«أوليس بيرني ساندرز مؤيداً للصهيونية؟». هكذا علّق أحد الأصدقاء، مستفسراً، على محتوى نُشر على موقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك) أشار إلى بعض أوجه الشبه – رغم الاختلافات الجوهرية والهائلة – بين الحالة التي أحدثها ترشح بيرني ساندرز، أحد مرشحي الحزب الديموقراطي للرئاسة الأميركية، بين صفوف الشباب الأمريكي منذ تدشين حملته الانتخابية الرئاسية الأولى في مايو 2015، وتلك الحالة التي أحدثها محمد البرادعي، المدير السابق للوكالة الدولية للطاقة النووية، بين أوساط الشباب المصري، لفترة، عند عودته إلى مصر في فبراير 2010.
كلاهما، كما يري البعض، سياسي كهل، ظهر على الساحة السياسية في بلاده بشكل مفاجئ من اللامكان. كلاهما أشعل حماس قطاعات واسعة من الشباب وصغار السن. كلاهما دعا إلى تغييرات سياسية جذرية تعزز الممارسة الديموقراطية وتعيد توزيع الثروة وترد الحقوق وتطلق الحريات. كلاهما بشّر بالتغيير السلمي وحث الجماهير على الالتحاق بركبه. وكلاهما تعرّض لتغطية إعلامية غير نزيهة وسلبية في مجملها، وإن كان ذلك قد تغيّر بعد انتخابات 2016 التي فازت فيها كلينتون بترشيح الحزب الديموقراطي لتخسر لاحقاً أمام دونالد ترامب، حيث بزغ نجم ساندرز وصار لاحقاً السياسي الأكثر شعبية في البلاد طبقاً للعديد من استطلاعات الرأي.
بعيداً عن هذا التناظر، يبقى التعليق الذي جاء في صيغة سؤال عن موقف بيرني ساندرز من الصهيونية ملحاً ودالاً. ليس فقط لأن العالم العربي وبالأخص الوطن الفلسطيني قد أكتوى، ولا يزال، بجرائم تلك الحركة الاستعمارية التي احتلت الأرض وقتلت الإنسان. لكن لأنه رغم كونه استفهاماً هاماً ومشروعاً إلا أن طبيعته الاختزالية وصياغته المغلقة لا تفسح المجال للإجابات التفصيلية أو المركبة القائمة على تفاصيل متنوعة ومعلومات دقيقة ووجهات نظر متعددة.
تلك الإجابات غير السطحية وحدها هي ما سيقودنا إلى طرح أسئلة أكثر واقعية وأهمية، ليس لفلسطين وحدها بل للعالم العربي على اتساعه. كالسؤال عن ماهية الطريقة التي سيتعاطى بها الرئيس ساندرز مع فلسطين والاحتلال الإسرائيلي لأراضيها؟ أو كيف يرى هذا الرئيس المحتمل طبيعة الدور الأميركي في العالم والشرق الأوسط على وجه التحديد؟
بالطبع لا يمكن لأحد الزعم بقدرته على القطع بالكيفية التي ستتعامل بها إدارة أمريكية يرأسها يهوديٌ – وهو أمر غير مسبوق في التاريخ – مع فلسطين، لذا غاية ما تطمح إليه هذه السطور هو محاولة تقديم رصد شامل، على درجة غير قليلة من الدقة والتفصيل وتنوع المصادر، لعلاقة بيرني ساندرز بالقضية الفلسطينية. وذلك في سياق لا يغفل طبيعة النظام السياسي الأميركي ونفوذ اللوبي الإسرائيلي النافذ داخله.
بين تراث يهودي وتجربة شيوعية – صهيونية
ولد بيرني (بيرنارد) ساندرز في عام 1941، في مدينة نيويورك، لأبوين يهوديين من أصل بولندي. فقد هاجر إلياس ساندرز، والد بيرني، إلى الولايات المتحدة وهو في السابعة عشر من عمره هرباً من المصير الذي أودى بحياة بعض أفراد عائلته على أيدي النازيين إبان الحرب العالمية الثانية في أوروبا.
