في الفترة بين 2015 و2016، قام تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) بعملية تدمير ممنهج لمعالم مدينة تدمر الأثرية. طال الدمار معبدَي بِل وبعل شمين والمقابر البرجية وقوس النصر، بالإضافة إلى الواجهة الداخلية للمسرح الروماني. باختصار، تم تدمير كل ما يرمز للمدينة ويميّزها. لم تكن حادثة تدمر هي الأولى من نوعها من حيث استهداف المواقع التاريخية والأثرية في سوريا، إلا أنها تركت الأثر الأكبر في ذاكرة السوريين.
صدر بيان عن منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونيسكو) يصف عملية تدمير آثار تدمر بـ«التطهير الثقافي» (cultural cleansing)، الأمر الذي شكل نقلة نوعية في توصيف الجرائم ضد التراث العمراني، حيث لا يخفى على أحد الارتباط المعنوي بين هذا المصطلح ومصطلح التطهير العرقي (ethnic cleansing) الذي يستخدم للدلالة على جرائم الحرب التي تستهدف جماعة ذات خلفية عرقية معينة بغية تهجيرها من مكان ما أو إلغاء وجودها كلياً بحجة الحفاظ على التجانس العرقي لهذا المكان. كان وصف اليونسكو لعمليات داعش في تدمر على أنها تطهير ثقافي محاولة للضغط على المجتمع الدولي لإدراج الجرائم ضد التراث الثقافي تحت مظلة جرائم الإبادة الجماعية، الأمر الذي قد يؤدي إلى اتخاذ اجراءات عملية وأكثر جدية لحماية هذه الأماكن.
كان وصف اليونسكو لعمليات داعش في تدمر على أنها تطهير ثقافي محاولة للضغط على المجتمع الدولي لإدراج الجرائم ضد التراث تحت مظلة الإبادة الجماعية
تبدو قراءة ما سبق طبيعية ومتوقعة، فالجميع يعلم أهمية مواقع التراث الثقافي ولا حاجة لسرد ذلك حالياً. إلا أن مجموعة من الإشكاليات تبدأ بالظهور عند قراءة ما سبق في سياق الحرب السورية. في هذا السياق، كان من الصعوبة بمكان تجنّب المقارنة بين تدمر والمدن السورية الأخرى. تقدم هذه المقارنة – مقصودة كانت أم غير مقصودة – تجسيداً أوضح لجدلية العلاقة ما بين الماضي والحاضر، التقليدي والحديث، والتاريخي وغير التاريخي. عند مناقشة هذه الثنائيات، غالباً ما نقوم بتعريف أنفسنا والعالم المحيط بنا من خلال الانتماء إلى أحد الطرفين دون الآخر، إلا أنه بالتدقيق في طبيعة هذه العلاقة نجد أن المسافة الفاصلة بين طرفي الثنائية غير موجودة، أو صعبة الإدراك في أحسن أحوالها.
ممارسة مجتمعية أم حركة نخبوية؟
تَظهر الإشكالية الأولى في إدانة منظمات العناية بالتراث الثقافي للدمار الحاصل في تدمر وعدد من المواقع التاريخية دوناً عن غيرها من المدن والبلدات السورية، الأمر الذي يؤكد على المسافة بين التاريخي، المهم؛ وغير التاريخي الأقل أهمية. إن هذه الإشكالية لم تقتصر فقط على توصيف الدمار بل تجاوزته لتشكل الأساس لأي عملية إعادة إعمار.
تعود هذه النظرة التفريقية – إن صح القول – في فهم النسيج العمراني في جذورها إلى أساس ونشأة حركة الحفاظ المعماري (Architectural Conservation) التي تشكل في وقتنا الحالي القاعدة النظرية الجامعة لجميع النشاطات المتعلقة، بالتراث، كالترميم والتأهيل والإصلاح وأيضا إعادة الإعمار.
ولدت حركة الحفاظ المعماري في أوروبا في بداية القرن الثامن عشر، وتشربت وعكست قيم المناخ الثقافي السائد حينها، فتأثرت بمبادئ عصر المنطق (age of reason) والثورة السياسية في فرنسا والصناعية في انكلترا. في ذلك الوقت، تم تعريف التراث من منظار مادي بحت يقوم على الوقائع الحسية فقط، وهو ما تأثر بأفكار جمعيات الآثاريين (antiquarian societies). وبالتالي فإن القيمة التاريخية والجمالية لأي مكان شكلت المحدِّد الأبرز لقيمته الثقافية وسيطرت على تعريفنا للتراث العمراني وفهمه حتى وقتنا الحالي.
