منذ بدء عمليات القمع العسكري، ارتكب النظام السوري وحلفاؤه العديد من الجرائم الدولية والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. شملت هذه الجرائم، حسب تقارير لجنة التحقيق الدولية المستقلة الخاصة بسوريا: القصف الجوي على مناطق خارجة عن سيطرة النظام، قتل المدنيين، تدمير ونهب الممتلكات، التهجير القسري، الاعتداءات الجنسية، الاعتقالات التعسفية، الإخفاء القسري، تدمير المنشآت المدنية والبنى التحتية، الحصار والتجويع، استخدام الأسلحة الكيماوية، وأخيراً اتفاقات «المصالحة» والإخلاء التي عقدها النظام مع بعض الفصائل المعارضة، والتي أدت إلى تشريد آلاف المدنيين.

اعتبرت العديد من التقارير أن ما يقوم به النظام السوري وحلفاؤه في بعض المناطق هو سياسة تغيير ديموغرافي، يتم تنفيذها عن طريق جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان مرتكبة على أسس تمييزية، مثل الانتماء الجغرافي أو الديني أو السياسي، بقصد التلاعب بالتركيبة السكانية السورية وتعزيز سيطرة النظام السوري في هذه المناطق. وبالمجمل، أدت هذه السياسة وفقاً لمفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين، إلى نزوح ما يقدر بنحو 5.6 مليون شخص من سوريا بحثاً عن الأمان، معظمهم لجأ إلى البلدان المجاورة كلبنان والأردن وتركيا، بالإضافة إلى حوالي 6.6 مليون نازح داخل سوريا.

بالإضافة إلى ذلك، قامت السلطة السورية خلال السنوات القليلة الماضية بإصدار قوانين عديدة، يُعتقد أن الغرض منها تعزيز سياسة التغيير الديموغرافي، وحرمان السكان المدنيين الذين ثاروا ضدها بشكل سلمي للمطالبة بحقوقهم المشروعة من ممتلكاتهم، وذلك عن طريق فرض قيود إدارية وإجرائية قد تؤدي إلى منع المهجرين من تسجيل ممتلكاتهم أو الاحتفاظ بها. وقد أشارت لجنة التحقيق الدولية في تقريرها الصادر في أيلول 2017 إلى أن هذه القوانين قد تؤدي في المستقبل إلى زيادة حرمان شرائح كبيرة من السوريين من حقوقهم، وأنها ستعقّد ما يُبذل من جهود من أجل الوصول إلى تسوية للنزاع وتحقيق المصالحة.

اليوم، ومع تغير الوضع العسكري على الأرض نتيجة سيطرة النظام السوري وحلفائه على معظم المناطق التي كانت تسيطر عليها الفصائل المعارضة، يزعم النظام وحليفته روسيا أن النزاع قد حُسم، وأن الأوضاع في سوريا أصبحت مواتية لعودة اللاجئين، وذلك في محاولة لحثّ المجتمع الدولي على المساعدة في دعم وإنعاش الاقتصاد السوري والمساهمة في عملية إعادة الإعمار، التي تقدر تكلفتها بما يتراوح بين 100 و400 مليار دولار حسب تقارير البنك الدولي. وهو ما يعني بالتالي تحويل تركيز المجتمع الدولي عن محاسبة مجرمي الحرب.

يتم الترويج لإعادة الإعمار كعملية تقنية، تشمل فقط إعادة إعمار الأبنية التي دمرتها الحرب، مع تجاهل جوانبها المتعددة التي تشمل أيضاً الإصلاح السياسي والاقتصادي والقانوني والاجتماعي، وجوب أن تبنى على أسس الديمقراطية والشفافية، بحيث تمنع استمرار الجرائم وانتهاكات حقوق الإنسان وارتكاب انتهاكات جديدة، وبحيث تؤدي بالنتيجة إلى خلق الظروف المواتية لعودة اللاجئين واستعادة أملاكهم وإعادة دمجهم في المجتمع.

لا بد من الإشارة هنا إلى أن الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي قد أعلنوا بشكل صريح عدم استعدادها للمشاركة في إعادة الإعمار ما لم يتحقق انتقال سياسي في سوريا. إلا أن ذلك لم يمنع دولاً أخرى من التعبير عن اهتمامها بالمشاركة، وهو ما ينطبق بشكل خاص على روسيا وإيران وبعض الدول المجاورة لسوريا، والتي تأمل تحقيق أرباح مالية طائلة جراء المساهمة في هذه العملية.