عندما سُئل ساندرز في إحدى مناظرات انتخابات عام 2016 عما إذا كان يتجنب الحديث عن ديانته، أجاب بأنه «فخور للغاية بكونه يهودياً» وأن «يهوديته تمثل ملمحاً مهماً مما أصبح عليه كإنسان.» لاري ساندرز، الأكاديمي والسياسي البريطاني والشقيق الأكبر لبيرني، أشار إلى أنه وأخيه لم يتشككا أبداً عندما كانا صغيرين في كونهما يهوديان. على الجانب الآخر، يؤكد ساندرز أنه «غير ممارس لأي شعائر دينية» وأن إيمانه بالله «ليس بالضرورة تقليدياً» كما تقتضي اليهودية.
حياة ساندرز وممارساته تشير كذلك إلى أنه غير متدين أو أن يهوديته لا تعدو كونها – كما وصفها بنفسه – رافداً ثقافياً وأخلاقياً ساهم في تشكيل شخصيته. في يوم رأس السنة العبرية، والذي يعتبره معظم اليهود يوماً مقدساً للصلاة والاحتفال، فضل ساندرز أن يواصل حملته الانتخابية في 2016 بجامعة الحرية المسيحية بولاية فيرجينيا. ولعل إجابة ساندرز هذه، والتي كررها في أكثر من لقاء ومناظرة، تشي بطبيعة عقيدته الروحية:
أنا أؤمن بما يدعو إليه جوهر المسيحية والإسلام واليهودية والبوذية، وهو أن تعامل الناس كما تحب أن يعاملوك. ما آمنت به طوال حياتي هو أن على الجميع التآخي والتضامن. يجب أن نشعر بالأطفال الجوعى والعجائز بلا مأوى. عندما نفعل الصواب تجاه غيرنا، وعندما نعامل الناس باحترام وكرامة، فأننا نصير بذلك أكثر إنسانية. هذا ديني وهذا ما أؤمن به.
لذلك، لم يكن مستغرباً أن يصف البعض ساندرز بأنه المرشح الرئاسي الأكثر مسيحيةً في التاريخ. في كل الأحوال بقيت إجابة المرشح الرئاسي عن يهوديته مباشرة وسريعة وواضحة. اختلف ذلك تماماً عندما تغير السؤال، في مقابلة مع عِزرا كلاين من موقع ڤوكس الإخباري، إلى «هل ترى في نفسك صهيونياً؟». لم يجب ساندرز مباشرة بل سأل – بشيء من الدهشة – «صهيوني؟! ما معنى ذلك؟ هل لك أن تُعرّف هذه الكلمة؟» وذلك قبل أن يرد بالإيجاب على السؤال الذي صاغه بطريقة مختلفة ليصبح «هل يعتقد أن لإسرائيل الحق في الوجود؟». وأعقب ساندرز ذلك مباشرة بأنه كذلك يعتقد أن على الولايات المتحدة أن تكون وسيطاً عادلاً في التعامل مع الفلسطينيين. ورغم أن كلمة صهيوني لا تحمل في الغرب، وبخاصة بين اليهود، ذات الدلالات الكريهة ومعاني السلب والعدوان التي تحملها بين العرب والمسلمين، إلا أن تردد ساندرز في الإجابة على السؤال لربما كان نابعاً من قلقه أن يُفهم رده المباشر بالإيجاب على أنه موافقة على الممارسات اليمينية المتطرفة للحكومة الإسرائيلية الحالية وحلفائها الأصوليين الدينيين والتي صارت، لدى كثيرين، مرادفاً للصهيونية.