عند الرجوع إلى المواثيق الخاصة بنظرية الحفاظ المعماري، دائماً ما نتوقف عند القاعدة الناظمة لهذه النظرية وهي حماية الأهمية الثقافية (statement of cultural significance) لمبنى أو موقع معين. فعلى سبيل المثال عرف ميثاق بورا (Burra Charter) لعام 1999 الحفاظ المعماري بأنه عملية الاعتناء بمكان معين بغرض حماية أهميته الثقافية والحفاظ عليها. يقترح هذا التعريف أنه، لكي نحمي مكاناً ما، لا بد أن تكون له أهمية ثقافية معينة تميزه عن غيره من الأماكن. لكن ما الذي يعرّف الأهمية الثقافية، وكيف يمكن قياسها؟ قادت هذه الأسئلة إلى تطوير نظام لتقييم الأماكن، الأمر الذي نقل حماية وحفظ مبنى أو موقع ما من فعل تقليدي واستجابة طبيعية لتدهور حالته الفيزيائية إلى فعل ممنهج وحركة ثقافية ذات بعد نخبوي تستند على أفكار روادها. أحد هؤلاء الرواد كان وليام موريس (William Morris)، والذي رأى أن قرار حماية مبنى معين لا بد أن يتخذه أناس ذوو خلفية ثقافية وفنية. شكلت هذه العقلية الانتقائية حجر الأساس لحركة الحفاظ المعماري، ناقلةً قرار حماية وترميم البيئة المبنية من مالكي المكان وقاطنيه إلى الجهات الرسمية.
إن اعتماد الانتقائية في حركة الحفاظ المعماري، واحتكار قرار الحفاظ بيد قلة نخبوية، أدى إلى تحييد السكان في عملية الترميم وإعادة البناء، وإلى سلب حقهم الطبيعي في إدارة بيئتهم العمرانية وصنع القرار الخاص بها. كما أدى إلى فصل الارتباط العضوي ما بين المبنى وساكنه، وإلى كسر عفوية وسلاسة النمو الطبيعي للمدن. ففي تدمر، نجد أن المدينة شهدت الكثير من التغيرات العمرانية والمعمارية التي عكست المناخ الاقتصادي والسياسي والاجتماعي السائد في كل فترة زمنية، فمعبد بِل تغير استخدامه إلى كنيسة خلال القرن الخامس، ثم تحول إلى جامع في القرن الثاني عشر، وأخيراً إلى قرية تؤوي المئات في القرنين الثامن والتاسع عشر، قبل أن يتحول إلى صرح تاريخي ومَعلَم سياحي. كما أن آثار المدينة وأحجارها أُعيد تدويرها واستخدامها بشكل عفوي حسبما دعت حاجة ساكنيها، فاكتسبت قيمتها من خلال توظيفها لخدمة الأهالي.
أدت انتقائية حركة الحفاظ المعماري واحتكار قرار الحفاظ بيد قلة نخبوية إلى تحييد السكان في عملية الترميم وإعادة البناء
من جهة أخرى، هل يمكن اعتبار أية عملية تدمير للمواقع التاريخية كجريمة ضد الإنسانية وعملية تطهير ثقافي؟ ماذا عن التدمير المنفذ بأداة الحفاظ المعماري نفسه؟ بالعودة إلى حالة تدمر، وبالتركيز على معبد بِل وتتبّع تاريخه، نجد أن المعبد كان قد تعرض للعديد من عمليات التغيير في بنيته المعمارية والوظيفية. لعل أكبر هذه التغييرات وأكثرها قسوة كانت على يد الآثاريين الفرنسيين مطلع القرن العشرين، عندما احتضنت جدران المعبد آخر قرية تدمرية مبنية من الطوب الطيني على الطراز العثماني. في ذلك الوقت، سعى الآثاريون الفرنسيون إلى الحفاظ على ما اعتقدوا أنه يمثل وحدة الطراز المعماري (unity of style) متأثرين بأفكار المعماري فيوليه لو دوك (Viollet-le-Duc)، فاعتبروا أن القرية اعتداء على حرم المعبد. وهكذا قاموا بهدمها وتهجير أهلها إلى قرية مستحدثة خارج حدود المدينة الأثرية، الأمر الذي أدى لتحويل تدمر، وللمرة الأولى في تاريخها، من مدينة مأهولة يعيش قاطنوها داخل أبنيتها وبتناغم مع آثارها إلى متحف عمراني وأطلال خالية من الحياة. في هذا المثال نجد أن الحفاظ المعماري تحول من أداة حماية إلى أداة تدمير للمكان وتهجير لأهله.