في ضوء ما سبق، تبرز تساؤلات عديدة حول دور القانون الدولي في عملية إعادة إعمار سوريا، خاصة في ظل سيطرة النظام وحلفائه على هذه العملية، واستمرار ارتكاب الجرائم الدولية وانتهاكات حقوق الإنسان؛ وستناقش هذه الورقة في قسمها الأول مدى توافق القوانين العقارية التي أصدرها النظام السوري في إطار عملية إعادة الإعمار مع القانون الدولي؛ فيما سيتناول القسم الثاني المخاطر القانونية التي قد تتعرض لها الدول والشركات الراغبة في المساهمة في عملية إعادة الإعمار في سوريا، بموجب القانون الدولي.

أولاً: توافق التشريعات العقارية مع القانون الدولي

أصدر النظام السوري خلال السنوات الماضية العديد من القوانين التي يمكن القول إنها تشكل الأساس القانوني لعملية إعادة الإعمار المزعومة في سوريا، كالمرسوم التشريعي رقم 40 لعام 2012 الخاص بإزالة مخالفات البناء؛ المرسوم التشريعي رقم 66 لعام 2012 القاضي بإحداث منطقتين تنظيميتين ضمن المصور العام لمدينة دمشق، المنطقة الأولى تضم جنوب شرق المزة من المنطقتين العقاريتين مزة وكفرسوسة، أما الثانية فتشمل جنوبي المتحلق الجنوبي من المناطق العقارية مزة وكفرسوسة وقنوات بساتين وداريا والقدم؛ المرسوم التشريعي رقم 19 لعام 2015 المتضمن إجازة إحداث شركات سورية قابضة مساهمة مغفلة خاصة بناءً على دراسات اجتماعية واقتصادية وتنظيمية، وذلك بهدف إدارة واستثمار أملاك الوحدات الإدارية أو جزء منها؛ المرسوم التشريعي رقم 23 لعام 2015 المتعلق بتنفيذ التخطيط وعمران المدن؛ المرسوم التشريعي رقم 12 لعام 2016 المتعلق بإعداد نسخة رقمية لوقوعات الحقوق العينية؛ القانون رقم 33 لعام 2017 المتعلق بتنظيم آلية العمل على تكوين الوثائق العقارية المتضررة كلياً أو جزئياً، أو التي ثبت فقدانها نتيجة الحوادث الطارئة، واعتبارها تتمتع بالقوة الثبوتية؛ المرسوم التشريعي رقم 3 لعام 2018 الخاص بإزالة أنقاض الأبنية المتضررة نتيجة أسباب طبيعية أو غير طبيعية، أو لخضوعها للقوانين التي قد تقضي بهدمها؛ وأخيراً القانون رقم 10 لعام 2018 الذي يسمح بإحداث مناطق تنظيمية جديدة في جميع أنحاء سوريا، مخصصة لمشاريع التطوير العقاري وإعادة الإعمار، وهو القانون الذي أثار جدلاً واسعاً دفع العديد من الدول إلى تقديم شكاوى إلى مجلس الأمن باعتباره يعيق عودة اللاجئين.

ومع بدء عملية إعادة الإعمار فعلياً في بعض المناطق، يبدو جلياً أن النظام السوري يستخدم إعادة الإعمار لتحقيق مصالحه السياسية والاقتصادية محلياً وإقليمياً، من خلال تطويع ومعاقبة المناطق التي ثارت ضده ومكافأة الدول الحليفة ونخب رجال الأعمال السوريين الذين قدموا له الدعم خلال السنوات الماضية. تتبدى هذه السياسة بشكل واضح من خلال الأحكام التمييزية التي تتضمنها بعض القوانين المذكورة أعلاه، وكذلك من خلال قيام السلطات السورية بمنح مشاريع إعادة الإعمار لحلفائها ولرجال أعمال سوريين معروفين بولائهم لها. بالإضافة إلى أنه يتم تنفيذ جميع هذه المشاريع في المناطق التي تعتبرها الحكومة مناطق معارضة، والتي تم تدميرها وقتل وتشريد غالبية سكانها المدنيين قسراً من قبل النظام والميليشيات الموالية له.

يتم حالياً تنفيذ أول مشروع تطوير عقاري، يُعرف باسم «ماروتا سيتي»، استناداً إلى القانون رقم 66 في منطقة بساتين الرازي (المزة) بدمشق، وهي من المناطق التي ثارت ضد نظام الحكم منذ 2011. وتشير التقارير إلى قيام عدد من رجال الأعمال والمستثمرين السوريين، الذين أسسوا مع الحكومة السورية شركة دمشق الشام القابضة، بتمويل هذا المشروع، إذ دخل رامي مخلوف، المشمول بقوائم العقوبات الأميركية والأوروبية، في المشروع عن طريق عدة شركات مملوكة جزئياً أو كلياً من قبله. وكذلك يساهم في المشروع رجل الأعمال السوري سامر فوز، الذي يعتبر أحد أبرز رجال الأعمال السوريين الذين ظهروا في سوريا بعد عام 2011، وهو معروف بارتباطه بالسلطة في دمشق. ولا بد من الإشارة إلى أن سامر فوز لم يكن مشمولاً بالعقوبات الغربية، وقد تمت إضافة اسمه مؤخراً إلى قائمة العقوبات الأوروبية. كما تم توثيق مشاركة عدد من رجال الأعمال السوريين بالاستثمار في هذا المشروع، مثل مازن ترزي وحيان قدور ومعن هيكل.