يفخر ساندرز بأنه المرشح الذي تربطه علاقات شخصية بإسرائيل، وأن له أقارب يعيشون هناك. إلا أن بعض تفاصيل تلك العلاقات يشوبه الغموض والتعقيد أيضاً. فمن المعروف أن ساندرز، في العشرينيات من عمره، قد زار فلسطين التاريخية – والتي أسست إسرائيل على أجزاءٍ منها إثر النكبة – لعدة أشهر بين عامي 1963 و1964، وعاش في أحد الكيبوتزات المحلية التي كانت، للبعض آنذاك، تجسيداً عملياً للحياة على الطريقة الشيوعية. لكن ساندرز وحملته الانتخابية قد رفضوا باستمرار الإفصاح عن اسم هذا الكيبوتز أو مكانه. الأمر الذي دفع بجرائد يهودية مثل فوروارد وإسرائيلية مثل جيروزاليم بوست وهاآريتس إلى البحث المحموم خلف هذا اللغز. إلى أن عثرت الأخيرة في أرشيفها على ما كشف النقاب عن الكيبوتز الغامض. كان مقالاً قديماً، نشر عام 1990، أفاد بأن ساندرز، بعد قضائه عدة أشهر بكيبوتز بوابة الوديان، «قد فقد اتصاله بإسرائيل والصهيونية واليهودية». في تعقيب لها على هذا الكشف، شنت مجلة فرونت بيج، اليمينية المتطرفة والمعادية للإسلام، هجوماً حاداً على بيرني ساندرز ووصفت بوابة الوديان بأنه «كيبوتز ماركسي ستاليني»، وزعمت أن أحد مؤسسيه، وهو أهارون كوهين، كان عروبياً ومعارضاً لإسرائيل، وقُبض عليه، بحسب المجلة، في الخمسينيات من القرن الماضي بتهمة التجسس لصالح الاتحاد السوفيتي. كانت زيارة الستينيات تلك هي المرة الأخيرة التي تطأ فيها قدم بيرني إسرائيل، لكن علاقتهما لم تنته. فقد كان الصراع العربي-الإسرائيلي، من آنٍ لآخر، حاضراً في تصريحات وأنشطة السياسي الأمريكي، الذي بدأ مشواره عمدةً لمدينة بيرلينجتون، بولاية فيرمونت، منذ 1981 وحتى عام 1989. ثم عضواً بمجلس النواب منذ 1991 وحتى 2007، وعضواً بمجلس الشيوخ منذ 2007 وحتى اليوم، ممثلاً لولاية فيرمونت في كلا المجلسين.
فلسطين في خطاب ساندرز وسياساته
منذ بداية سبعينيات القرن الماضي، كان بيرني ساندرز عضواً في حزب محلي بولاية فيرمونت يدعى حزب «اتحاد الحرية» والذي يعرِّفه موقعه على الانترنت بأنه حزب قائم على مبادئ الاشتراكية واللاعنف. خاض ساندرز مرشحاً للحزب 4 حملات انتخابية خسرها جميعاً، ليستقيل منه في 1977. يُنسب إلى بيتر دايموندستون – أحد مؤسسي الحزب – أن ساندرز أعلن خلال حملته الانتخابية الأولى في 1971 أنه يدعم «قطع الأسلحة عن إسرائيل». أورد أكثر من مصدر، مختلفي الاتجاهات والانتماءات، هذه المعلومة لكن من دون ذكر السياق الذي يوضح أسباب ذلك التصريح. لكن تصريحات أخرى أدلى بها ساندرز ترجح أنه كان، يوماً ماً، ناقداً طلقاً لبعض سياسات وممارسات الكيان الصهيوني.
ففي عام 1988، خلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى، حين كان عمدةً مستقلاً لمدينة بيرلينجتون، انتقد وبعنف جرائم الاحتلال الإسرائيلي من تكسير لأيدي وأرجل العرب، وحصار وإغلاق البلدات الفلسطينية. كان سياق الحديث هو دعم بيرني للمرشح الديموقراطي للرئاسة آنذاك جيسي جاكسون. إلا أن ردود ساندرز غير المتوقعة أثارت فضول الصحفيين فتابعوا توجيه الأسئلة للعمدة، الذي واصل انتقاده لإسرائيل بعد أن أدان كذلك ما وصفه بالخطاب العربي المتعصب الداعي لتدمير إسرائيل، وهو أحد الانتقادات النمطية المحفوظة للساسة الأمريكيين. وذلك قبل أن يختتم حديثه بدعوة الولايات المتحدة لـ «قطع الأسلحة عن دول الشرق الأوسط» إذا لم يجلسوا سوياً للحوار والتفاوض. لم يستثنِ ساندرز إسرائيل من ذلك. ورغم ان ساندرز لم يكن أول الداعين إلى إقامة وطن فلسطيني إلا أنه قد تبنى تلك الفكرة منذ 1990 في زمان كانت لا تزال إقامة دولة للفلسطينيين أطروحة مثيرة للجدل، وربما غير مقبولة في الأوساط السياسية الأميركية.