هل التراث تاريخ فقط؟
تقودنا العلاقة الهرمية بين إعادة الإعمار وحركة الحفاظ العمراني من جهة، والطبيعة المادية والانتقائية التي تحكم نظرتنا للبيئة العمرانية من جهة أخرى، إلى الإشكالية الثانية.
فمنذ الأيام الأولى للحديث عن إعادة الإعمار، تم تصنيف النسيج العمراني المستهدف إلى نسيج تاريخي وآخر غير تاريخي. حظي الأول باهتمام المجتمع الدولي والمؤسسات والجهات الحكومية وأيضاً عامة الناس، فالجميع اتفق على ضرورة الاعتناء بالمواقع الأثرية في تدمر وحلب وحمص. وانهالت الدراسات والمقترحات من جميع المكاتب والهيئات المختصة، ودارت النقاشات واحتدّت حول الطريقة الأمثل لإعادة الإعمار، والتي يمكن تبسيطها بين مقترحين: ترك الآثار المدمرة شاهدة على ما حصل، أو إعادة بنائها كصورة عن حالتها قبل الدمار. لم يقدم المقترحان أي جديد في النظرة إلى المواقع التاريخية، حيث تمت مقاربتها من منظار طوباوي ومادي، وكأنها قطع أثرية تحتاج إلى الإصلاح. لست هنا بصدد مناقشة تعقيدات إعادة إعمار المناطق التاريخية، لكن لا بد من استخدامها للإضاءة على نوعية الاهتمام التي حظيت به تلك المناطق بالمقارنة مع المناطق غير التاريخية.
منذ الأيام الأولى للحديث عن إعادة الإعمار تم تصنيف النسيج العمراني المستهدف إلى نسيج تاريخي وآخر غير تاريخي، وقد حظي الأول اهتمام المجتمع الدولي فيما تم تسليم الثاني إلى شركات التطوير العقاري.
في الطرف الآخر، تم تسليم ملف المناطق غير التاريخية، وخاصة المناطق الفقيرة وغير المنظمة، إلى شركات التطوير العقاري المستحدثة على عجل من قبل البلديات وأصحاب النفوذ والمال. وتم استصدار عدد من المراسيم والقوانين لتوفير الخلفية القانونية لأية مشاريع مقترحة. تحمّست بعض المكاتب والشركات الهندسية المحلية والإقليمية لتقديم المقترحات العمرانية، وغصت مواقع التواصل الاجتماعي بتصورات مستقبلية لمناطق مثل تنظيم خلف الرازي غرب دمشق. تعاملت المقترحات المقدمة مع المناطق المتضررة كمساحات خالية من الأرض، يصول فيها المخططون ويجولون دون ضوابط أو حدود، ويمسحون المعالم المكانية لهذه المناطق كأنها لم توجد أصلاً. قدمت المقترحات الجديدة صوراً معمارية وعمرانية مستمدة من عمارة ما بعد الحداثة الخليجية (عمارة دول الخليج العربي في تسعينيات القرن العشرين وحتى وقتنا الحالي)، والتي ربما تخدع العين الغرّة وترسم سراباً لمدينة حديثة تنبثق من ركام الحرب. إلا أن تطبيق هذه المخططات، إن حدث، سيجعل من عودة الأهالي إلى أحيائهم بحكم المستحيل، بل إن مفهوم العودة هنا يصعب تخيله، فإلى أين تكون العودة، ولا منزل ولا حارة ولا دكان يُستدَل به؟ والعودة إن حصلت فستكون لمكان غريب بلا ذاكرة.
سواء كعملية تطوير عقاري أو كعملية حفاظ معماري، يتم النظر إلى إعادة الإعمار كعملية مادية بحتة، بلا أي بعد سياسي أو اجتماعي، وتتحول من وسيلة لتثبيت المصالحة والسلم الأهلي إلى جزء من الصراع نفسه.
