلية ليست بنية عقلية واجتماعية فحسب، وإنما أسلوب وجود. وهكذا نفهم أن يصبح الإنسان العاقل homo sapiens بناءً على مصلحته الشخصية إنساناً معطاءً homo donator أيضاً.
تصِف أدبيات علم الإنسان كيفية توصل القبائل البدائية إلى السلام بعد سنوات طويلة من الصراع. تأتي اللحظة الحاسمة عندما «يرمي» أحد الطرفين رماحه كإيماءة سلام. هذه الإيماءة تعني: «سوف نلجم غريزة تأكيد الذات حيال الغرباء، ولن نهاجمكم بعد الآن، ولن نعاود خطف زوجاتكم وبناتكم أو تخريب حقولكم أو نهب مؤنكم». وعندما يردّ الطرف الثاني على عرض السلام برمي رماحه أيضاً، ويمتنع الطرفان لفترة طويلة عن التدخلات العدوانية في منطقة الآخر – أي عندما يحترمان حدود بعضهما بعضاً –، سوف تنشأ مع السلام ثقافة داخل القبيلتين. إذ أنه بفضل السلام المستدام، ستنبت الحقول، وتتكدس المؤن، وتزدهر التجارة حتى بين الذين كانوا غرباء، وتُبنى الأكواخ والبيوت، وتُصنع الأدوات التي ستُقدَّم بعضها كهدايا في عمليات السلام مع القبائل المعادية الأخرى.
كما أن لآلية التبادلية أثرٌ ذاتي التعزيز. بمجرد قبول دعوة الغريب إلى التواصل عبر الكلمات والنظرات، ونشوء التواصل بالمعنى الاجتماعي الحَرفي، سوف توضع اللبنة الأولى للثقة. يبدو أن الغريب لا يعاديني ولن يضيّق عليّ الخناق. وكلما طال التبادل السلمي، سوف ترتفع الثقة بالآخر. ليس فقط بسبب فترة التبادل، وإنما لأن التبادل يمحي الغرابة في الآخر. فكلما ارتفعت وتيرة الأخذ والعطاء وردّ الجميل، سوف نسترجع – حرفياً – صدانا في الآخر. وسوف تتشكل منظومة مشتركة من المعاني والمراجع والمعايير والتوقعات. باختصار، في آخر المطاف سوف تنشأ ثقافة مشتركة جراء التماهي المتبادل.
وتنطوي آلية التبادلية على قصورٍ جوهري. فرغم كونها بالدرجة الأولى الوسيلة التي تضمّ الناس اجتماعياً عبر التعرف على الآخر من خلال الثقافة المشتركة، غير أنها، وللسبب ذاته، وسيلة للنبذ الاجتماعي. فنحن لن نعترف بأولئك الذين لا يتكلمون لغتنا ولا يعرفون ثقافتنا أو لا يتقبلونها كأفراد «منّا». القومية، مثلاً، هي شكلٌ معروفٌ من أشكال هذه الظاهرة. فضلاً عن أن الخوف من الأجنبي، وبالتالي مخطط النزاع بين الـ«نحن» والـ«هم»، سيظل فعّالاً ضمنياً في الجماعات المتجانسة. وحين لا تكون الاختلافات عظيمة، سيؤدي التبادل المبدئي الحذِر إلى التعرّف المُطّرد على الآخر، وحتى إلى الاندماج والانصهار في نهاية الأمر. وهكذا تتحول القرابات العائلية بعد مضي زمن طويل إلى جماعات اجتماعية، والقرى إلى مدن، والمناطق إلى قوميات. وطبعاً لن يتم هذا التطور بشكل أوتوماتيكي، وإنما بفضل المؤسسات التي تشجع على التبادلية.
مؤسسة الأسرة هي المدرسة الأولى التي تُعلّم التبادلية. حيث يعزز الاهتمامُ والعنايةُ والوقتُ الذي يقدمه الوالدان للطفلِ التجاوبَ والتبادلية عنده، ويمنحه ثقةَ أنه مُعترَفٌ به. لذا يغدو إهمال الطفل وعدم التجاوب مع حاجته الحيوية للتبادل والتفاعل العاطفي من الأمور المؤلمة جداً. وفي حال كان الإهمال طويل الأمد، سينشأ الطفل ككائن خائف يقاوم محيطه، وغير قادر على الارتباط المنتج والتبادل مع الآخرين.
ويشكل الدين مؤسسة جامعة بامتياز. ليس فقط لأن الناس قادرون على الاعتراف بالمؤمنين الآخرين ضمن جماعة معينة، وإنما لأن الأديان، على الأقل التوحيدية منها، تفرض العطاء كواجبٍ أخلاقي. حتى أن المسيحية تدعو إلى محبة القريب كمحبة النفس. بمعنى آخر: هناك فريضة أخلاقية تدعو المرء للتماهي الشديد مع الآخر الغريب والتكافل معه. كما أن الفكرة التوراتية القائلة بأن العالم هبة من عند الله للبشر، تفرضُ على المؤمنين – كخلفاء جيدين – أن يحافظوا على العالم ويسلموه للأجيال القادمة.
كما أن السوق مؤسسة تجمع الغرباء منذ الأزل. طبعاً هذا لا يتم على أساس علاقات الثقة طويلة الأمد التي تبني على التبادلية، وإنما من خلال البديل الأضعف للتبادلية: التقابض، أي التبادل الذي يتم في اللحظة ذاتها ويعطي الحق للطرفين بالمصادرة مباشرة. يرغب التجار بتوزيع بضاعتهم، فيسعون للتواصل مع الآخرين، وفي حال أرادوا توسيع سوقهم، سيتعين عليهم التعمق بلغة الغرباء وثقافتهم لكسب الثقة اللازمة للتجارة. وقد تتحول العلاقات التقابضية الرسمية إلى صلات تقابلية ضمن الجماعات الصغيرة حيث يتسنى التواصل وجهاً لوجه، مما يفضي إلى ولاء الزبائن لمموّنهم وبالعكس. ولكن عندما تتوسع التجارة والسوق، وتنعدم العلاقة بين المنتج والمستهلك، سيتراجع الأثر الدمجي لآلية التبادلية باطراد.
ومن البدَهي أن تكون مؤسسات التعليم والعمل والجمعيات نقاطَ تلاقٍ مهمة للتبادلية الاجتماعية. تزدهر هذه المؤسسات عندما لا تكون العلائق الذرائعية والربحية هي المسيطرة، بل الولاءات التي تحفز على الإنجازات غير المعينة أو الموصوفة بعقود. ويتحسّن عمل الشركات والمؤسسات مثلاً عندما يتحمل الموظفون المسؤوليةَ ويقومون بما يبدو لهم أنه واجبهم، حتى ولو كانوا غير ملزَمين بعقد. أخلاقيات العمل مبنية دوماً على تقدير المرء لواجبه تبعاً لضميره، وهذا يشمل أيضاً إنجازاتٍ غير مسجّلة في العقد.
كما أن المجالَ العام مؤسسةٌ تجمع بين الناس أيضاً، ويشمل بضائعَ من قبيل التراث الثقافي والعلم والفن. قد يُنظر إلى التراث الثقافي على أنه إرثٌ يُلزِم الورَثة بالحفاظ عليه وتسليمه للأجيال القادمة، من هذه الناحية هو عنصر لا غنى عنه في نظام التبادلية المستدام والتكافل بين الأجيال.
غير أن القانون واحدٌ من أهم المؤسسات الداعمة للتبادلية، والتي تعمل دوماً على فرض قواعد مشتركة تربط بين الغرباء والأعداء.
القانون والتبادلية
المهمة الأساسية للقانون هي تنظيم العلاقات الاجتماعية بهدف تجنب الخلافات أو حلّها. يقوم القانون بذلك من خلال الفصل بين الأطراف المتنازعة، ورسم الحدود بينهم، وفرضها عليهم بعد ذلك. أقدم مثال عن قانون الفصل والفرض يأتينا من مصر القديمة. فكلما فاض نهر النيل عن ضفافه ومحا التخوم بين المناطق الأصلية، قام المسّاحون برسمها من جديد. كانوا يحددون المقاسات أولاً، ومن ثم يعيدون تقسيم رقعات الأرض، ويلزِمون المزارعين بحدود الملكية الجديدة. وقتئذ كانت كلمة «قياس» المصرية تعني أيضاً الحقيقة والقانون والأخلاق والجزء. كما تشير إلى النظام الذي ينشأ على حساب الفوضى، وإلى العدل الذي يعمّ جراء ذلك. وأقدم معنى للكلمة اليونانية nomos هو القانون، أي الحدّ والنظام. وأقدم معنى للقانون هو السلام.