في السنوات التالية، سجَّل تاريخ ساندرز التصويتي في الكونجرس الأميركي له ظهوراً معارضاً لإسرائيل. ففي عام 1991، صوّت ساندرز لصالح تعطيل 82.5 مليون دولار من المعونة الأميركية لإسرائيل إذا لم تلتزم الأخيرة بتجميد نشاطها الاستيطاني في الضفة وغزة. وخلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية، في 2001، كان بيرني ساندرز النائب اليهودي الوحيد الذي لم يؤيد مشروع قرار يُلقي باللائمة على العنف الفلسطيني في تأجيج الأحداث! وفي 2004، صوّت ضد مشروع قانون يدعم بناء جدار الفصل العنصري الإسرائيلي، والذي اعتبرته محكمة العدل الدولية جداراً «غير مشروع.» وكذلك، في 2014، رفض – ضمن 21 سيناتور آخرين – التوقيع على مشروع قرار يعلن الدعم الأميركي المطلق لإسرائيل خلال حربها على غزة. ذلك كان جانباً مشرقاً من تاريخ بيرني ساندرز، لكنه ليس الوحيد. فقد كان الرجل مناصراً ومدافعاً عن إسرائيل كذلك في بعض الأحيان. لكنها كانت اللحظات التي يظهر فيها، بحسب رأي البعض، وكأنه يدافع عن شيء لأنه مضطر لذلك. وكان أبرزها في 2014، عندما صرخ في أحد منتقديه من معارضي إسرائيل ليصمت والا استدعى له البوليس. وكان ذلك عندما حاول، ضمنياً، توجيه اللوم إلى قذائف حماس على إسرائيل. وذلك رغم أنه أدان الهجمات الإسرائيلية على أبنية الأمم المتحدة وأبدى حزنه لسقوط ضحايا من المدنيين. ساندرز، كذلك، كان دائم الحديث عن حق إسرائيل في الوجود وحقها في الدفاع عن نفسها ضد أي تهديد.
من سياسي مجهول إلى رئيس محتمل
يربط البعض بين بزوغ نجم ساندرز في الأوساط الأميركية وخفوت صوته المندد باسرائيل وانتهاكاتها المستمرة للحقوق الفلسطينية. ربما كان ذلك صحيحاً، وبالأخص خلال الانتخابات التمهيدية للرئاسة الأميركية في 2016، حيث غابت القضية الفلسطينية، بشكل شبه تام، عن أحاديث بيرني ساندرز وعن مناظرات الحزب الديموقراطي أيضاً. وذلك في تناقض واضح مع ما جرى في المعسكر المنافس، حيث تبارى مرشحو الحزب الجمهوري، في ذلك العام، حول مَن يكون أكثر إبداءً للدعم والموالاة والوله بإسرائيل.
الصمت الذي ران على ساندرز ربما يرجع لعدة أمور، منها الاتساع الهائل للدوائر الجماهيرية التي يتصل بها وتغير موقعه على خريطة السياسة الأميركية، فبعد أن كان مجهولاً قضى جلّ مسيرته السياسية مستقلاً بعيداً عن الأحزاب صار شخصية سياسية بارزة ونداً قوياً لهيلاري كلينتون. بل لقد فاز بيرني ساندرز في العديد من الجولات ضمن الانتخابات التمهيدية للحزب الديموقراطي ضد الأخيرة. في هذا السياق تصبح لحسابات المكسب والخسارة السياسية تبعات مهمّة للغاية. فالقاعدة الجماهيرية الصلبة لبيرني ساندرز وترسانة حملته الانتخابية في 2016 – وكذلك حملته الحالية لانتخابات 2020 والتي هي في طور التشكل – هم شباب الألفية وصغار السن. وهذه الفئة العمرية هي الأكثر تعاطفاً مع فلسطين. لذلك، يتحسب ساندرز كثيراً لمداخلاته عن القضية الفلسطينية لأنها قد تكلفه الكثير.