وفي السياق نفسه، يحضّر النظام للعديد من المشاريع استناداً للقانون رقم 10 لعام 2018، الذي يمكن اعتباره نسخة معدلة وموسعة من القانون رقم 66 لعام 2012، كونه يسمح بإنشاء مناطق تنظيمية في جميع أنحاء سوريا مخصصة لمشاريع التطوير العقاري. ويتطلب القانون رقم 10 أن يتمكن سكان المناطق التي يتم إعلانها مناطق تنظيمية جديدة من تقديم طلبات لإثبات ملكياتهم خلال مدة شهر من تاريخ الإعلان عن المنطقة التنظيمية، تحت طائلة فقدان الملكية في حال تعذر ذلك (المادة 2 فقرة 2-آ). وعندما يتعذر على المالكين إثبات ملكياتهم بشكل شخصي، فإنه يمكن للأقارب حتى الدرجة الرابعة أو للوكلاء القانونيين تقديم المطالبة نيابةً عنهم، ويحتاج الأقارب إلى إثبات علاقتهم بالمالك عن طريق الوثائق الثبوتية الرسمية، ويجب على الوكيل القانوني أن يستحصل موافقة أمنية من أجهزة الأمن السورية. وبالتالي فإن عدداً كبيراً من المالكين سيواجهون صعوبات كبيرة في إثبات ملكياتهم العقارية، سيما وأن عدداً كبيراً منهم قد نزح إما داخلياً أو خارجياً، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الكثير من المهجرين فقدوا وثائقهم الشخصية ومستندات الملكية الخاصة بعقاراتهم بسبب التهجير. علاوة على ذلك، فإن عدداً كبيراً من السكان قد قُتل أو اعتُقل أو فُقد. أضف إلى ذلك أن اشتراط الحصول على الموافقة الأمنية سيشكل​​ عقبة أمام المالكين للمطالبة بممتلكاتهم، لأنه من غير المرجح أن يتقدم المقيمون في المناطق التي كانت تحت سيطرة المعارضة بطلبات للحصول على تصريح أمني، بسبب خوفهم من انتقام الأجهزة الأمنية.

ومن المناطق التي سوف تخضع لإعادة إعمار استناداً للقانون رقم 10، وفقاً لما صرحت به الحكومة السورية، حي بابا عمرو في حمص، المعروف بأنه من أولى المناطق التي ثارت ضد الحكومة السورية، وكان قد تعرض لحملة عسكرية شرسة وحصار دام عدة أشهر، ما أدى إلى تدمير معظم الحي وتشريد غالبية سكانه المدنيين بشكل قسري. وفي هذا السياق، باشرت السلطات السورية بالتحضير لإعادة إعمار منطقتي القابون وجوبر في دمشق استناداً للقانون نفسه، وهي أيضاً من المناطق التي تعرضت للقصف والحصار من قبل قوات النظام، قبل أن يتم التوصل إلى اتفاق مصالحة مع الفصائل المسلحة المعارضة التي كانت تسيطر عليهما، والذي نجم عنه تشريد آلاف المدنيين بشكل قسري. وبالتالي فإنه من المرجح أن سكان هذه المناطق لن يكونوا قادرين على إثبات ملكياتهم وفقاً للشروط المنصوص عليها في القانون، بسبب الظروف السالف ذكرها.