ينطوي الوعدُ بالانضباط بالحدود الجديدة على الحد الأدنى من التبادلية بين الأطراف، ويشكل أساس الثقة طالما لم ينكثه أحدٌ. وستصبح هذه القاعدة الجذرية المبنية على عدم التعدّي قاعدةً قانونيةً، حالما تتشكل جهة ثالثة قادرة على فرض قانون السلام. وبناءً على الحد الأدنى من الامتناع المتبادل عن العدوان، سوف يغدو التبادل الاجتماعي والاقتصادي ممكناً، وتتشكل بالتالي الثقافة. وقد تسدّ العاداتُ الحاجةَ في الثقافات الصغيرة المتجانسة، أما في الثقافة النامية ديناميكياً، والتي يجهل الناس فيها بعضهم بعضاً، وتكون المسافة فيما بينهم أكبر، والتصرفات أكثر تعقيداً، تصبح القواعد القانونية هي المسيطرة. إذ أن وظيفة تلك القوانين الأنثربولوجية هي منح الدعم والتوجيه لفوضى سلوكيات الإنسان عبر تحديد مكانته الرسمية والمرسومة الحدود. هذه المكانة المعيارية تساعد الناس على تشكيل علاقات واضحة فيما بينهم، وتجنب النزاعات أو حلّها، أي تشغيل محرّك التبادلية. ولهذا السبب يحصل أحياناً أن نطلق على القانون تسمية «التكنولوجيا الاجتماعية».
وللقانون، كتكنولوجيا اجتماعية، تاريخٌ مدهش من التجديد المستمر. فكثير من المصطلحات والأشكال القانونية المستخدمة في قضاء القارة الأوروبية تنحدر من المنظومة التي تشكلت على يدِ فقهاء القانون في روما القديمة. فقد نظّم وقيّم هؤلاء الفقهاء أشكال العلاقات العائلية والاجتماعية والاقتصادية الكثيرة التي تشكلت بطريقة غير شفافة في المجتمع الديناميكي. وهكذا أعادوا الترتيب لفوضى النشاطات عبر الإشارة إلى المكانة الرسمية للشخص، كأن يكون مالكاً أو مقتنياً، بائعاً أو مشترياً، مانحاً أو مستهلكاً، وصياً أو موصى عليه، مورّثاً أو وريثاً وإلى آخره. ويُعتبر «العقد» أهم شكل قانوني، ومبدأ التنظيم الاقتصادي بامتياز. حيث يباعد العقد بين الأطراف المعنية – بغرض تجنب السطو على بضائع بعضهم بعضاً – ولكنه في الوقت ذاته يقارب بينهم من خلال عهود يفرضونها على أنفسهم. ويُسجَّل واجب الوفاء بالعهد في البند الرئيسي من قانون العقود: pacta sunt servanda، أي ينبغي تنفيذ الاتفاقات. ويتجاوب هذا البند الأساسي الذي صاغه الفقهاء الرومانيون مع البنية العقلية والاجتماعية للتبادلية، كما أنه يصادق على العهد الذي يقطعه الناس على أنفسهم – بشكل تلقائي تقريباً – في حالات التبادل. ويحتاج الأمر طبعاً إلى توافق بين إرادة الأطراف كي يكون العقد سارياً، فضلاً عن وجوب تنفيذه بحسن نية.
ولتجنب فرض هذه المصطلحات القانونية بشكل عقائدي على الواقع الاجتماعي، تمّ تطوير قاعدة الـ ars boni et aequi، أي على القاضي أن يحكم حسب الظروف بالعقل والإنصاف والعدل. هذا يعني أن القانون الروماني كان عقائدياً وضد عقائدي في الوقت نفسه، وقد استمد قدرته التجديدية من هذا الطابع المزدوج.
في القرن السادس وبأمر من القيصر جُستينيان الأول، تمّ جمع المبادئ والمفاهيم والقواعد التي صاغها الفقهاء الرومانيين ووضعها في مدونة القوانين المدنية. وفي القرن الثاني عشر أُعيد اكتشاف تلك المدونة وتعديلها من قبل فقهاء درسوا القانون (الكنسي) المعتمَد في جامعة بولونيا الإيطالية. وفي القرن الثامن عشر صارت الأشكال القانونية المستوحاة من القانون الروماني الخاص، كالملكية والعقد والتعهد ومعايير الإجماع وحسن النية والإصغاء إلى جميع الأطراف، صالحةً كذخيرة في ترسانة الثورات السياسية التي تسعى لفرض علاقة جديدة بين الدولة والمواطنين في أوروبا وأمريكا. كما كُتِب عمرٌ طويل للمبادئ الأخلاقية الثلاثة التي صاغها الفقهاء الرومانيون، فرغم مرور القرون بقيت قواعد العدل تشير قانونياً إلى التزام الشرف في المعاملات، وتجنب إلحاق الضرر بالآخرين، وإيفاء كل ذي حق حقه.
هذا يعني أن القانون الروماني والقانون المعتمَد في الكنيسة تركا أثاراً عميقة في ثقافتنا وقناعاتنا. وما كانا ليتمتعا بذلك النفوذ لو أنهما بقيا عالقَين في مستوى تخيل الواقع وسنّ المعايير. إذ توسع نفوذهما لأنهما كانا مرئيَين ومحسوسَين في المنظمات والمباني والإجراءات والطقوس، وفي مظهر المِهنيين واستقلاليتهم النسبية. وقد تحدّر الفقهاء الرومانيون من طبقة القساوسة، وشكلوا طبقة خاصة في جميع العصور: لديهم لغتهم الخاصة غير المفهومة من قبل الآخرين، ويدرّسون أجيال الفقهاء الجديدة بأنفسهم، ويمسكون بزمام عقائدية القانون، ويحددون المعايير المهنية بأنفسهم. وبفضل هذه الاستقلالية النسبية والقدرة على التجديد، صار القانون مؤسسة مركزية في المجتمعات الحديثة هدفها التوسّط المستمر بين الأطراف الغريبة أو المعادية بغية التوصل إلى علاقات تبادلية وسلمية في آخر المطاف.
وطبعاً هذا يختلف عن سؤالنا فيما إذا كان القانون، كتكنولوجيا اجتماعية، قادراً على خلق نظامٍ اجتماعي عادل. فالتصورات التي جعلت من القانون واقعاً مفروضاً على مرّ العصور، لم تتطور في غرف الفقهاء فحسب، وإنما في ساحة الصراع الاجتماعي غير المتوازي. ولن يرتبط القانون بالعدل إلا في حال كان القانون – كجذرٍ لدولة القانون – في خدمة العدل الاجتماعي. إن هذا الربط بين السلطة والقانون من جهة، ومبادئ العدل من جهة ثانية، يشكل جوهرَ العقد الاجتماعي الذي صمّمه الفلاسفة كنموذجٍ فكري في القرنين السابع عشر والثامن عشر.
لقد أراد الفلاسفة إبطال الشرعية الميتافيزيقية للمَلَكية المطلقة. لأنه لا يمكن تحديد من يحق له تسلّم زمام السلطة وشروط تعيينه انطلاقاً من الوحي الإلهي، وإنما بناءً على وحي العقل وحده. ورغم ادعاءات مبادئ العدل العقلانية، إلا أن مفاهيم غير عقلانية كانت تتكرر في النموذج الفكري للعقد الاجتماعي وفي فكرة دولة القانون الديمقراطية. بل أدهى من ذلك، فقد رُفِعت السلطة إلى مستوى حصين ونالت بعداً متعالياً. وبما أن فكرة الارتباط الرمزي تغلغلت في الثقافة الأوروبية وغدت جوهر دولة القانون الحديثة، سوف أتوسع في أصل الشرعية الرمزية في الفصل التالي.
