بدأت مرحلة جديدة من الحراك الثوري في السودان يوم أمس الأحد، الرابع عشر من نيسان 2019، عندما أعلن تحالف قوى إعلان الحرية والتغيير، المظلة الأوسع لقوى الحراك السياسي والشعبي المعارض في السودان، أنه توصل إلى نقاط مشتركة مع المجلس العسكري الانتقالي برئاسة الفريق عبد الفتاح برهان، وذلك بعد جولتي تفاوض بين الطرفين مساء السبت وظهر أمس الأحد. وقد تبع هذا تصريحاتٌ من قيادة المجلس العسكري، أعلنت فيها موافقتها على تسلّم شخصية مدنية مستقلة قيادة المرحلة الانتقالية، وهو ما يمكن اعتباره انتصاراً جديداً لقوى المعارضة السودانية.
وكان الحراك الشعبي المتصاعد منذ كانون الأول/ ديسمبر الماضي، قد بلغ ذروته يوم السادس من نيسان/إبريل الجاري، عندما لبى مئات آلاف السودانيين والسودانيات دعوة تجمع المهنيين السودانيين، أحد أبرز قوى الحراك الشعبي، للبدء بمسيرات مليونية في العاصمة الخرطوم، والاعتصام أمام مبنى الأركان حيث تقع مكاتب قيادة الجيش السوداني، ليصل مئات آلاف المتظاهرين إلى ساحة القيادة العامة للجيش، وهو الأمر الذي دفع قيادة الجيش التي كانت قد أكدت سابقاً تأييدها للبشير، إلى تغيير موقفها، واعتبار أن المتظاهرين يحملون مطالب يجب الاستماع إليها.
خلال الأيام الأولى من ما بات يعرف بـ«اعتصام القيادة العامة»، حاولت قوات الأمن تفريق المتظاهرين بالقوة، ما أدى إلى شهداء ومصابين في صفوفهم، إلا أن جنوداً وصفَّ ضباط تابعين للجيش قاموا بالاشتباك مع قوات الأمن كما أظهرت تسجيلات مصورة، وهو ما أعطى انطباعاً واضحاً أن الحراك الثوري بدأ يحقق أحد أهدافه في دفع تيارات داخل النظام إلى التخلي عن البشير.
في يوم الخميس، الحادي عشر من نيسان/أبريل أوقف التلفزيون الرسمي بثه المعتاد، ليعلن عن قرب صدور بيان هام عن الجيش، ويقوم بعدها وزير الدفاع عوض بن عوف بإذاعة بيان أعلن فيه الإطاحة بالرئيس عمر حسن البشير، وتأسيس مجلس عسكري انتقالي برئاسته لإدارة البلاد خلال مرحلة انتقالية تمتد لسنتين، معلناً فرض حالة الطوارئ وحظر تجوال ليلي في البلاد، وهو ما بدا إعلاناً عن نية المجلس العسكري فضّ الاعتصام بالقوة. لكن المعتصمين وقادة الحراك الشعبي والسياسي، ومن بينهم تجمع المهنيين السودانيين والحزب الشيوعي السوداني، أكدوا في بيانات مشتركة رفضهم لما جاء في بيان الانقلاب، واستمرارهم في الاحتجاجات والاعتصامات حتى تحقيق مطالبهم.
وتتلخص أبرز مطالب قوى الحرية والتغيير في تشكيل حكومة انتقالية مدنية من الكفاءات، تُشرك الجيش في الحفاظ على السلم الأهلي وحماية عملية الانتقال الديمقراطي، بالإضافة إلى العزل السياسي لحزب المؤتمر الوطني الحاكم أيام البشير، والاستيلاء على كافة ممتلكاته وردّها لخزينة الدولة، وحلّ جهاز الأمن وقوات الدفاع الشعبي والمليشيات التابعة لحزب المؤتمر الوطني، والمحاسبة وتحقيق العدالة لشهداء الثورة وضحايا عمليات الإبادة التي نفذها نظام البشير خلال سنوات حكمه في عدة مناطق من السودان، وعلى رأسها إقليم دارفور.
وفي يوم الجمعة الفائت، أي بعد يوم واحد فقط من الإعلان عن تشكيل المجلس العسكري الانتقالي، أجبرت التظاهرات والاعتصامات السلمية المستمرة، ومن خلفها الموقف المتماسك الموحد لقوى المعارضة، رئيس المجلس العسكري الانتقالي عوض بن عوف على الاستقالة، وتعيين الفريق عبد الفتاح برهان رئيساً للمجلس العسكري. وتبع ذلك إعلان استقالة رئيس جهاز الأمن والمخابرات الوطنية صلاح قوش من منصبه، والأخير أحد الشخصيات الرئيسية التي قادت عمليات القمع ضد المتظاهرين خلال الثورة السودانية.