وهنا لا بد من الإشارة إلى أن النظام أصدر في 6 تشرين الثاني 2018 القانون رقم 42، القاضي بتعديل مهلة التقدم بتصاريح الملكيّة وبادعاء الحقوق العينية، وجعلها سنة ميلادية كاملة بدءاً من تاريخ الإعلان عن المنطقة التنظيمية، إلا أن صعوبات إثبات الملكية المذكورة أعلاه تبقى موجودة رغم زيادة المدة، بالإضافة إلى أن القانون 42 لا يتضمن أي تعديل على أحكام القانون رقم 10، التي تسمح للوحدة الإدارية بالاقتطاع المجاني من الأراضي (المادة 2 الفقرة 11)، ولا على الآلية القسرية التي حددها القانون للتصرف بملكية الأسهم من قبل المالكين، وفق طرق ومدد محددة سلفاً تمنح المالكين ثلاث خيارات للتصرف بحصصهم؛ إما عن طريق تسجيل المقسم بأسمائهم والحصول على حصة من أرباح إعادة الإعمار، أو إنشاء شركة مساهمة مع مالكي حصص آخرين لبناء وبيع واستثمار المقاسم، أو بيع حصصهم بالمزاد العلني (المادة 2 الفقرة 17). وكذلك، لم يعالج التعديل القصور الموجود في الأحكام المتعلقة بالسكن البديل (المادة 2 الفقرة 24)، وهي أحكام تشكل انتهاكاً صارخاً لحق الملكية الذي يكفله الدستور (مادة 15) والقانون الدولي.

وأخيراً، قامت محافظة ريف دمشق بمنح العديد من العقود لشركة الإنشاءات العسكرية والشركة العامة للطرق والجسور استناداً للقانون رقم 3 لعام 2018 (المتعلق بإزالة الأنقاض)، وهي عقود تتجاوز قيمتها ثلاث مليارات ليرة سورية (6 مليون دولار)، لإزالة الأنقاض من شوارع المدن المدمرة في ريف دمشق. وكذلك تم منح عقود مشابهة من قبل محافظة حلب ومحافظة حمص تقدر بمئات ملايين الليرات. ومن المرجح أن يسهم هذا القانون بشكل كبير بنهب الأملاك والمقتنيات الخاصة، إذ لن يتمكن العديد من أصحاب العقارات المهدمة والمشمولة بهذا القانون من تقديم طلبات إثبات ملكيتهم خلال المدة القصيرة نسبياً التي حددها القانون (30 يوماً من تاريخ إعلان قرار المحافظ الذي يحدد المناطق العقارية والمباني المتضررة المشمولة بهذا القانون).

والواقع أن الشروط الإجرائية التي تتضمنها هذه القوانين للمطالبة بالملكية، مجتمعة مع التوقيت والسياق السياسي الذي صدرت فيه، ترجّح بشكل كبير أن الغاية الأساسية منها هي معاقبة المدنيين الذين يعتبرهم النظام معارضين له والاستيلاء على أملاكهم. إن جميع المناطق التي يشملها المرسوم 66 شهدت حراكاً مدنياً سلمياً ضد النظام الحاكم للمطالبة بالحقوق الأساسية التي تكفلها القوانين والمعاهدات الدولية، قبل أن تخضع لاحقاً لسيطرة الفصائل المعارضة، في حين لم تكن المناطق العشوائية الأخرى التي يسكنها موالون للنظام مشمولة بأحكام المرسوم. وكذلك فإن معظم المناطق التي يجري التحضير لإعادة إعمارها استناداً للقانون رقم 10 أيضاً شهدت حراكاً سلمياً منذ بداية الثورة، كما ذُكر أعلاه.

إضافة إلى ذلك، لو افترضنا أن الغاية من هذه القوانين هي التنظيم العمراني للمناطق العشوائية، فالسؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا لم يتم فعلاً تنظيم هذه المناطق من قبل، سيما وأن مشكلة العشوائيات في سوريا قديمة، وقد تم عقد العديد من المؤتمرات وإعداد كثير من الدراسات بشأنها قبل عام 2011؟ وبالتالي يبدو واضحاً أن هذه القوانين مدفوعة سياسياً، ومن المرجح أن تنتهك حق سكان المناطق المذكورة في الملكية وفي السكن اللائق المحمي بموجب القانون الدولي، وبالتالي قد تشكل عقبة حقيقية أمام عودة اللاجئين إلى ديارهم واستعادة أملاكهم.

وفقاً للقانون الدولي، يعتبر حق اللاجئين والمهجرين في العودة الطوعية إلى منازلهم قاعدة من قواعد القانون الدولي العرفي، تم النص عليها وتأكيدها في العديد من معاهدات حقوق الإنسان الإقليمية والدولية، بما في ذلك الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (المادة 12) والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (المادة 13)، اللذين ينصان صراحة على حق كل فرد في مغادرة أي بلد بما في ذلك بلده والحق في العودة إلى بلده. إضافة إلى ذلك، فإن حق اللاجئين في العودة الطوعية إلى أوطانهم مكرّس أيضاً في المادة (5/د/2) من الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري، التي تؤكد أيضاً على حق كل فرد في العودة إلى بلده دون تمييز بسبب العرق أو اللون أو الأصل القومي أو العرقي.