إن الهدف من طرح الإشكالية السابقة هو الإضاءة على أهمية أي مكان، بغض النظر عن عمره أو قيمته المادية، فحتى في حال تصنيف الأماكن إلى مهم وغير مهم فإن هذه المفاضلة تقوم على طرفين لا يمكن إدراك أحدهما دون وجود الآخر. وبالتالي، حتى من وجهة نظر انتقائية تصبح كل الأماكن مهمة. هنا لا بد من التمييز بين المكان والفضاء، فالمكان بالتعريف هو فضاء ذو معنى، والمعنى يُكتسب من خلال التفاعل بين الناس والفراغ، وهو التفاعل الذي يحتاج إلى حيز زماني – بالإضافة إلى حيزه المكاني – كي يتحقق. بعض الأماكن لها أثر جمعي وتلمس حياة عدد كبير من الناس، كالمدارس والساحات العامة والأسواق؛ وبعض الأماكن لها أثر فردي كالمنازل، وبتفاعل هذه الأماكن مع بعضها البعض تتكون بيئتنا العمرانية وترتبط بها ذكرياتنا.
من جهة أخرى فإن إدراكنا للقيم غير الحسية، كالأثر الاجتماعي أو السياسي والقيمة الرمزية لمكان ما نتيجة ارتباطه بذكرى معينة، أدى إلى الدعوة إلى إدراج مجموعة من الأبنية والمواقع تحت مظلة التراث الثقافي رغم افتقارها للبعد التاريخي، الأمر الذي أدى لاحقاً لظهور مفهوم التراث الحديث. تظهر إشكالية الزمن لدى التمعن في معنى هذا التعبير، فعلى سبيل المثال، كيف يمكن أن نقيّم التراث الحديث؟ ومتى يمكن إطلاق تعبير «تراث» على عمل ما؟ فالإرث بالتعريف هو القيمة التي تُمرَّر من جيل مضى إلى جيل حاضر. لكن كيف يمكن أن نقيّم تراث جيل لم يمضِ، كعمل فنان لم يمت أو كتقاليد مجتمع ما زال قائماً؟ أين يمكن رسم الخط ما بين الماضي والحاضر، وما بين التقليدي والحديث، وهل يجب أن نرسمه في بادئ الامر؟ حاولَت كل من منظمة البيئة التاريخية في اسكتلندا وإنكلترا الإجابة على هذه الأسئلة من خلال تحديد إطار زمني يتم من خلاله تقييم عمل ما، أي في حال تجاوزه لعمر معين لا يقل عن الثلاثين عاماً، بينما حُدّد الإطار الزمني في كندا بأربعين عاماً.
أمام هذا المنطق المتضارب في فهم التراث الثقافي، يمكننا المجادلة بأن محاولات تقييم التراث العمراني وغير العمراني لم تستطع حتى الآن الوصول إلى صيغة منطقية محددة يمكن من خلالها البت بأهمية مكان ما. كل مكان – بغض النظر عن قيمته التاريخية أو الفنية – يحمل قيمة معنوية معينة. ولا يمكن إنتاج هذه القيمة بشكل مادي فقط، إنما تنمو وتتطور من خلال إشغال شخص أو جماعة لهذا المكان، كما أن إدراكنا لها يختلف باختلاف موقعنا من المكان كمستخدمين له أو كمراقبين. فالمكان كمفهوم يتوسط بين عالمين، فيزيائي، ملموس ومادي من جهة؛ ومجرّد، مُدرَك وروحي من جهة أخرى.
Aliaa Abou Khaddour, علياء أبو خضور
عن أية «إعادة» نتحدث؟
إن لمناقشة ما سبق أهمية بالغة، خاصة في ظل الحديث المتزايد عن إعادة الإعمار في سوريا، الأمر الذي يطرح الإشكالية الثالثة. فالجميع يعلم أنه عادةً ما يُعوَّل على إعادة الإعمار كأداة لترسيخ المصالحة والسلم بعد أي نزاع أو حرب. وإذا ما تغاضينا عن العيوب الكبيرة التي تشوب الرؤية الحالية لإعادة الإعمار في سوريا، أي افتقارها للبعد السياسي والاجتماعي المستند إلى مرحلة عدالة انتقالية وصلح اجتماعي، وحاولنا فقط التركيز على بعدها التقني، سنصطدم أيضاً بمجموعة من الجدران التي تمهد لمرحلة أعمق وأطول من النزاع والصراع والمظالم.