من هذا المنطلق، قدرت بعض وسائل الإعلام أنه من الذكاء أن يُبقي ساندرز فمه مغلقاً. ويُعتقد أن حرص ساندرز على صورته أمام أنصاره كان سبباً لتخلفه عن حضور المؤتمر السنوي للجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية (آيباك)، أكبر وأقوى منظمات اللوبي الصهيوني داخل الولايات المتحدة. حيث وقّع، في مارس 2016، 5280 من أنصاره عريضة تدعوه للامتناع عن الظهور أمام آيباك «التي أقسمت على تسويق الممارسات العنصرية والعسكرية وغير الديموقراطية لأكثر حكومة يمينية في تاريخ اسرائيل». لا ينفي ذلك أن ساندرز عرض ارسال خطاب مسجل بالفيديو، لكن المؤتمر رفض ذلك. ساندرز الذي تفرد بكونه المرشح الرئاسي الأوحد في 2016 الذي امتنع عن الظهور أمام آيباك، لم يسجل عليه التاريخ أي ظهور في المسيرات الداعمة لإسرائيل أو على منصات منظمات اللوبي الإسرائيلي.
الخطاب المسجل، الذي لم يرَ النور أمام آيباك، تم نشر محتواه في 21 مارس 2016 على الموقع الرسمي لحملة ساندرز الانتخابية تحت عنوان «الخطوط العريضة لسياسة ساندرز في الشرق الأوسط». وبخلاف العبارات التي أعلن فيها ساندرز دعمه الكامل لحق إسرائيل في البقاء والأمن والدفاع عن نفسها، فقد أعلن أن الولايات المتحدة لا يجب أن تكون صديقة فحسب لإسرائيل، بل أن تكون «صديقة للشعب الفلسطيني أيضاً». لم يغفل ساندرز في ورقته تلك «معدلات البطالة في غزة التي بلغت 44%» ومعدلات الفقر المرتفعة هناك. أقر كذلك أن إحلال السلام يعني «تخفيف معاناة الفلسطينيين التي لا يمكن تجاهلها»، ويعني «رفع الحصار عن غزة»، و«إقرار حق تقرير المصير والحقوق المدنية والاقتصادية للشعب الفلسطيني»، و«تفكيك المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية»، و«توزيع عادل للمصادر المائية بين فلسطين وإسرائيل»، و«إنهاء الاحتلال للأراضي الفلسطينية». كرر ساندرز تصوره لطبيعة الدور الأميركي في العالم حين ذكر أن «الولايات المتحدة ليست شرطي العالم»، وأنه يؤمن أن الحلول الدبلوماسية يجب أن يكون لها الأولوية على ردود الفعل العسكرية. لك أن تتخيل كيف كان يمكن أن يُلقى خطاب يحتوي على أفكار ومبادئ كتلك أمام جمهور آيباك الصهيوني اليميني المتطرف، الذي لا ترهف آذانه السمع إلى اسم الفلسطينيين إلا إذا كان مقترناً بنعتهم بـ «إرهابيين» أو مصحوباً بعبارات التهديد والوعيد.