الشرعية الرمزية للسلطة
مَن يملك صلاحية التدخل في حياة البشر؟ ومَن يحق له الشروع بالقتال وتعريض الشعب لفظاعات الحرب؟ ومَن يحق له اتخاذ القرار بشأن الحياة والموت؟ ومَن يحق له إعادة تقسيم الثروات؟ أو تسليم سيادة الأمة؟ أو فرض القوانين والمعايير بشكل قطعي؟ منذ أقدم العصور ونحن ندرك أنه لا يمكن أبداً إضفاء شرعية على أي سلطة تشمل مصيرَ جماعة أو شعب ومستقبلهم، إلا إذا كانت بيدِ أشخاصٍ مميَّزين أو مختارين أو منتخَبين. في المجتمعات البدائية تُوكل هذه المهمة إلى الشخص الأكبر سناً والمُفترض أنه على صلة خاصة مع الأجداد. بيد أن شرعية السلطة تتضاعف بما لا يقاس لو أن الحاكم تمّ اصطفاؤه من قبل نظام رباني أعلى. لذلك نرى أن السلطة في القرون الوسطى كانت في خدمة الإرادة والعدالة الربانية. لا حكم البشر، ولا حكم القانون، وإنما حكم قانون القوانين هو الذي يمنح السلطة شرعيتها. وهكذا صار الحاكم الدنيوي يتصرف باسم الله، لا بل غدا خليفته على الأرض ونُسِبت إليه صفاتٌ خارقة. كما نُسِبت إليه قوةٌ تُبرئ من المرض، وحكمةٌ استثنائية تسمح بسنّ القوانين، وحسٌّ عادل يؤهله أن يتبوأ منصب قاضي القضاة، وشجاعةٌ خارقة تجعله رجلاً استراتيجياً عظيماً. الملكُ هو مصدر القانون، والقاضي، وقائدُ الجيش في آن معاً. هذا يعني أنه مُنِح سلطة مطلقة تتمتع بشرعية مقدسة.
هذا فضلاً عن أن فكرة السلطة باسم نظام روحي وسمائي توحي بالاستدامة، وتستجيب لرغبة أفراد الشعب بتحسين أوضاعهم في المستقبل والنجاة سوية. وقد تمّ التوصل للاستدامة البالغة الأهمية عبر مأسسة السلطة، فصار شخص الحاكم مجرد خادمٍ فانٍ ومؤقتٍ لها. وكما قال المؤرخ كانتوروفيش، فإن الملك يملك جسدان: واحد بيولوجي وفانٍ، والآخر صوفي وخالد. كما تؤكد واقعة توريث المنصب على استمرارية السلطة: مات الملك، عاش الملك!
أما العهد المبرم بين الملك والشعب أثناء حفل التنصيب، فهو بغاية الأهمية لرمزية السلطة. ففي تلك المناسبة يُقسمُ الملك أنه لن يكون سوى خادم للشعب، ولن يتصرف كطاغية، وسيحكم لمصلحة شعبه فقط. ينطوي هذا القسَم على مبدأ الشرعية الذي صار يقيّد سلطة الدولة المدنية اعتباراً من القرن الثامن عشر. كما يعِد الشعبُ من طرفه أن يكون مخلصاً ومطيعاً للملك. هذا يعني أن العلاقة بين الملك والشعب مبنية على التبادلية، أي على الحماية مقابل الطاعة. فإن أساء الملك استخدام سلطته في النظام الإقطاعي، أو انتهك ثقة شعبه، أو رفض خدمة المصلحة العامة، يحق للشعب أن يثور.
الحكمة العملية التي تعلمناها من الأنثربولوجيا السياسية هي أن السلطة لا تكون شرعية إلا في حال جرى الفصل بين السلطة والناس، وبين السلطة والحكام. ينبغي على السلطة أن تكون «مكاناً خاوياً» لا يمكن هتك حصنه من قبل الطغاة، أو التأثير به عبر الغرائز البشرية واحتياجات القوة. السلطة ليست ملكَ أحد، ولن تغدو شرعية أو تتحول إلى نفوذ، إلا حين تُسحب من أيادي البشر، ويتمّ نقلها إلى مؤسسة عليا فوق بشرية وفوق طبيعية، أي حين تصبح رمزية فقط. وقد تمّ تعديل هذه الفكرة بأساليب مختلفة على مرّ القرون، ولكنها بقيت وظيفية، ولم يتغير جوهرها كتصورٍ واقٍ وشافٍ. ويظهر هذا التصور التاريخي في دولة القانون، حيث يتخذ مكانة مركزية فيها.
النموذج الفكري للعقد الاجتماعي
في عام 1788 انهار النظام الملكي الفرنسي القديم (Ancien Regime)، وفقد الملك شرعيته وطاعة الناس له، لأنه نكث عهده على جميع الأصعدة. لم يعد ثمة حدود للفقر والبؤس الاجتماعي، وتفاقمت الأزمة الاقتصادية جراء الحروب الكثيرة، وبلغت الضرائب حدوداً قصوى، وازدهرت الرشوة والمحسوبية. حتى أن طبقة الكهنوت والنبلاء التي تتمتع بامتيازات منذ الأزل، انقلبت على الملك مع البرجوازية الصاعدة والحِرفيين والفلاحين. جاءت الثورة الفرنسية في عام 1789 لتملأ ذلك الفراغ السياسي، وتشكل نقطة تحولٍ في التاريخ الأوروبي وبداية ما يسمى بالحداثة السياسية.
وما كان تأثير الثورة الفرنسية على العلاقات السياسية في أوروبا ليبلغ هذه الأهمية، لولا تواجد مسبق لمخططاتٍ لأشكالٍ حكوميةٍ ثوريةٍ جديدة، ولولا انتشارها في كافة أرجاء أوروبا بفضل جيوش نابوليون. في المرحلة الأولى كانت تلك المخططات بمثابة ردة فعل على الحروب الدينية التي مزقت أوروبا في القرنين السادس عشر والسابع عشر، وجعلت من الأخوة في الدين أعداءً لدودين يقتلون بعضهم بعضاً في حروب شعبية دموية. أما في القرن الثامن عشر، فقد تمّ صقل هذه المخططات وتزويدها بالتفاصيل كجوابٍ على القمع وبطش الأمراء المستبدين. حيث كانت المهمة التي وضعها الفلاسفة نصب أعينهم – وأهمهم هوبز (القرن السابع عشر) ولوكه وروسو – هي إيجاد حلٍ للتساؤلات التالية: تحت أي شروط يقبل الناس أن يتعايشوا مع بعضهم، فيودّعون خوفهم المتبادل ولا يتقاتلون حتى الموت؟ وتحت أي شروط يحُلّ الرخاء الاجتماعي وتغدو السعادة ممكنة؟ وما هي قواعد التعايش التي يمكننا صياغتها في مجتمعٍ محطم لا يقبل أن يكون الربّ أو البابا أو الأمير المصدر الحصري للسلطة والقانون والأخلاق؟ وتبعاً للإيمان الراسخ بالعقل الذي ميّز حقبة التنوير (1650-1800)، جرى البحث عن الأجوبة في نموذج سياسي سوف يُقنع جميع المواطنين لو أنهم سَعَوا في طريق العقل، بدلاً من الدين والتقاليد والجهل والظلامية. فجميع الناس يشتركون في أنهم يمتلكون العقل والحسّ السليم، وسيتوصلون عبر التشاور العقلاني إلى توافق يخدم مصالح كل فرد منهم. بمعنى آخر: عقد اجتماعي يشكل أساس النظام الاجتماعي والسياسي الجديد.
