المدن مرايا لأناسها، برغباتهم وبجوانبهم المضيئة والمظلمة. فهي تركيبات من هويّات متمايزة وكينونات حيّة لا تتوقّف عن التغيّر، تقصّ علينا حكايا أزمنة انكشف بعضها وما زال بعضها الآخر مستوراً؛ حكايات ذكريات وأنظمة منسية.
وحتى نتمكن من سبر المدينة – ذلك الكيان الذي يعيش فيه أكثر من 55% من سكان العالم – ونستطيع إدارتها بأفضل السبل، جاء تخطيط المدن كأداة تنظّم حياة النّاس وتروج لبيئة مبنيّة تشمل الجميع وتحقق حياة عادلة وآمنة. فكما تقول ساندركوكليوني ساندركوك (1949) أكاديمية ومخططة عمرانية أسترالية، تركز أبحاثها على التخطيط المجتمعي والتعددية الثقافية.:
«التخطيط المديني مشروع اجتماعي دائم لا يكتمل، مهمّته إدارة تعايشنا في الفراغات المشتركة للمدن وللأحياء بطريقة تدعم وتثري الحياة البشرية، وبهدف الوصول إلى عدالة اجتماعيّة وثقافيّة وبيئيّة».
بدأت بكتابة بحثي هذا بعدما لمست عن قرب أهميّة المشاعر والعواطف والعقائد في حياتنا، وكيف تتجسّد لتصبح حقيقة تنعكس على المكان نفسه، فيما تتجسّد السلطة في معان مختلفة لتصبح حقيقة نعيشها.
بدأ ذلك بأسطورة شعبيّة تناقلها السوريون عن حافظ الأسد، وكيف كان يراقب الجميع من شرفة قصره المطلّة على مدينة دمشق، وأنّ هناك مدافع جاهزة دائماً في حال قام السوريون بأيّ ثورة. أثارت هذه الأسطورة الشّعبيّة فزعي، وأظنّ أنّها تسربت إلى عقولنا وتشرّبناها بدون وعي فأصبحت حقيقة غير معلنة.
في مقالتي هذه أكتب عن مدينة دمشق، وعن تصوري لعملية التّخطيط فيها وكيف تجسّد الكثير من الأمور غير المحسوسة.
العمران والسلطة
في خضم صراعات القوى المختلفة، تأتي الحرب كأهم دافع لحركة المدن وقواها المتغايرة، جالبةً معها شؤون التحصين والمراقبة والأمن والسيطرة.
كانت الحرب جزءاً من حياة الناس تاريخياً، وكانت طريقتهم للدفاع عن مدنهم وحكامهم، فيما كان غزو المدن المجاورة يؤمن النمو المستمر لهذه المدن ونمو هيمنة قادتها.
وبحسب لويس مامفوردلويس مامفورد (1895-1990) مؤرخ وعالم اجتماع أميركي تناولت أعماله قضايا التكنولوجيا والحضارة المدينية الحديثة. فإن كل مدينة هي في حالة حرب طبيعية مع المدن الأخرى، لكنها في الوقت نفسه في حالة دفاع عن النفس، تتمظهر في التحصينات والحماية من الأعداء، وفي استخدام آليات دفاع وتقنيات مراقبة تطور من خلالها أنظمتها العسكرية.
تهدف هذه الآليات لإدامة الأمن في المدينة، ولبث الطمأنينة الناجمة عن توفير حدود محمية. وقد كانت أسوار المدينة أولى دلالات حماية الحدود عبر التاريخ، بالإضافة للبوابات المحروسة ونوافذ المراقبة والغرف المطلة على تلك البوابات، والتي كانت تقرّر دخول وخروج الناس، وتفصل بين سكان المدينة والغرباء عنها.
لم تقتصر المدن على كونها ساحة للمعارك والحروب فقط في عصرنا الحالي، وإنما عملت كوكالة ووسيلة للحرب ونشاطاتها، فبتمدّن العالم وفراغاته تمدنت الحرب أيضاً. وبذلك تكون البيئة المعمورة مشهداً مدينياً للهيمنة، ومكاناً لممارسة القوة/السلطة، ولتجلّي الشعور بالخوف، ولوضع الجماعات غير المرغوبة أو العناصر المصنّفة «مهددة» أو «مخربة» تحت السيطرة.
نظم القوة والتأديب
تتواجد القوّة في كلّ مستويات التراكيب الاجتماعيّة، يحوزها البعض ويتخلى عنها البعض الآخر. والقوّة التي تمتلكها سلطة حاكمة هي نوع من التّحكّم الذّي تمارسه على النّاس، بعضها يستخدم لبناء القدرات والتّنظيمات، والبعض الآخر لهدمها، خاصّةً عندما تكون هذه القدرات والتنظيمات معارضة للسّلطة.
يشكّل مفهوم قوة السيادة (sovereignty power) بحسب الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو سلسلة لامتناهية من الممارسات التي تضمن إطاعة قوانين سلطة ما أو فرد من الأفراد. فالمجتمعات التي تقوم على السّيادة تهتم بحكمها على الموت أكثر من تنظيمها لحياة الناس، ولا تهدف ممارساتها في كل مكان فقط للمطالبة بالمزيد من السّيطرة على الأراضي، وإنما لتأمين إخلاص التّابعين لها أيضاً. ويعتمد تنظيمها المكاني المديني على العمارة الصّرحيّة، التّي تعمّق الإخلاص للقوّة السّياديّة.