في السياق نفسه، يقر القانون الإنساني الدولي، الذي ينطبق على أوقات النزاعات المسلحة فقط، بحق اللاجئين والنازحين في العودة إلى منازلهم وأماكن إقامتهم المعتادة بمجرد انتهاء أسباب النزوح، ويُعدّ هذا الحق قاعدة من قواعد القانون الإنساني الدولي العرفي التي تطبق في النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية على حد سواء (القاعدة 132، دراسة اللجنة الدولية للصليب الأحمر بشأن القانون الدولي العرفي). وتفرض هذه القاعدة التزاماً على الدول باتخاذ جميع التدابير الممكنة لتسهيل العودة الطوعية والآمنة للاجئين والنازحين، وإعادة إدماجهم وتوفير الاحتياجات الأساسية لهم. وقد تم التأكيد على حق اللاجئين في العودة في العديد من قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن، على سبيل المثال القرارات التي تؤيد عودة اللاجئين إلى كرواتيا والبوسنة ورواندا. كما تم الاعتراف بحق العودة في العديد من اتفاقات السلام، كاتفاق دايتون الذي وضع نهاية للنزاع في البوسنة والهرسك.

مع ذلك فإن تنفيذ هذا الحق ليس سهلاً من الناحية العملية، إذ يرتبط حق العودة ارتباطاً وثيقاً بحق الملكية، بحيث لا يمكن العمل على إعادة اللاجئين دون ضمان حقهم في استعادة أملاكهم. وبالتالي، من أجل حماية حق اللاجئين والنازحين داخلياً في العودة بشكل فعال، فإنه يجب إيلاء قدر كبير من الاهتمام لحماية حقوقهم في استعادة أملاكهم خلال عملية إعادة الإعمار. فالدول ملزمة بموجب القانون الدولي بحماية حقوق الملكية لجميع اللاجئين والنازحين داخلياً. وتستند هذه الحماية إلى الحق في السكن الملائم المنصوص عليه في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (المواد 17 و25) والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (المادة 11). ويفرض هذا الحق التزاماً على الدول، ليس فقط بحماية الأفراد من التهجير القسري والتدمير التعسفي لممتلكاتهم، وإنما أيضاً ضمان حق اللاجئين والنازحين داخلياً في استرداد ممتلكاتهم أو الحصول على التعويض الملائم في حال كان الاسترداد مستحيلاً من الناحية العملية.

ولا بد من الإشارة في هذا الصدد إلى أن الصلة الوثيقة بين حق اللاجئين في العودة وحقهم في حماية واسترداد ممتلكاتهم، تظهر بشكل جلي وواضح في مبادئ الأمم المتحدة بشأن السكن واستعادة أملاك اللاجئين والنازحين (تعرف باسم مبادئ بينهيرو) التي اعتمدتها اللجنة الفرعية للأمم المتحدة المعنية بحماية حقوق الإنسان وتنميتها في عام 2005، حيث تعتبر هذه المبادئ الصيغة الأكثر شمولاً وصراحة ومنهجية لمفهوم حق اللاجئين في العودة الطوعية واستعادة أملاكهم في فترة ما بعد انتهاء النزاع كحق مستقل بذاته، وتقدم هذه المبادئ دليلاً قانونياً مفيداً لتقييم مدى توافق عملية إعادة الإعمار والقوانين العقارية التي صدرت في سوريا مع القانون الدولي. وعلى الرغم من أن مبادئ بينهيرو ليست معاهدة دولية ملزمة، إلا أنه قد تم اعتمادها والعمل بها من قبل العديد من الدول والهيئات والمحاكم الدولية، ما يعطيها قوة قانونية على الصعيد الدولي.

تنص مبادئ بينهيرو على حق جميع اللاجئين والنازحين في العودة طواعية إلى منازلهم أو أراضيهم أو أماكن إقامتهم السابقة (المبدأ 10)، كما تنص أيضاً على حق جميع اللاجئين والنازحين في استعادة أي مسكن أو أرض أو ممتلكات تم حرمانهم منها بصورة تعسفية أو غير قانونية، أو تعويضهم إذا قررت محكمة مستقلة ونزيهة أن الاستعادة مستحيلة في الواقع (المبدأ 2 الفقرة الأولى). وكذلك تؤكد المبادئ على التزام الدول باحترام حقوق المستأجرين وغيرهم من الشاغلين القانونيين للعقارات (المبدأ 16). بالإضافة إلى ذلك، فإن مبادئ بينهيرو تنصّ صراحة على عدم جواز اعتماد الدول لقوانين تؤثر على حق اللاجئين في استرداد أملاكهم، كإصدار قوانين تعسفية أو تمييزية أو غير عادلة (المبدأ 19)، كما هو حال القوانين العقارية التي صدرت في سوريا.