وقد تم اختيار نقطة صفر افتراضية: دعونا نقول أنه لا توجد أي قواعد للتعايش! في هذه الحالة سوف يُطلق البشر العنان لغرائزهم الطبيعية وجشعهم وعدوانيتهم، وانطلاقاً من تلك الحرية الطبيعية سيكونون متساوين فيما بينهم. بيد أن هذه الحرية والمساواة الطبيعيتين ستحدّان من ثقتهم باستمرارية وجودهم. فطالما ليس ثمة قواعد تضبط البشر، ستبقى أجسادهم وبضائعهم مهددة بشكل دائم، وتندلع حرب الجميع ضد الجميع. أليس من العقلانية إذن أن يجري التوصّل إلى الحد الأدنى من السلام من أجل البقاء؟ ومن أجل رمي السلاح ورسم الحدود بين الأطراف المتعادية؟ بعد موازنة مصالحهم الشخصية، سيكون العقلانيون مستعدين لذلك، ولكن فقط في حال تمّ احترام الحدود الجديدة من قبل كلا الطرفين، وقُدِّمت وعود بعدم التعدي. ولكن بما أن الطرفين ما زالا غرباء بالنسبة لبعضهما، ولا يثقان بالآخر، سيطلبان من جهة ثالثة أن تأتي لترعى عدم التعدي وتضمن الحرية الحقيقية. الدولة هي هذه الجهة الثالثة في النموذج الفكري، حيث يتمّ منحها الحرية الطبيعية والمدمرة مقابل ضمان الحرية السلمية.
كيف تضمن الأطراف المتنازعة التزام الدولة بمهمة حفظ الأمن؟ سيتفقون فيما بينهم أن يطيعوا الدولة فقط في حال قامت الدولة بمهامها، وضَمَنَت السلام والحرية للجميع بالمساواة. وكما كان الملك في النظام القديم ملزماً بالقانون والعهد، هكذا تلتزم الدولة بالاتفاقات المبرمة بين الدولة والمواطنين. وحالما تفشل الدولة ويثبت سوء نيتها، يحق التمرد ضدها. حق التمرد ضد السلطة الفاقدة للثقة هو أول حقوق المواطنين الأحرار.
في هذه المرحلة التفاوضية الأولى يدخل مبدأُ التبادلية الذي يباعد بين الأطراف، ويربطهم في الوقت ذاته عبر قاعدة مشتركة تكون قيد التنفيذ. بدايةً عبر العلاقة الأفقية بين المواطنين، وبعدئذ عبر العلاقة العامودية بين المواطنين والدولة. العقد الاجتماعي هو اتفاقية ترابط وخضوع إذن. ومن أجل حفظ السلام تتفق الأطراف المتنازعة على الخضوع لجهة ثالثة كانوا قد عينوها مسبقاً. تلك الوظيفة المزدوجة للعقد الاجتماعي تجعله أشبه برأس جانوس: سيد وعبد في آن معاً.
أولى مبادئ العدل التي يصوغها المتنازعون بشكل عقلاني هي مبادئ الحرية والمساواة والتبادلية و– في علاقتهم مع الدولة – الشرعية: أي التزام الدولة بالاتفاقات التي سنّها المواطنون. كما تكتسب مفاهيم القانون الخاص الروماني، مثل العقد والإجماع وحسن النية وقاعدة «العقد شريعة المتعاقدين»، بعداً ثورياً حين تطبق على العلاقة بين المواطنين أنفسهم وبين المواطنين والدولة. وهكذا يتأسس مجتمع عقلاني تجري معاملاته عبر القانون، وبفضل هذا المجتمع القانوني يتمكن الغرباء من الاعتراف ببعضهم كموضوعاتٍ قانونية والتوصل إلى السلام.
أما في مرحلة التفاوض الثانية، فثمة تساؤلات أخرى تطرحُ نفسها: كيف يتمّ تنظيم المجتمع المنشود في حال ثابرت جميع الأطراف على اتباع منطق العقد الاجتماعي الذي يساعد على نشوء دولة مقيّدة بسلاسل القانون؟ وما هي المؤسسات التي يتطلبها ذلك؟
مؤسسات دولة القانون
الحقوق الأساسية هي أهم مؤسسات دولة القانون. فمن أجل ضمان مجتمع عادل يُزوَّد جميعُ المواطنين بالحقوق ذاتها غير القابلة للمصادرة، كي لا يضطر أحدٌ للعيش في العبودية بعد الآن، ويستطيع كل فردٍ أن ينظر بفخرٍ ونديّة في عين الآخر، ويطوّر نفسه تبعاً لإمكاناته ومواهبه. عندها فقط يصبح بمقدور الإنسان أن يحيا بكرامة وأخوّة. وتوضع هذه الحقوق غير القابلة للمصادرة في دستورٍ يكون عقدَ تأسيس مجتمعٍ جديد يضمّ أشخاصاً قانونيين، ويسبق أي قانون ملموس أو قاعدة أخرى، ويتهرب من أوهام السياسة وتعسفها.
الحقوق السياسية، أو ما يسمى بحقوق الحرية الكلاسيكية، هي أولى الحقوق الأساسية التي تتمّ صياغتها. وتتطلع هذه الحقوق المدنية إلى حفظ المسافة مع الدولة، وتشمل حرية الإيمان والضمير، وحق الاجتماع وتشكيل الجمعيات، وحرية التعبير والنشر، وحق الملكية والتعاقد. ومن القوانين الدفاعية المهمة ألا يُحاكم أحدٌ إلا بناءً على جرائم موصوفة قانونياً، وأن يُعتبر المشتبه به بريئاً ريثما تثبت التهمة، ويستحق إلى ذلك الحين معاملةً لائقة. كما يحق لجميع المواطنين بالتساوي أن يتسلموا مناصبَ عمومية، كي يوضع حدٌ لما كان منتشراً زمنَ الإقطاعية من محسوبية وزبائنية. وبما أن المواطنين هم الذين يقررون شكل مستقبلهم والقوانين التي ينوون فرضها على أنفسهم، بوسعنا ضمّ حق الانتخاب إلى الحقوق الأساسية الكلاسيكية.
ويبدأ بناء بقية مؤسسات دولة القانون انطلاقاً من حقوق المواطن الأساسية والسياسية هذه. فتُستعاد أقدم وظيفة للقانون، أي رسم حدودٍ رمزية تكفل النظام. والأهم هنا هو ذلك الفصل الموروث عن القانون الروماني بين القانون العام والخاص. فضلاً عن تقسيم هذين القانونين إلى ميادين مختلفة، فيتضمن القانونُ الخاصُ المجالَ الشخصي والعائلي ومجال السوق. أما القانون العام فيشمل المناظرات العامة وما سُمِّي لاحقاً بالمجتمع المدني، ومجال السياسة والدولة. زد على ذلك فصل الدولة عن الدين من حيث المبدأ، وتقسيم الدولة بعد ذلك إلى ثلاث سلطاتٍ تسعى إلى حفظ التوازن فيما بينها: التشريعية والتنفيذية والقضائية. وتشير فكرة فصل السلطات المستوحاة من مونتسكيو، إلى أنه ليس ثمة سلطة واحدة في يدها الكلمة الأخيرة. حتى السلطة القضائية لا تحظى بالكلمة الأخيرة. ففي حال استاء المشرّع من حكم القاضي، بوسعه تعديل القانون عبر مناظرة ديمقراطية.
كما عادت الفكرة البدائية حول جسدَي السلطان المنفصليَن إلى التداول. الموظفون السياسيون ليسوا سوى خَدَمَة مؤقتين وغير شخصيين للسلطة. ينبغي عليهم أن يُخلِصوا – كالسلطان – للدستور، ويؤدوا وظيفتهم بحسن نية كي يثق المواطنون بمؤسسات الدولة. الإخلاص وحسن النية والثقة! هذا يعني أن المجتمع الجديد ائتمانيٌ بامتياز، ويحاول التخلص من سوء استخدام السلطة الذي يميّز الأنظمة الإقطاعية والاستبدادية.
حتى المواطن لديه منصبٌ، ومنقسمٌ رمزياً إلى إنسانٍ ومواطن. هو حرّ في الميدان الخاص وبوسعه قول ما يشاء، أما في الميدان العام والسياسي فلا يحق له أن يقول شيئاً إلا بعد تفكير. بمعنى آخر: على المواطن أن يحسب حساب المجتمع المديون له بحريته، وهو مطالب بالالتزام بالدستور، مثله مثل الدولة.
هذا الترتيب الأساسي لمؤسسات دولة القانون عبر وضع الحدود الرمزية، يتجاوب مع التبادلية كآلية بدائية. وقد رأينا أن هذه الآلية تولّد الثقة الاجتماعية في حال حَرَسَ الأعداءُ السابقون أو المحتَملون الحدودَ فيما بينهم. وبالتالي يصير المجتمعُ ائتمانياً، مما يشجع المواطنين على التفاعل الاجتماعي والتعاون. الحدود الرمزية تأتي قبل السلام بين الغرباء إذن.