بعد أيام، وتحديداً في الأول من أبريل 2016 أجرت صحيفة نيويورك ديلي نيوز، المملوكة لمورتيمر زوكيرمان، لقاءً مع بيرني ساندرز اعتبره البعض فخاً كان على المرشح الرئاسي تجنبه. وذلك لأن زوكيرمان هو أحد أدوات اللوبي الإسرائيلي والمحافظين الجدد في الإعلام الأميركي، وذلك ما أكدته الورقة الأكاديمية الشهيرة «اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأمريكية». والحقيقة أن سلوك الجريدة كان متسقاً مع توجهات مالكها، فخرج المقال الرئيسي عن لقاء ساندرز تحت عنوان «المخيف بيرني ساندرز: المرشح الديموقراطي خاطئ تماماً في كثير مما يتعلق بإسرائيل». وذلك رغم أن ساندرز اعتبر حركتي المقاومة الفلسطينية «حماس» واللبنانية «حزب الله» حركات إرهابية، ورغم أنه رفض الموافقة على لجوء القيادة الفلسطينية إلى المحكمة الجنائية الدولية احتجاجاً على جرائم الحرب الإسرائيلية. لم تكن آراء ساندرز على هوى الديلي نيوز – اليمينية حتى النخاع – فقد ربط ساندرز تطور العلاقات الأميركية- الإسرائيلية بتحسن العلاقة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، كما أدان ممارسات إسرائيل خلال حربها على غزة في 2014 وبخاصة تسويتها لمنازل المدنيين بالأرض وقصفها للمستشفيات والمدارس. إلا أن التربص المتعمد به وجد ضالته عندما قدّر ساندرز عدد الشهداء الفلسطينيين خلال تلك الحرب بـ 10,000 قتيل. فانطلقت وسائل الإعلام الموالية لإسرائيل تهاجم بيرني ساندرز بشراسة وتتهمه بتزييف الحقائق، وأصدرت إحدى منظمات اللوبي الإسرائيلي بياناً صحفياً تدعوه لتصحيح موقفه، بل وطالبه سفير إسرائيلي سابق للولايات المتحدة بتقديم اعتذارٍ لإسرائيل. والحقيقة أن ساندرز لم يخطئ، فعدد ضحايا الحرب على غزة من الشهداء والجرحى لم يكن بعيداً، طبقاً لتقديرات الأمم المتحدة، عمّا قدره. زوجة بيرني ساندرز وصفت لقاء تلك الجريدة مع زوجها بأنه كان بمثابة محكمة تفتيش. وبعد أيام من الهجوم على ساندرز، في 13 أبريل 2016، خرجت نفس الصحيفة – نيويورك ديلي نيوز – لتعلن على صفحتها الرئيسية وبكلمات ضخمة دعمها لهيلاري كلينتون في مواجهة اليهودي العجوز.
هل يكون «الرئيس ساندرز» السيناريو الأفضل لفلسطين في 2020؟
لا ينبغي لتقييم موقف بيرني ساندرز من القضية الفلسطينية أن يتم بمعزل عن السياق السياسي الأميركي العام، أو عن الرئيس الأميركي الحالي وموقفه من القضية ذاتها. ربما كان البعض يتمنى أن يكون بيرني ساندرز أكثر شجاعةً وتعاطفاً مع فلسطين، وربما قارنه كثيرون بزعيم حزب العمال البريطاني جيريمي كوربين ذي التاريخ الطويل في مناصرة الشعب الفلسطيني وحقوقه. لكن الواقع مختلف، فطبيعة السياسة الأميركية ذات المكون الإسرائيلي المتنفذ تختلف كثيراً عن نظيرتها البريطانية. فبلاد العم سام تكاد تخلو من أي سياسي بارز يمكن وصفه بأنه «مناصر للقضية الفلسطينية». هذا هو الوضع الراهن.
ومع ذلك، هناك مؤشرات عدة تفيد بأن فوز ساندرز بالرئاسة العام المقبل ربما يكون خطوة على طريق تغيير ذلك. وذلك لعدة أسباب، ربما أهمها أنه بدخول بيرني ساندرز البيت الأبيض، سينخرط في المعترك السياسي الآلاف من النشطاء ومنظمي المجتمع ومسؤولي الحملات من شباب الألفية وصغار السن التواقين إلى تشكيل مستقبل بلادهم، والذين حفزتهم وأشعلت حماسهم مشاركة ساندرز في انتخابات 2016 وبالتأكيد مشاركته الحالية في انتخابات 2020. وهذه الفئة الديموغرافية من داعميه، كما ذُكر سابقاً، هي الأكثر تعاطفاً والأكثر ميلاً إلى فلسطين. وقد أثبتت التجربة، كما في أوروبا وأميركا اللاتينية، أنه كلما عبرت قطاعات شعبية أكبر وأكبر عن موقفها الداعم للقضية الفلسطينية كلما أجبر ذلك حكوماتها على ألا تغض الطرف عن معاناة الشعب الفلسطيني.