وأخيراً، لا بد من الإشارة أيضاً إلى أحد القواعد المستقرة في القانون الدولي، وهي أنه عندما تنتهك دولة ما التزاماتها بموجب القانون الدولي، تكون هذه الدولة ملزمة بجبر الأضرار عن طريق إعادة الحال إلى ما كان عليه قبل وقوع الضرر، أو التعويض عند استحالة ذلك. ويُعدُّ هذا الالتزام قاعدة من قواعد القانون الدولي العرفي (قاعدة 150 من دراسة اللجنة الدولية للصليب الأحمر). وتتجلى هذه القاعدة صراحةً في المبدأ 13 من مبادئ بينهيرو. ويُنظر إلى الإعادة على أنها شكل من أشكال العدالة التصالحية، التي يتم من خلالها إعادة الأفراد أو مجموعات الأشخاص الذين يعانون من ضرر، نتيجة لإخلال الدولة بالتزاماتها بموجب القانون الدولي، قدر الإمكان إلى الحال الذي كانوا عليه قبل حصول الضرر.

ولما كانت السلطة السورية قد أخلت ابتداءً بالتزامها المفروض عليها بموجب القانون الدولي، الذي يحرّم التشريد القسري والتدمير التعسّفي للممتلكات المدنية، فإنها تكون ملزمة بموجب القانون الدولي بتسهيل استرداد الأفراد لممتلكاتهم خلال فترة ما بعد انتهاء الحرب وأثناء إعادة الإعمار، وفي حال تعذر ذلك فإنها ملزمة بدفع تعويضات عادلة للمتضررين.

وبالتالي، فإن السلطات السورية ملزمة بموجب القانون الدولي باتخاذ جميع التدابير والإجراءات الممكنة لحماية حقوق الملكية لجميع اللاجئين والنازحين داخلياً خلال عملية إعادة الإعمار، وذلك من أجل تسهيل وتيسير عملية عودتهم بشكل آمن، ويشمل هذا الالتزام عدم إصدار قوانين تمييزية تنتهك هذه الحقوق. وهذا ما لم يفعله النظام حتى الآن، إذ أكدت مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين أكثر من مرة أن ظروف عودة اللاجئين والمهجّرين السوريين ليست مواتية بعد، لأن السلطات السورية لم تقم بتنفيذ التزاماتها الدولية المتمثلة بخلق الظروف اللازمة وتقديم الضمانات الحقيقية من أجل عودة آمنة وكريمة لهم.

بناءً على ما سبق، فإن إصدار قوانين عقارية كالقانون رقم 10 والقانون رقم 66 المذكورين أعلاه يشكل إخلالاً بالتزامات النظام السوري المنصوص عليها في القانون الدولي، ولا سيما لجهة احترام وحماية حق اللاجئين والنازحين في العودة إلى بلداتهم وقراهم، وحقهم في استرداد أملاكهم وعقاراتهم والحصول على التعويضات المناسبة في حال تعذر ذلك. بعبارة أخرى، فإن عملية إعادة الإعمار، يجب أن تتوافق مع ما تقتضيه القوانين والمواثيق الدولية، بشأن العودة الطوعية للاجئين واستعادة أملاكهم التي نُزعت منهم بشكل تعسفي أو غير قانوني، والتي تضمن حقهم في الحصول على التعويض المناسب في حال كانت استعادة العقارات مستحيلة من الناحية العملية. بحيث تؤدي عملية إعادة الإعمار بالنتيجة إلى إعادة إدماج اللاجئين والمهجرين وتفعيل دورهم في مجتمعاتهم، وليس مجرد إعادة إعمار للأبنية فقط.

ثانياً: المخاطر القانونية التي تواجه الدول والشركات المساهمة في إعادة إعمار سوريا

لا شكّ أن إعادة الإعمار في سوريا قبل انتهاء النزاع بشكل كامل، وفي ظل سيطرة النظام السوري وحلفائه ونخب رجال الأعمال السوريين الموالين له، سيعرّض الدول والشركات المشاركة فيه إلى مخاطر قانونية كثيرة. وبعبارة أخرى، فإن الجهات المساهمة في إعادة الإعمار ضمن هذه الظروف ستواجه خطر الاتهام بالمشاركة أو المساعدة في الجرائم المرتكبة من قبل النظام وحلفائه في سوريا، أو ستتعرض لخطر الاتهام بالمشاركة في تعزيز الجرائم الدولية التي ارتكبت سابقاً، عن طريق إعادة إعمار المناطق التي ارتُكبت فيها الجرائم من قبل الأطراف المذكورة، على سبيل المثال.