ويشكل العقد الاجتماعي ومؤسسات دولة القانون المشتقة عنه – عقلانياً – المجتمعَ العادل المأمول. حيث يتطلع الدستورُ أن يكون النظامَ المعياري الذي تلتزم به الدولة والمواطنون. يبدو الأمر إذن كما لو أننا نضع الدستور خارج السلطة في مكان حصين، وهذه الحصانة بالذات هي ما تمنحه سلطته وسيادته. أي أن السلطة تحافظ على بعدٍ متعالٍ ضمن النموذج الفكري الثوري للعقد الاجتماعي أيضاً. وبفضل ذلك البعد المتعالي تُبعَث الحياة في فكرة العدل كمعيار نقدي. كما تمنح دولةُ القانون، بفضل الدستور، الإطارَ الرَقابي والمعياري الذي من خلاله يتطور المجتمع ويحقق الرخاء والسعادة. لذا نراها توجه اهتمامها بإصرار وثبات نحو الأجيال القادمة. السيادة ليست بيد الشعب إذن، وإنما بيد الدستور الذي يصهر الشعب ويحوله إلى مجتمع مستديم ومسالم، بحيث يولَد كل جيلٍ جديد في سلام.
وبينما تتوجه دولة القانون نحو الوحدة ومصالح المجتمع على المدى البعيد، تنشغل الديمقراطية – كشكل ينبثق منطقياً عن دولة القانون – بالصراعات الآنية ومصالح المدى القريب. ففي دولة القانون الديمقراطية لا تتحقق الوحدة عبر إنكار الصراعات الاجتماعية، بل على العكس: دولة القانون تقدم من حيث المبدأ الحَلَبة التي تُحسَم فيها الصراعات، ولكن بالكلمات فقط، عوضاً عن السلاح. أدوات الديمقراطية هي اللغة والبلاغة والحجج والتواصل والمعلومات. وتُحَلُّ الصراعات عبر إقناع الآخر بصحة وجهة نظر ما، ليس فقط في المناظرات السياسية التي يجريها ممثلو الشعب في البرلمان، بل من خلال النقاش العام بين المواطنين أيضاً. وينبغي أن تظهر مصالح جميع الأطراف وحججهم، مهما كانت متضاربة، في جدال لا ينتهي عبر الكلام ونفيه، والصورة وضدها، والإصغاء إلى جميع الأطراف. أما واجب [البحث عن] الحقيقة الذي أخذ يلعب دوراً في الحضارة الأوروبية منذ عهد اليونانيين، أضحى في دولة القانون الديمقراطية واجباً سياسياً يتطلب الإخلاص والامتثال له.
كما يجب وضع القرارات المتخَذة بشكل ديمقراطي على محكّ دولة القانون، إذ لِمَ يتعين على الأقليات القبول بقرارات الأغلبية إن لم يجرِ مراعاة مصالحها في دولة القانون؟
ويظهر التفاعل والترابط بين الديمقراطية ودولة القانون من خلال حرصِ هذه الأخيرة على شروط جودة المناقشات العامة والسياسية. فبفضل القوانين الأساسية التي تُعنى بالتعليم والعلم والثقافة والإعلام الحر– وترتبط كقوى مضادة بالسياسة –، بوسع المواطنين أن يتجاوزوا عدم قدرتهم على التعبير، ويتشجعوا على صياغة الحجج، وتقييم صحة المعلومات، وفضح التلاعب والدعاية، وخلق تصور جديد للواقع كي لا يذوي الأمل بعالم مختلف وأفضل. فالتعليم السيء، والصحافة الذليلة، والعلم المزوّر، والثقافة المتوسطة من الأمور المؤذية جداً، لأنها تعرقل عملية تحرر المواطنين، وتُخمِدُ شوقهم وقدرتهم على التخيل، وتُضعِف بذلك مشروع دولة القانون. وهذا لأنه يَسْهُل خداعَ المواطنين الحاصلين على تعليم عقيم، أو أولئك الذين تنقصهم المعلومة أو لا تصلهم على الإطلاق.
وبينما تتحمل الديمقراطية بعض العنف البلاغي للحفاظ على مساحة النقاش وعنفوانه، لا تقدر دولة القانون على ذلك. إذ أن إضعاف مؤسسات دولة القانون وتفريغها يفضي إلى خسارة نوعية للديمقراطية والمجتمع. على سبيل المثال، عندما تهاجم الشعبويةُ السلطةَ القضائية وتنادي بسحب استقلاليتها، فهي تتطلع إلى إحداث خللٍ جسيم في نظام دولة القانون ومبادئها. إن مصلحة المواطن بوجود سلطةٍ قضائيةٍ مستقلةٍ وصلت إلى درجة استحقت معها تثبيت استقلالية السلطة القضائية في الدستور كمبدأ مقدس، أي مَصون. هذه المسطرة العالية لها أثرها على أخلاقيات القضاة المهنية، وتصوّرهم حول أنفسهم. وبما أنهم لا يُنتَخبون، بل يجري تعيينهم، فإن شرعيتهم تكمن في عدم تحزبهم.
طبعاً بوسعنا إلغاء دولة القانون عبر الديمقراطية، وقد حصل هذا مثلاً عام 1933 في ألمانيا. بيد أن الشعب يلغي بقرار كهذا حماية نفسه من التعسف والقوة العمياء، والطغاة والمستبدين، وسوف لن يجري توجيه ومَعيرة سوء النية والهلوسة وأوهام القدرة الكلية، لأن مكان السلطة الخاوي لم يعد حصيناً، بل تمّ احتلاله.
تاريخ دولة القانون التطبيقي
كيف يمكننا فهم المعنى التاريخي للنموذج الفكري للعقد الاجتماعي ودولة القانون المشتقة عنه؟ من الجَليّ أنه كان في بعض جوانبه نموذجَ سلطةٍ نقديٍ فعلاً. بحيث صار تحرر اليهود والعبيد والأقليات الدينية والعمال والنساء والمثليين ممكناً بفضل استنادهم إلى مبادئ دولة القانون. ومن الجَليّ أيضاً أن مبادئ دولة القانون باتت تشكل القيم الأساسية للمجتمعات الغربية الحديثة، حيث تمّ التأكيد عليها مراراً وتكراراً في الدساتير العديدة والمعاهدات الدولية التي رأت النور منذ القرن الثامن عشر. وقد ألهمت طموحات دولة القانون الديمقراطية ثورات شعوبٍ من خارج أوروبا والولايات المتحدة. ولكن يبدو أن الديمقراطية لا تضمن السلام والسعادة الاجتماعية في الثقافات التي لم تتجذر فيها فكرةُ التزام السلطة بأعلى مستويات العدل. من دون التزامٍ بمؤسسات دولة القانون، سرعان ما تنحط الديمقراطية إلى أشكالِ قمعٍ جديدة.
ولكن حتى في الثقافات التي تتجذر فيها الفكرة النقدية حول التزام السلطة بمبادئ العدل، كما هو الحال في غرب أوروبا، تبدو طموحات دولة القانون الديمقراطية قابلة للتهديد. ويكشف تاريخ دولة القانون، الذي بدأ منذ مائتي عام، عن أن التوازن المأمول بين تصوّر عالم أكثر عدلاً من جهة، وبين مَعيرة هذه التصور عبر مؤسسات دولة القانون من جهة أخرى، يُصاب بالخلل مرة بعد مرة بسبب الأوهام السياسية والتخيلات. وهكذا نلاحظ أن تأثير إيديولوجيات كالرأسمالية الصناعية والشيوعية والفاشية وحالياً الرأسمالية المالية، كان سلبياً على التاريخ التطبيقي لدولة القانون.