بعد مرور أكثر من عشرين عام على نهاية حرب البلقان، لم تستطع إعادة الاعمار تحقيق أي مصالحة حقيقية على مستوى التسوية الأهلية والاجتماعية
على سبيل المثال، بعد مرور أكثر من عشرين عاماً على نهاية حرب البلقان، لم تستطع إعادة الإعمار تحقيق أي مصالحة حقيقية. فباستثناء رمزية إعادة بناء وسط مدينة موستر، لم يتم إحراز أي إنجاز على مستوى التسوية الأهلية والاجتماعية هناك. في مثال آخر، والذي قد يكون الأقرب إلى الحالة السورية، نجد أن إعادة إعمار بيروت قامت بترسيخ الانقسام في المجتمع اللبناني، بل وعززتها مكانياً من خلال رسم حدود واضحة بين شرق المدينة المسيحي وغربها المسلم. فبعد توقيع اتفاق الطائف عام 1989، قامت الطبقة السياسية الحاكمة، والمشكَّلة بأغلبها من أمراء الحرب نفسهم، باستعجال إعادة الإعمار للالتفاف على عملية المصالحة الحقيقية. ففي ذلك الوقت لم تكن نهاية المعارك تعني نهاية الحرب. وقد عكست إعادة اعمار بيروت المناخ السياسي في لبنان القائم على المحاصصة، حيث تم تقسيم المدينة إلى ثلاثة قطاعات (القطاع الجنوبي، القطاع الشمالي، ووسط بيروت التجاري)، ليتولى القطاع الخاص الجزء الأكبر من عملية التخطيط والتنفيذ، وهو ما حيّد دور أهالي المدينة في المساهمة في إعادة بناءها. شكّل وسط بيروت التجاري المنطقة الأكثر حساسية نتيجة موقعه الجغرافي ودوره الأساسي كجامع لمختلف طبقات وأطياف المجتمع البيروتي واللبناني، وأيضاً لدوره الاقتصادي. عكست خطة إعمار وسط بيروت رؤية رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري في تحويل الوسط التجاري إلى مركز اقتصادي ومالي في الشرق الأوسط. وقد أدى تطبيق هذه الخطة إلى إعادة رسم حدود الملكية، في منافسة غير عادلة بين الملاك الصغار وشركات التطوير العقاري، كما أدى إلى تغيير واقع المكان ودوره في الذاكرة البيروتية وتحويله من ملتقى شعبي إلى كانتون مالي نخبوي. يمكن القول إن إعادة إعمار وسط بيروت قامت – بشكل متعمد أو غير متعمد – بإعادة إنتاج «صورة» المدينة وليس المدينة نفسها، وذلك بالتركيز على العامل البصري وباستخدام العمارة والتخطيط المديني كأداة لرسم الواقع المادي الجديد للمكان. إن التحول السريع في المشهد العمراني للمدينة حرم أهالي بيروت من فرصة تكوين أي ارتباط معنوي مع المنتج العمراني المستحدث، وما يزال البيارتة يتحدثون عن الوسط التجاري وأسواق بيروت الغائبة، والتي كانت هناك يوماً ما.
أعادت خطة إعمار وسط بيروت رسم حدود الملكية، وأدت إلى تغيير واقع المكان ودوره في الذاكرة البيروتية وتحويله من ملتقى شعبي إلى كانتون مالي نخبوي
على الرغم من التطور الحاصل في فهم نظرية الحفاظ المعماري، والأهمية المتزايدة المعطاة للتراث غير المحسوس، إلا أن هذا التطور لمّا ينعكس على مفهوم إعادة الإعمار، والذي تعرّفه حركة الحفاظ المعماري على أنه عملية إعادة المكان إلى صورته الأصلية مع التمييز بين الأصل والإضافة. يتناول هذا التعريف الصورة المادية والمحسوسة للمكان دون أي إشارة إلى قيمته المعنوية أو الاجتماعية. فما الغرض من إعادة بناء صورة مكان ما دون بناء العلاقة التي تربطه مع قاطنيه؟ تسمى هذه الإشكالية مشكلة الفراغ (problem of space)، وهي تناقش كيفية الربط ما بين المكان كبعد فيزيائي وملموس وما بين المجتمع كبعد مجرد. تطرح مناقشة إعادة الإعمار من هذه الزاوية سؤالاً عن كيف يمكن لإعادة الإعمار أن تقوم بإعادة إنتاج القيمة المعنوية للمكان المدمّر.
*****
ي.ب: مهندس معماري سوري. باحث في مجال تاريخ العمارة.