من الممكن تحميل الشركات التي تشارك في صفقات تجارية ذات صلة بإعادة الإعمار، مع النظام أو غيره من مرتكبي الجرائم الدولية، المسؤولية القانونية عن المساعدة في تمويل هذه الجرائم، حتى وإن كانت هذه الشركات لا تعلم كيف سيتم استخدام الأموال الناجمة عن هذه الصفقات، إذ يكفي فقط إثبات وجود هذه الأموال التي تسمح لمرتكبي الجرائم بالاستمرار في جرائمهم. وعلاوة على ذلك، قد يتعرض ممثلو الشركات المساهمة في عملية إعادة الإعمار للمساءلة بموجب القانون الجنائي الدولي إذا كانوا يعلمون أن أفعالهم سوف تسهّل أو تشجّع أو تقدّم دعماً مادياً أو معنوياً للنظام وحلفائه في ارتكاب الانتهاكات والجرائم الدولية.

في السياق السوري، يمكن لمجرد تقديم المساعدة المالية للحكومة السورية أو للأطراف المتهمين بارتكاب جرائم دولية وانتهاكات لحقوق إنسان أن يُعتبر سلفاً تمويلاً لانتهاكات قانونية وجرائم دولية، حيث أن حجم الجرائم المرتكبة في سوريا كبير ومعروف بشكلٍ كافٍ لدرجة أنه لا يمكن لأي دولة أو شركة أن تدعي عدم المعرفة بها. أي إن الدول والشركات المشاركة في إعادة الإعمار قد تغدو متورطة في جرائم دولية في حال قامت بتزويد مرتكبي هذه الجرائم الرئيسيين (الحكومة السورية، روسيا، إيران، نخب رجال الأعمال السوريين) بالوسائل التي تساعدهم على ارتكاب هذه الجرائم، ويشمل ذلك توفير البضائع، الخدمات، المعلومات، الأمور اللوجستية، الدعم المالي… وكلما كانت المساعدة التي تقدمها الشركة مباشرة كان إثبات مسؤوليتها عن الجرائم أسهل.

هنالك العديد من السوابق القضائية الدولية التي تؤكد على المسؤولية القانونية في هذا الصدد، فعلى سبيل المثال، خلال محاكمات نورمبيرغ في أعقاب الحرب العالمية الثانية، تمت إدانة شخص يدعى فريدريك فليك بتهمة مساعدة «فرق الحماية» (إس إس)، وهي منظمة نازية شبه عسكرية. وقد كان فليك رجل أعمال وعضواً في مجموعة «أصدقاء هملر»، التي كانت تضم رجال أعمال يجتمعون بعناصر القطع العسكرية النازية. وعلى الرغم من الأدلة التي تقول إن فليك وغيره لم يكونوا مدركين بشكل كامل لحجم جرائم هذه الفرق النازية خلال السنوات الأولى، إلا أن المحكمة رأت أن حجم الجرائم المُرتكبة كان معروفاً بشكل كافٍ لدرجة أنه كان على فليك وغيره أن يعلموا بها. وقد انتهت المحكمة في قرارها إلى أن المساعدات المالية الذي قدمها فليك ومدعىً عليه آخر (10% من حجم التبرعات التي قدمتها مجموعة أصدقاء هملر) تعتبر مبلغاً كبيراً بما يكفي لتحميله مسؤولية مساعدة الفِرق في جرائمها.

كذلك، أكدت الاجتهادات القضائية الصادرة عن المحاكم الجنائية الدولية أن المسؤولية القانونية قد تترتّب على المشاركة أو التواطؤ في الجرائم الدولية حتى بعد حدوث هذه الجرائم. ففي قضية بلاغويفيتش ويوكيتش، على سبيل المثال، انتهت المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغسلافيا إلى اتهام المدعى عليهما في المساعدة بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية لتقديمهما الدعم اللوجستي بعد الهجمات على سيربينيتشا عام 1995، إذ قام كل من بلاغويفيتش ويوكيتش بتوفير الأدوات والأشخاص للمشاركة في حراسة وترحيل الضحايا، بالإضافة إلى المساعدة في دفن هؤلاء الضحايا أيضاً في أعقاب الهجمات.

تعطي هذه السوابق القضائية الدولية مثالاً عن الأنشطة التي يمكن أن يترتب عليها مسؤولية قانونية للجهات المهتمة بإعادة الإعمار في سوريا. فقد لا تكون الدول أو الشركات منخرطة بشكل مباشر في أنشطة جنائية، إلا أن توفير الدعم الذي قد يمكّن مجرمي الحرب من مواصلة أعمالهم الإجرامية أو تعزيز جرائمهم السابقة قد يرتّب مسؤولية قانونية.