وقد سبق أن تفعّلت هذه الديناميكية في عصر التنوير جرّاء ظهور علم الاقتصاد. وكما ظنّ فلاسفة التعاقد أنهم اكتشفوا قوانين المجتمع العادل عن طريق العقل، هكذا ادّعى الاقتصاديون الكلاسيكيون أنهم سلّطوا الضوء على قوانين السوق الحرة المباركة: في حال فُتِح المجالُ أمام السوق الحر، سينشأ من تلقاء نفسه – وكما لو أن يداً سحرية تدخلت – نظامٌ اجتماعي عادل. وقد تمّ وضع الأسس العقلانية لهذا النموذج الفكري أيضاً، والفكرة هي ما يلي: في حال اختار كلُ إنسانٍ، بكامل حريته وبالتساوي مع الآخرين، الشخصَ الذي يرغب التعاقد معه، ومِمَّن يشتري ولمَن يبيع، سنصل بفضل آلية العرض والطلب التنافسية إلى السعر المناسب، وإلى تخصيصٍ مثالي للبضائع والموارد الطبيعية. فضلاً عن أن آلية العرض والطلب ستفضي إلى أخلاقيات عامة، ويهبط الطلب حرفياً على المتعاقدين غير الموثوق بهم أو بأسعارهم. وليس هذا فقط، بل إن الأفراد حين يتوخون مصالحهم الشخصية على هذا المنوال، سوف يخدمون مصلحة عامة ما، أعني الازدهار المتزايد الذي يجعل التطلع نحو تحسين مصير ذوي الحاجة المدقِعة وارداً.
وكي يتمكن السوق الحر من القيام بذلك العمل السحري من دون عوائق، يجب على الدولة سحب أياديها من كافة أنواع التدخل. فالملكية الشخصية وحرية التعاقد من شروط هذا السيناريو الحُلم التي لا غنى عنها، ووحدها ملكية وسائل الإنتاج الخاصة قادرةٌ على خلق الحوافز اللازمة لروح المبادرة والتجديد التقني، محرك النمو الاقتصادي. كما ينبغي فهم حق الملكية وحرية التعاقد التي سمّاها إعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي (1789) بـ «المقدسة والحصينة»، من خلال أخذ ذلك الإيمان الراسخ بالسوق الحر بالحسبان. وهكذا سوف يدعم النظام القانوني والاقتصادي بعضهما بعضاً، ويجعلان العدلَ الاجتماعي عبر التنسيق فيما بينهما في متناول اليد. وتصبح مهمة القانونيين تنظيمَ العلاقات بين المواطنين (الملكية والتعاقد) من خلال كتاب القانون المدني. وهنا أيضاً يتبدى القانون الروماني كمصدر إلهامٍ لمصطلحات ومبادئ قانون التعاقد، مع أنه لم يعد ثمة مجال لمبادئ الإنصاف والعقلانية ضد العقائدية. العقد عقد، مهما كانت درجة عدم التساوي بين المتعاقدين. فضلاً عن أن مهمة النظام القانوني باتت تزويد النظام الاقتصادي بأرضية قانونية آمنة.
وقد أدى تنظيم العلاقات الاجتماعية من خلال عقود صارمة إلى أخلاقيات التقابض، حيث لم يعد للأطراف أي حقوق وواجبات خلا المنصوص عليها في العقد. أما تقابلية الأخذ والعطاء حسب الحاجة ومع الثقة أن كل شيء سيرتدّ إلى صاحبه في الوقت المناسب، فقد تمّ حصرها في مجال القرابة والصداقة الخاص. لم تعد الثقة، بل عدم الثقة هي نقطة انطلاق السوق الحر والذي اعتمد قانونياً على القاعدة الرومانية القديمة: ius vigilantibus scriptum est، بما معنى: القانون مكتوبٌ للمتيقظين. وهكذا جرى تحويل الإنسان المعطاء homo donator إلى إنسان ٍ اقتصادي homo economicus.
نعلمُ إلى ماذا أفضت قوانينُ الرأسمالية المتوحشة في القرن التاسع عشر، حيث تمّ التعامل معها كما لو أنها قوانينٌ طبيعية لا تتزعزع. ونعلمُ أيضاً أن العقيدة الاقتصادية لم تترك أي مجال لتصوراتٍ مغايرة عن الواقع، فالطبقة المالكة هي الوحيدة المُمَثّلَة في البرلمان. وقد أفضت سياسة عدم التدخل إلى صعودٍ كبير في التجارة والصناعة، إلا أن الثروة كانت مركزة في أيادي القلة القليلة. ولم يتحقق وعدُ الرخاء للجميع، بل على العكس، فقد أدت سيادة حقوق الملكية غير المقيّدة وإيديولوجية حرية التعاقد إلى ظروف عملٍ غير إنسانية واستغلالٍ جماعي. وها هم العمال يُجبَرون على بيع قوتهم العاملة بأبخس الأسعار جرّاء فقرهم وعدم امتلاكهم أي شيء. ولم تحقق حرية التعاقد بين طرفين غير متساوييَن ولا حُرَّين سوى تبادلية زائفة. يبدو أن قوانين السوق الحر كانت أشبه بقوانين الطبيعة فعلاً، ذلك أنها دمّرت العلاقات الاجتماعية بطريقة عمياء. ولم يسبق أن كان البروليتاري البائس أكثر بُعداً عن الإنسان المتحرر الذي تطمح إليه دولة القانون الديمقراطية، فهي برضوخها للاقتصاد الرأسمالي فشلت بتحقيق وعد السلام والتناغم بين الغرباء. بل على العكس من ذلك، بدأ المجتمع يتمزق بسبب تناقضات اجتماعية جديدة على شكل صراع طبقات بين البرجوازية والبروليتارية.
وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أدى هذا الانفصام الاجتماعي إلى ما يسمى بـ«القضية الاجتماعية». فبعد أن كان المرء يحسب قوانين السوق الحر الاقتصادية منزّهة عن الخطأ، قام ماركس بفضحها كعقيدة إيديولوجية. ومع توحيد العمال في نقابات وأحزاب سياسية، ظهرت مجدداً نقاشات عامة وسياسية حادة حول تنظيم المجتمع الصحيح والعادل. وإذ أخذت التخيلات السياسية مداها، تحولت ثانيةً إلى عقيدة حماسية. مع الفرق أنها انقلبت هذه المرة إلى قوانين تاريخية لا تتزعزع وتسير افتراضياً باتجاه واحد: ديكتاتورية البروليتاريا. فقط عندما تغدو وسائل الإنتاج ملكية عامة، سوف يتعايش الناس بتناغم مع أخلاقيات التقابلية والتكافل. وكسابقتها اعتُبِرت هذه اليوتوبيا نتيجة المنطق العقلاني الذي يدعو إليه مذهب التنوير.
وحيث لم يتمّ مَعيرة هذه اليوتوبيا من قِبل مؤسسات دولة القانون – كما في الاتحاد السوفياتي – لم تفضِ المخيلة الشيوعية إلى دولة بوليسية ديكتاتورية ومأساة اجتماعية فحسب، بل إلى مجازر جماعية أيضاً.
أما في أوروبا الغربية، فقد جرى تخفيف وطأة التناقضات بين العمل والرأسمال من خلال سنّ قوانين اجتماعية. فاعتباراً من 1900 صدر قانون منع عمل الأطفال، وقانون تنظيم العمل، وقانون الأمان، وقانون الحوادث، وقانون السكن، والتعليم الإلزامي. وفي 1919 تلاها حق الانتخاب العام أيضاً.
وفي ثلاثينات القرن العشرين تعرّضت دول القانون الناشئة للهجوم مجدداً، حيث عاودت المخيّلة السياسية الخروجَ عن البنية التحتية لدولة القانون، وشرعت تدعو إلى الإيمان بقوانين جديدة ثابتة: الداروينية الاجتماعية. وإذ جرى التعامل معها كما لو كانت قوانينَ طبيعة، تحولت في ألمانيا النازية إلى عرقية مُدوَّنة. فسُحِبت حقوق المواطنة والإنسان من اليهود والغجر والمتخلفين عقلياً والمثليين وأعضاء المقاومة، ونُبِذوا من مجتمع القانون ورُفِعت عنهم صفة الموضوعات القانونية. وبعد وضعهم في خانة العدو الغريب والحطّ من إنسانيتهم، جرت ملاحقتهم وإبادتهم. وبما أن مؤسسات القانون قد أُلغيت في ألمانيا النازية، لم يعد هناك أي قوة تكافح الأوهام الكاسحة. وهكذا تمكن الديكتاتور من التربع على عرش السلطة الشاغر.