رفضت قوى المعارضة والحراك الشعبي البيان الجديد أيضاً، كما رفضت فضّ الاعتصام رغم الدعوات المتكررة من المجلس العسكري لاستعادة «الحياة الطبيعية»، وبالمقابل استخدم عبد الفتاح برهان خطاباً أكثر انفتاحاً على مطالب المعارضة والمتظاهرين، معلناً إلغاء قرار فرض حظر التجوال الليلي وإطلاق سراح جميع المعتقلين على خلفية الاحتجاجات، وهو ما مهّدَ الأجواء لبدء جولات من التفاوض بين ممثلين عن إعلان الحرية والتغيير والمجلس العسكري منذ مساء السبت الماضي.
وتستمر الاعتصامات والتظاهرات في مدن السودان حتى اللحظة، إذ يرفض المتظاهرون مغادرة الشوارع وساحات الاعتصام قبل التأكد من السير في عملية انتقالية حقيقية نحو الديمقراطية. وقد تم تنظيم مواكب لتكريم شهداء الثورة في عدد من المدن يوم السبت الماضي، من بينها الخرطوم التي توجه موكب الشهداء فيها إلى ساحة القيادة العامة، بانتظار نتائج التفاوض بين الجيش والقوى المدنية.
ويوم أمس، طالب المجلس العسكري القوى السياسية في السودان بالتوافق على اسم شخصية مدنية تتولى رئاسة الحكومة الانتقالية، ملقياً الكرة في ملعبها، وهو ما يمكن اعتباره امتحاناً لقدرة قوى المعارضة على الثبات على موقفها وتوافقها، وإدارة علاقاتها الداخلية، وفي الوقت نفسه إدارة الصراع السياسي مع المجلس العسكري وسائر القوى السياسية الأخرى، خاصة أن القوى السياسية التي يقصدها المجلس العسكري في دعوته تلك، ليست فقط قوى إعلان الحرية والتغيير، بل أيضاً الأحزاب السياسية التي كانت متحالفة مع حزب المؤتمر الوطني الذي يقوده البشير، والتي اجتمع بها المجلس العسكري يوم أمس الأحد 14 نيسان/إيريل أيضاً، بحضور ممثلين عن حزب المؤتمر الوطني نفسه، وهو ما أثار حفيظة قوى المعارضة والثورة، ودفع المجلس العسكري إلى تأكيد أن حزب المؤتمر لن يشارك في الحكومة الانتقالية رغم حضورة المشاورات.
يُبرز تسارع الأحداث في السودان، والتنازلات المستمرة التي يحاول الجيش تقديمها، مدى تنظيم القوى السياسية المعارضة التي استطاعت انتزاع اعتراف المجلس العسكري بها، وخوض الكفاح في ساحات التظاهر وميادين السياسة في سبيل الوصول إلى نظام ديمقراطي، بعد ثلاثين سنة من حكم «الإنقاذ»، وهو الاسم الذي يطلقه البشير على انقلابه الذي نفذه بالتعاون مع التيار الإسلامي عام 1989، والذي آل إلى أن يحكم البشير البلاد منفرداً لاحقاً، بعد أن أزاح في عام 1999 حليفه الرئيسي، السياسي والمفكر الإسلامي الراحل حسن الترابي.
وتلاحق محكمة الجنايات الدولية عمر البشير وعدداً من أركان نظامه، من بينهم وزير الدفاع المستقيل عوض بن عوف، بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، نفذّتها ميليشيات تتبع له في عدة مناطق من السودان، وعلى وجه الخصوص في إقليم دارفور غرب البلاد، الذي شهد إعمال إبادة وتهجير واسعة النطاق عام 2003. وقد طالبت منظمة العفو الدولية والأمم المتحدة المجلس العسكري الانتقالي بتسليم البشير للمحكمة الجنائية الدولية، وهو ما رفضته قيادة الجيش، مؤكدة أن محاكمته ستتم في السودان.
لا يزال الطريق نحو انتقال ديمقراطي في السودان طويلاً ووعراً، إذ أن المجلس العسكري الذي يُظهر مرونة عالية في مواجهة مطالب المعارضة والمتظاهرين، والذي كان ينوي أن يقود المرحلة الانتقالية منفرداً، قبل أن تنجح صلابة الحراك الشعبي في تغيير موقفه، لا يزال يمتلك أوراق قوة كبيرة تتمثّل في شبكات الولاء والانتفاع الواسعة المرتبطة به في صفوف الجيش وقوى الأمن والميليشيات ومؤسسات الدولة ورجال الأعمال، كما أنه يحظى بدعم معلن من السعودية والإمارات.
لكن يبقى أن أبرز عوامل فتح الطريق أمام الانتقال الديمقراطي، هي تماسك قوى المعارضة، ورفضها الحازم لاستفراد الجيش بقيادة المرحلة الانتقالية، ووضوح أجندتها ومطالبها، وقبل ذلك كلّه صمود المتظاهرين في الساحات، التي يسعى المجلس العسكري إلى إفراغها بوسائل شتّى، تبدأ من المناورة السياسية والإيحاء بأن مهمة إسقاط النظام قد أُنجزت، ولا تنتهي عند التلويح باحتمال استخدام القوة، من خلال استقدام مزيد من عناصر الجيش إلى محيط ساحة اعتصام القيادة العامة، والدعوة إلى إزالة المتاريس عن مداخلها.