وبناءً عليه، فإن الدول أو الشركات التي تشارك في إعادة إعمار المناطق التي تم تدميرها وتشريد سكانها قسرياً قد تتعرض لخطر المسؤولية القانونية عن جرائم التهجير القسري للمدنيين واستهداف المدنيين والأعيان المدنية التي ارتكبها النظام السوري وحلفاؤه في هذه المناطق. كذلك، قد تواجه الدول أو الشركات المساهمة في إعادة الإعمار خطر المشاركة والتواطؤ في جرائم الاعتقال التعسفي والاختفاء القسري والتعذيب واستخدام الأسلحة الكيماوية ونهب الممتلكات الخاصة، في حال دخلت في شراكات تجارية مع مرتكبي هذه الجرائم، مع إدراك الجهات المساهمة في إعادة الإعمار لدور مرتكبي هذه الجرائم. فالدخول في شراكات تجارية مع مرتكبي الجرائم الدولية قد يُنظر له على أنه توفير الوسائل اللازمة للجناة لمواصلة جنايتهم، سواء عن طريق تزويدهم بالأموال أو أي وسيلة أخرى قد تساعدهم في ارتكاب الجريمة.

Aliaa Aboukhaddour - علياء أبو خضور
Aliaa Aboukhaddour – علياء أبو خضور

خاتمة

تجادل هذه الورقة في أن القوانين العقارية التي أصدرتها السلطات السورية في إطار عملية إعادة الإعمار المزعومة هي قوانين تمييزية ومدفوعة سياسياً، الهدف منها معاقبة المدنيين في المناطق التي انتفضت سلمياً ضد الحكومة السورية. وهي تتعارض مع الالتزامات التي يفرضها القانون الدولي على الحكومة السورية، وخاصة لجهة احترام وضمان حق المهجّرين في العودة وحقهم في استعادة أملاكهم. وبالتالي فإن الاعتماد عليها كأساس قانوني لعملية إعادة الإعمار سيؤدي إلى استمرار وتعزيز الجرائم الدولية وانتهاكات حقوق الإنسان المرتكبة، كما سيخلق بيئة ملائمة لارتكاب جرائم دولية وانتهاكات حقوقية جديدة من جانب الدول والشركات المحلية والأجنبية التي ستساهم في إعادة الإعمار. وهذا لا شك سيشكل عائقاً حقيقياً أمام عودة اللاجئين واستعادتهم لأملاكهم، وسيعرقل أي جهود لتحقيق سلام مستدام في سوريا.

لا تعني عملية إعادة الإعمار إعادة إعمار الأبنية المدمرة فحسب، بل هي عملية معقدة وشاملة ومتعددة الأبعاد، يجب أن تتم على أسس من الديمقراطية والعدالة والمساواة، وأن تشمل تحقيق الإصلاح السياسي والاقتصادي والقانوني والاجتماعي، وأن تمنع استمرار ارتكاب مزيد الجرائم الدولية وانتهاكات حقوق الإنسان، بحيث تؤدي بالنتيجة إلى تأمين عودة النازحين واستعادة أملاكهم، وإلى توفر الشروط الملائمة لإعادة إدماجهم في المجتمع، وفي النهاية إلى تحقيق السلام المستدام في سوريا، وكل ذلك مما لا يمكن تصوره في الوضع الحالي.

باختصار، إن المساهمة في عملية إعادة الإعمار من قبل الدول والشركات قبل انتهاء النزاع المسلح بشكل كامل، واستناداً إلى القوانين العقارية الحالية، وفي ظل سيطرة النظام وحلفائه ونخب رجال الأعمال السوريين المرتبطين به والمسيطرين على جميع مفاصل إعادة الإعمار، بالإضافة إلى أنها تشكل انتهاكاً لحقوق النازحين واللاجئين في العودة وفي الملكية، ستساهم أيضاً في دعم رواية الحكومة السورية بأن النزاع قد حُسم، وبأن الوضع أصبح جاهزاً من أجل عودة آمنة وكريمة للاجئين والمهجرين. وهو سيؤدي أيضاً إلى تقويض الجهود الرامية إلى محاسبة المتورطين في الجرائم الدولية وانتهاكات حقوق الإنسان المرتكبة في سوريا.

*****

مهند شراباتي: محامي سوري. حاصل على ماجستير في القانون الدولي لحقوق الإنسان من جامعة لوند ومعهد راؤول والينبرغ لحقوق الإنسان والقانون الإنساني في السويد. ويعمل حالياً كباحث قانوني في وحدة حقوق الإنسان والأعمال التجارية التابعة للبرنامج السوري للتطوير القانوني، والتي تهدف أساساً لضمان احترام وصون حقوق الإنسان خلال عملية إعادة الإعمار في سوريا.