وقد وصلت فظائع الحرب العالمية الثانية إلى درجة اتخذت فيها الرغبة بالسلام بين الغرباء شكلاً قانونياً. ففي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي صاغته الأمم المتحدة عام 1948، وفي الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان التي صاغها مجلس أوروبا عام 1950، تمّ الإعلان عن الكرامة الجوهرية للبشرية قاطبة. كما أُضِيفت حقوق أساسية اجتماعية واقتصادية وثقافية فوق الحقوق الأساسية الكلاسيكية التي تحمي المواطن من الدولة. هذه الحقوق الجديدة لا تطالب الدولة بالامتناع عن شيء، بل بالعمل على تحسين شروط حياة المواطنين، وتحقيق حريتهم ومساواتهم الرسمية عبر الحرية والمساواة المادية.
وقد أصبح الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان العَقدان التأسيسيان الجديدان، أو النصّان المقدسان، لدول قانون ما بعد الحرب. وأُعِيدت صياغة الدساتير الوطنية أو تعديلها بهدف تقييد سلطة الدولة بسلاسل الدستور مرة أخرى. كما كان منحى دساتير ما بعد الحرب هو أن المواطنين ولِدوا أحراراً، ويملكون حق تحديد مصيرهم وتاريخهم، عبر نقاشاتٍ ديمقراطية مفتوحة حول التنظيم العادل لمجتمعهم ضمن إطار دول القانون الأوروبية. وهكذا تجدّد وعد دولة القانون التنويري، ولم تعد للدولة مهمةٌ سوى تعزيز السعادة البشرية بكامل حسن النية. وقد قال روته [رئيس الوزراء الهولندي] منذ فترة وجيزة: «الدولة هي آلة السعادة». لا أراه محقاً، فالدولة ليست آلة، ولكنها معنية بتوجيه جلّ دأبها نحو السعادة النابعة عن وجودٍ كريم ضمن مجتمع يتطلع نحو المستقبل، وحيث العلاقات بين المواطنين منظمة وفق مبادئ الحرية والمساواة والتبادلية.
التزمت دول القانون الأوروبية إلى حدٍ معقول بهذا الوعد حتى ثمانينات القرن الماضي، حيث مرّت أوروبا بفترة ازدهارٍ وسلامٍ لا مثيل لها. وقد توصلت دول الشمال الأوروبي بخاصة إلى مستوى عالٍ من الثقة الاجتماعية المبنية على التعاون، والتي أدّت بدورها إلى تكافلٍ عظيمٍ ضمن منظومة تأمينٍ اجتماعي هائلة. ويُنسَب ازدهار دولة القانون في تلك الفترة إلى ما يسمى بنموذجِ بلاد الرين [نسبة للنهر]: الاقتصاد تُحدده شركاتٌ تصبو إلى الاستمرارية في أجواء اجتماعية مستقرة، وتتعاون من أجل ذلك مع الحكومة والمنظمات العمّالية. فضلاً عن المناقشات التي تجريها قوى مضادة واعية في قطاعات العمل والتعليم والعلم والثقافة والإعلام، جنباً إلى جنب مع منظمات أصحاب المصالح ومجموعات العمل. في ذلك المجتمع المسترخي نسبياً، والذي يتمتع بمجتمعٍ مدني قوي، لم يُفَعِّل قدومُ العمال المهاجرين منظومةَ الـ«نحن وهم» الغافية بعد.
كما ساهم مشروع الوحدة الأوروبية بتحقيق السلام والرفاهية في فترة ما بعد الحرب. فتِبعاً لآلية السِلم التبادلية البدائية، اتفقت الدول الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية على احترام حدودِ بعضها بعضاً والتعاون فيما بينها، على أمل ألا يهتِك أحدٌ هذا الاتفاق. وبما أن الفحم والصلب كانا من محركات الحربَين العالميتين، بادرت ست دول بتأسيس الجمعية الأوروبية للفحم والصلب عام 1951. فتوقفت الصناعة الحربية جزئياً، لتُستخدم هذه المواد الخام في إعادة تعمير أوروبا المدمرة. وقد ساعدت الاتفاقات التبادلية في هذه الجمعية على تعزيز عملية الثقة التي أفضت بدورها إلى علاقة تعاون على مستوى أوسع بين الدول الأعضاء الست. ففي 1957 عمِلت تلك الدول على تأسيس المجموعة الاقتصادية الأوروبية، وبعد عشرة أعوام اتُخِذت خطوات أوسع نحو مأسسة التعاون في المجموعة الأوروبية، التي زُوِّدت بذراع تنفيذي هو المفوضية الأوروبية، وآخر مُشَرِّع هو المجلس الأوروبي، وثالث مُراقب هو البرلمان الأوروبي. واعتباراً من السبعينات دخلت دول أوروبية جديدة إلى المجموعة، ولم يُفتح المجال أمام دول أوروبا الشرقية إلا بعد سقوط جدار برلين. وفي 1992 عُقِدت معاهدة ماستريخت التي وسّعت نطاق التعاون إلى ما يسمى حالياً بالاتحاد الأوروبي. ولدينا الآن سبعٌ وعشرون دولة عضو، ودستورٌ أوروبي جديد تمت صياغته في معاهدة لشبونة.
باختصار: في ضوء الحروب التي ابتليت بها أوروبا قروناً طويلة، أضحى الاتحاد الأوروبي مشروعاً مدهشاً يجلبُ السلام والتعاون المرجوان فعلاً. وإذ رضخ أعداءٌ سابقون لسلسلة من معاهدات (على غرار النموذج الفكري للعقد الاجتماعي، حيث تُنقل سيادة الأطراف المتنازعة إلى مؤسسة ثالثة)، فقد استعادت آلية التبادلية عافيتها من جديد.
حتى أن عملية الثقة والتعاون بلغت في 2002 ذروتها بتأسيس الاتحاد النقدي. فقد افترضت الدول الأعضاء أن جميع الأطراف سوف تمتثل لميثاق الاستقرار دون الحاجة إلى اتحادٍ سياسي بينها، أو هذا ما راهنت عليه على الأقل. ولكن يبدو أنها لم تكن على حق، لأن اليونان لم تكن البلد الوحيد الذي انتهك ميثاق الاستقرار، بل معظم الدول الأعضاء.
إن أزمة الثقة الحالية في الاتحاد الأوروبي ليست سوى عَرَض لمشكلة أعمق. ذلك أن مشروع السلام الذي قامت به دول القانون الأوروبية وقع في قبضة إيديولوجية تعمل على تقويض أسس دولة القانون. وأقصد هنا صعود الليبرالية المتوحشة انطلاقاً من الثمانينات، والتي عادت لتبشر ببركات السوق الحرّ المنفلت عن كل قيد، ولتُرضِخ دولة القانون لقواعد الرأسمالية المُفترَض أنها معصومة.
أزمة دولة القانون
لم يتبق بعد انهيار الكتلة الشيوعية الشرقية، كما رأى بعض السياسيين كالرئيس الأمريكي ريغان ورئيسة الوزراء البريطانية تاتشر، سوى طريق ثالث لا غير نحو السلام والرخاء والسعادة، طريق سيحقق وعود دول القانون الديمقراطية: السوق الحرّ العالمي. «لا يوجد بديل»، قالت تاتشر. وقد استمدت هذه العقيدة من الاقتصاديين المحافظين الجدد التابعين لمدرسة شيكاغو الاقتصادية المتنفِّذة، والذين يُطلِق مناهضيهم عليهم لقبَ «أصوليو السوق». ففي حال تحرّر السوق من تطفل الدولة، سوف يتحقق تخصيصٌ فعّال للبضائع والخدمات، وينتشر الرخاء عبر العالم، بفضل قدرة التحكم الذاتية للسوق الحر. كذلك ينبغي عدم فتح المجال أمام الرأسمالية الصناعية فقط، بل أمام الرأسمالية المالية أيضاً. وعلى البنوك أن تَعرُضَ خدماتها كشركات في السوق المالية، وتطوّر منتجاتها المصرفية بكامل الحرية. إن النمو الاقتصادي الذي سيحققه السوق الحرّ بفضل قدرته الذاتية على التحكم بنفسه، سيعود بالخير على الجميع ويخلق مجتماً عادلاً. سوف تتراجع البطالة، وترتفع الرواتب، ويتمكن المواطنون من تحمل مسؤولية أنفسهم، وبفضل هذا كله سيغدو التحكم بإسراف دولة الرعاية ممكناً.