سبب آخر هو أن إسرائيل، في السياسة الأميركية، لا تمثل فقط موضوعاً للسياسة الخارجية، بل هي في صلب السياسة المحلية، ويرجع ذلك، من بين أسباب أخرى، إلى التأثير الطاغي للوبي الإسرائيلي على الكونجرس والذي يلعب المال السياسي فيه دوراً بارزاً. رئاسة ساندرز، بشكل غير مباشر، قد تضع قيوداً أكبر أمام هذا المال. فهو، من ناحية، قد تعهد بزيادة الضرائب على الكيانات الاقتصادية والمالية العملاقة وعلى فئة ذوي الثروات المالية الضخمة، وهي الفئة التي ينتمي إليها أغلب داعمي إسرائيل. ومن ناحية أخرى فقد تعهد ساندرز بأنه لن يسمح بأن تُباع الانتخابات وتُشترى عن طريق فرض قيودٍ هائلة على حركة المال السياسي وتقنين الإجراءات المنظمة لتمويل الحملات الانتخابية.
رغم التكهنات عن عدم خوض هيلاري كلينتون لسباق الرئاسة 2020، تظل أي مقارنة منصفة معها بخصوص القضية الفلسطينية أو العالم العربي لصالح بيرني ساندرز. ففي الوقت الذي صوّت فيه بيرني ساندرز، في 2002، ضد غزو العراق، صوتت هيلاري لصالح الحرب. كذلك، عارض ساندرز في مجلس النواب مشروع قانون يدعم إنشاء جدار الفصل العنصري الإسرائيلي واقتطاعه لأراضي الضفة الغربية في 2004، في حين كانت كلينتون أحد مهندسي تمرير القرار نفسه في مجلس الشيوخ. حتى حملة ساندرز الانتخابية السابقة، ذات أوسع قاعدة من صغار المتبرعين في التاريخ بمتوسط مبلغ 27 دولار للتبرع، كانت متناقضة تماماً مع حملة كلينتون التي قامت في قوامها على الممولين من داعمي إسرائيل، ومن أبرزهم الصهيوني المتطرف، والمعادي للمسلمين، حاييم سابان.
وبخصوص موقفهما من رئيس الوزراء الإسرائيلي اليميني المتطرف بنيامين نتانياهو، فقد كان بيرني ساندرز أول من أعلن مقاطعته للخطاب الذي ألقاه نتانياهو في الكونجرس في 2015 ضد الاتفاق النووي الإيراني، وفي تصريح لاحق أعلن ساندرز أن نتانياهو لا يروق له وأن خطابه ذاك كان نوعاً من الانتهازية. أما هيلاري كلينتون، فقد تعهدت، خلال الانتخابات السابقة، بأن دعوة نتانياهو إلى البيت الأبيض ستكون ضمن أول الأمور التي ستقوم بها كرئيسة للولايات المتحدة. وفي معرض تعليقها على انتقادات ساندرز لإسرائيل خلال حربها على غزة في 2014، رفضت كلينتون انتقاد إسرائيل وألقت باللوم على حماس، بل وزعمت أن الضحايا المدنيين من الفلسطينيين لم يكونوا سوى مقاتلين تابعين لحماس، في تزييف بالغٍ للحقائق.