لقد قُدِّم السوق الحر العالمي على أنه استردادٌ لمشروع التنوير الذي ظهر في القرن الثامن عشر، واتخذ الآن شكلاً ليبرالياً. جاؤوا بآدم سميث، ونسَوا للأسف أنه أكد على أن السوق لن يقوم بعمله المبارك إلا إذا كانت أخلاقيات السوق جزءاً لا يتجزأ من أخلاقيات اجتماعية. ونسَوا كذلك أن آدم سميث – الذي رأى سبعاً وعشرين مصرفاً يعلن إفلاسه في إدينبورغ – لا يريد إدخال الصرافة إلى السوق الحر. فالمصارف ليست شركات برأيه، وإنما مؤسسات تخدم الاقتصاد فقط.
بيد أن الإيمان ببركات قوانين السوق الليبرالية كان كبيراً إلى درجة جعلت حتى الاشتراكيين لا يرون بديلاً عنها. صحيح أن بعض السياسيين الاشتراكيين مثل [رئيس وزرائنا السابق] كوك وبلير وشرودر ظنوا أنهم يطرحون البدائل من خلال سياسة الطريق الثالث، غير أن الدمج بين الاشتراكية وليبرالية السوق اشتغل لصالح السوق. فبدائلهم لم تعد تحظى بأي فرصة، بعد أن تخفف السوق من البنية التحتية المعيارية لدولة القانون، إثر التسهيلات وحملات اللبرلة الضخمة. كما أحيلت مهمة وضع معايير للأسواق ومراقبتها إلى سلطات السوق ذاتها: كالتنافسات والأسواق المالية وتأمينات الرعاية الصحية والاتصالات والمواصلات والنقل وإلى آخره. وقد شكلت هذه الهيئات المراقبة قضاءً اقتصادياً خاصاً بها، لا يملك شرعية ديمقراطية، بل تكنوقراطية فقط. ولا يرعى مصالحَ عامة، وإنما مصالح جزئية لأطراف معنية بالسوق والمستهلكين، فضلاً عن تغلغله عملياً في شبكات اللوبي.
ومما زاد من ضعفِ دولة القانون هو تلك الحملات الضخمة التي عُنيت بإعادة تأثيث دولة القانون ذاتها وفق نموذج الشركات. وقد أُعيد تعريف المصالح العامة، فغدت مصالح خاصة يرعاها السوق. أما المصالح العامة المتبقية، فتُرِكت قدر الإمكان لهيئاتٍ إدارية مستقلة تعمل وفق نهجٍ تجاري. وهكذا دخلت القطاعَ العامَ مصطلحاتٌ من قبيل عقود الأداء ومؤشرات الأداء ومستويات الناتج والمحفزات المالية والمُراقِب والتصنيف والقياس والتسويق والدعاية. وتضخمّت البيروقراطية أكثر من أي وقت مضى.
وصارت التأمينات الاجتماعية بيد هيئات مقاوِلة، والتعليم العالي بيد معاهد وجامعات مقاوِلة، والثقافة بيد متاحف مقاوِلة، والعناية الصحية بيد تأمينات خاصة ومشافٍ مقاوِلة. كما سُلّمت الإذاعة للمنافسات على أكبر عددٍ من المتفرجين.
وقد أدى هذا التغيير البنيوي والعميق إلى انقلابٍ ثقافي في القطاع العام لا يقلّ عمقاً. لم يعد القطاع العام معنياً بالتقابلية المبنية على الثقة، والتي تحثّ الموظفين وأصحاب المهن الحرة على العمل وفق أخلاقهم المهنية، والقيام بواجبات غير موصوفة مسبقاً، بل تمّ تحديده بأخلاقيات التقابض التعاقدية والمبنية على الريبة. وحيث كان الموظف مُلزماً بأخلاقيات الوظيفة، ولا يحق له أبداً تقديم مصالحه الشخصية على الآخرين، بات بوسعه الآن بعد أن صار أشبه بمقاوِلٍ، أن ينغمس بتخيلات العظمة من خلال مشاريع ومرتبات خرافية. وبعد أن كانت مهمة الإذاعة العامة تغذية النقاش العام ديمقراطياً، خسرت الآن قوتها المضادة، وصارت المتعة والتسلية المؤشرَين الوحيدَين لارتفاع أعداد المتفرجين.
اليوم بتنا نعلم إلى أين أوصلنا إيماننا الشديد بفائدة الليبرالية المتوحشة. فالأسواق المالية لم تتخفف فقط من البنية التحتية المعيارية لدولة القانون، بل من الاقتصاد الواقعي كذلك. كما أنها طوّرت تجارة افتراضية خاصة بها، بلغ حجمها سبعين ضعفٍ لحجم الاقتصاد العالمي الحقيقي. وفي عام 2008 انفجرت فقاعة التجارة الافتراضية، وتلت ذلك أزمة قروضٍ وبنوك، التي أدت بدورها إلى أزمة اليورو في عام 2010. وبما أن البنوك «أكبر من أن تفشل»، تمكنت من إرغام الحكومات على اتبّاع إملاءاتها. والنتيجة هي أن الحكومات، وليس المصارف، باتت على وشك الإفلاس في حال لم تنفذ سياسات تقشف خيالية. وهكذا استطاع سوق مالي حر وافتراضي أن يكيل للعالم لكمة هدّامة، ويلحق الضرر بشروط حياة البشر لفترة طويلة.
وفي تلك الأثناء لم يكن القضاء الاقتصادي الموكل بمراقبة سلطة الأسواق المالية على دراية بشيء. والمراقبون لا يعلمون ولا يفقهون، فتابعوا طريقهم وهم يتلمسون في الظلام.
إذا كان السوق الحر مشروعاً تنويرياً، يحق لنا أن نتساءل كيف دخلنا هذه العتمة، فصارت دول الاتحاد الأوروبي لا تثق ببعضها بعضاً، وفقدت البنوك ثقتها بالبنوك الأخرى، وبدأ المواطنون يرتابون من حكوماتهم والإدارة العامة.
وللمرة الثانية في تاريخ دولة القانون، تطرح التساؤلات ذاتها: كيف علينا لجم السلطة المنفلتة؟ وكيف نسترد الثقة ونرجع أدراجنا إلى مشروع دولة القانون؟ بدايةً ينبغي إخراج المناظرات الديمقراطية من فخ عقيدة «لا يوجد بديل». أليس لدينا بديل فعلاً؟ هل انطفأت المخيلة إلى درجة لم يعد بوسعنا تصور عالم أفضل؟ عالمٌ آخر غير مبني على ما يسمى بالقوانين المعصومة، بل على حقيقة مؤقتة دائماً وغير منزّهة عن الخطأ؟ من المهم أيضاً إعادة النظر بالتأثيث التجاري للدولة، فهي ليست شركة مبنية على الشك، هي ليست هولندا وشركائها، بل التعبير القانوني لمجتمعٍ مبني على الثقة وموجه نحو الاستدامة والسعادة الاجتماعية.
وثمة سببٌ ملّح لتقييد السوق الحر العالمي بأغلال دولة القانون، لأن النظام الاقتصادي الحالي لا يقوض النظام القانوني فحسب، بل معه النظام الطبيعي. وقد وصل تخريب الكوكب من قبل السوق الرأسمالي المحكوم بوتيرة نمو لا نهاية لها، إلى مراحل متقدمة جداً.
في حال استمر مشروع دولة القانون، لا بدّ من تحديث مبادئ العدل مرة أخرى. وككل مرة سوف نرى أن مصطلحات القانون الروماني القديم هي التي ستفجّر الثورة البيئية. الطبيعة والماء والهواء والأرض ملكُ الجميع ولا أحد. إنها تراث البشرية الطبيعي، ولذلك ينبغي أن تبقى خارج عالم التجارة.
*****