لم تكن تلك التصريحات سوى انعكاساً للتاريخ الطويل لكلينتون الذي لم يشهد، في أي مرحلة منه، سوى الانحياز المطلق للاحتلال الإسرائيلي وجرائمه. وذلك ما أكدته أيضاً مجلة صالون التي وصفت خطاب هيلاري أمام مؤتمر آيباك في 2016 – والذي امتنع ساندرز عن حضوره – بأنه كان خطاباً «مليئاً بالتزييف والهوس بالقوة والدعم الأعمى لإسرائيل والتجاهل الكامل لجرائمها». على المنوال نفسه، وقبل أيام من تصويت ولاية نيويورك – والتي يمثل الصوت اليهودي نسبة معتبرة فيها – لم يكن مستغرباً أن تلتزم كلينتون النهج نفسه في المناظرة الكبيرة التي جمعتها مع ساندرز في 14 أبريل 2016، لكن ما كان مثيراً للدهشة، بحسب مجلة نيويوركر، أن مدى انتباه ساندرز للحقوق الفلسطينية وأخذها بعين الاعتبار كان «خروجاً مُدهشاً عما هو متعارف عليه» في السياسة الأميركية بخصوص إسرائيل. فقد اعتبرت المجلة، ومعلقون آخرون، أن تحذير بيرني ساندرز من أنه «إذا لم تلعب الولايات المتحدة دور الوسيط النزيه، وإذا لم تأخذ في الاعتبار معاناة الشعب الفلسطيني، فإنه لن يكون هناك سلام على الإطلاق في الشرق الأوسط» أثبت أنه لا يزال هناك سياسيون يعلنون مبادئهم دون مواربة أو خوف، كما أثبت أن السياسة الأميركية تحوي الكثير من التابوهات التي يجب أن تتحطم.
هيلاري كلينتون، والتي رآها كثير من الناخبين في 2016 غير نزيهة وغير جديرة بالثقة، وكذلك دونالد ترامب، ربما يكونان آخر ما يتمناه المرء للعالم. فمهووسو استخدام القوة العسكرية واليمينيون الشعبويون ومن هم على شاكلتهم لم يجلبوا للعالم إلا الحروب والكساد والاضطرابات ودعم الديكتاتوريات والسلطوية. أما بيرني ساندرز، فقلة خبرته في السياسة الخارجية، كما يرى حميد دباشي، ربما تكون ميزة إضافية له بعيداً عن كل هؤلاء الذين كانوا طرفاً في القضية الفلسطينية وعقلياتهم حبيسة اتفاقيات بالية لم تقدم أي شيء حقيقي للفلسطينيين، كأوسلو وغيرها. وأخيراً، وصف بيرني ساندرز نفسه بأنه مؤيد لإسرائيل –وقد صارت عبارة نمطية يكررها كافة الساسة في واشنطن– لا ينفي حقيقة أنه قد أظهر، قولاً وفعلاً، اقتراباً من القضية الفلسطينية وتقديراً لمعاناة الفلسطينيين يتجاوز بشكل هائل صمت وعجز الرئيس السابق باراك أوباما، الذي ظن البعض، بشكل خاطئ، انه لن يدير ظهره لفلسطين، ناهيك عن ترامب، الصهيوني فعلاً وقولاً.
في الحقيقة، ما يفوق المرشح العجوز نفسه أهميةً بالنسبة للقضية الفلسطينية هو حملته الانتخابية الحالية وسابقتها. فتلك الحملة الانتخابية المتأججة والتي تجذب العشرات والعشرات من الالاف من الشباب باستمرار، والتي تقف خلف مرشحها «ضد النخبة الحاكمة سياسياً واقتصادياً» إن قُدِّر لها النجاح فأنها ستعزز وبلا شك قدرة التيار التقدمي الجديد -الذي يضم إلهان عمر وإلكسندريا كورتيز وغيرهما- على كسر الصمت وإعادة طرح الدعم الأميركي الأعمى لإسرائيل للنقاش العام والاستمرار في المنازلة الجريئة لمجموعات الضغط الصهيونية مثل آيباك -والتي امتنع عن حضور مؤتمرها السنوي لهذا العام العديد من مرشحي الحزب الديموقراطي البارزين في تطور غير مسبوق- وربما ضغوطاً أكبر على هذا الكيان المحتل وسياسة أكثر عدلاً من سابقاتها تجاه فلسطين. وفي الختام، يظل التغيير الذي يعبأ به، أو يتطلع إليه، وطننا الفلسطيني ليس تغييراً هناك في البيت الأبيض بل التغيير هنا في عالمنا العربي الذي لا يزال يعاني آلام المخاض منذ انطلاقة ثورات الحرية والديمقراطية في 2011 من دون أن يولد الغد الجديد.