بمرور الوقت، أنتج هذا النوع من القوى أنواعاً أخرى، كان مثالها في أوروبا القرن السادس عشر «البَيو-سلطة» أو السلطة على الأجساد (biopower)، والتي تسمى كذلك «القوة التأديبية» – ويفسرها فوكو بأنها طريقة للسيطرة على الجماهير من خلال مؤسسات تأديبية مجتمعية، تؤثر على التنظيم المكاني للمدن عبر تنظيم نشاطات الناس وأوقاتهم، وسلوكهم وعاداتهم، وهي بذلك تؤدّبهم وتضبطهم في مؤسسات مثل المشافي والمدارس وثكنات الجيش والسجون.
تفرض القوة التأديبية نفسها في أعمال وممارسات مثل المراقبة والحجر الاجتماعي، والتي تتعدد بين تنظيم الفراغات المغلقة و«البانوبتيكون» وصولاً لخلق المجتمعات التأديبية. ومن جهة أخرى يلعب جهاز الدولة البوليسي دوراً أساسياً في التأكّد من أن القواعد والآداب تسود المجتمع.
البانوبتيكون
ذكر فوكو «البانوبتيكون» في كتابه المراقبة والمعاقبة، وهو مبدأ تصميمي للمؤسسات الإصلاحية صيغ عام 1786 علي يد الفيلسوف الإنكليزي جيرمي بينثام، فوصفه بأنه مبنى دائري، «قفص» يقضي فيه المساجين حياتهم في زنازين متوضعة على المحيط تحت رقابة شديدة ودائمة من حرّاس يقبعون خلف ستائر في برج مركزي يمثل مصدر القوة الكلي الذي لا مفر منه.
البانوبتيكون أو السجن يتضمن الكثير من الثنائيات: المراقبة والمشاهدة؛ الأمن والمعرفة؛ الفردية والكلية؛ وأخيرا العزل والشفافية. المشاهدة والمعرفة أمران مهمان لتتبع تحركات السجين وتسجيل عاداته وحالاته النفسية، ومن ثم حفظها في تقارير ورقمنتها.
عبّر هذا المفهوم عن إدارة القوة عبر الفراغ، وأسّس لهندسة السيطرة المعمارية. فالبانوبتيكية هي تطبيق للقوة، وهي هنا مرئية لكن لا يمكن التحقق منها، ما يشكل نموذجاً لمؤسسة تأديبية فعالة لا تحدث في دائرتها أي جرائم أو فوضى (انظر الشكل 1).
الشكل 1- مبدأ تصميم البانوبتيكون
تجسّدت عمارة السيطرة البانوبتيكونية في دمشق بالقصر الرئاسي المتربّع على قمة جبل قاسيون، وسطوته على سماء المدينة من وراء التحصينات المقامة حوله والممارسات الأمنية التي رافقت بناءه. كان كنزو تانغهكنزو تانغه (1913-2005) مهندس معماري ياباني، حاصل على جائزة بريتزكر 1987 للعمارة ويعتبر من أهم المهندسين المعماريين في القرن العشرين. قد صمّم القصر في ثمانينات القرن الماضي بشكل يجعل قائد البلاد الحاضر-الغائب يرمق مساجينه من برجه المطلّ على المدينة السجينة، يقبعون فيها مُدانين حتى تثبت براءتهم.
التخطيط العسكري للمدن
بتتبع التخطيط العسكري قديماً، لم تظهر الدول الأوروبية الحديثة إلا خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر. وحينها شرعت توسّع مدنها بفضل رأسماليتها الاستعمارية، ومن خلال العنف السياسي وممارسات التحكم والقمع، كالغزو واستغلال الأراضي والموارد للحفاظ على السلطة السياسية. لذلك فقد كانت الحرب الاستعمارية القاعدة الاقتصادية للرأسمالية الحاكمة. كما عملت المدن الأوروبية على شيطنة وقمع وتجريد الثائرين من إنسانيتهم، إما باستخدام العنف أو المحو المطلق، سواءً كانت تلك الثورات ريفية، أم ثورات استقلال، أم حركات مجتمعات أصلية أو أقليات مشيطَنة.
يخبرنا ستيفن غراهامستيفن غراهام هو أكاديمي ومؤلف وباحث في المدن والحياة المدينية. وهو أستاذ في المدن والمجتمع ضمن وحدة البحوث المدينية العالمية بجامعة نيوكاسل. أن هناك تأثيراً راجعاً أو مرتداً (boomerang) لمظاهر العسكرة والقوة التي طُبّقت في المدن النامية في المستعمرات على مدن الدول المستعمِرة. إذ تتشارك المدن المستعمَرة والمستعمِرة في الكثير من العناصر، كالحدود القاسية ونقاط التفتيش والسياج والمناطق المحمية والسجون، وفي وجود أحياء ذات طبيعة إثنية وطائفية، وانتشار قواعد عسكرية حول المناطق المالية.
كان «الجنوب العالمي» في القرن التاسع عشر ساحة اختبار لإجراءات الأمن وممارسات الاستهداف، والتي تضمنت تجريباً لتقنيات تحكم وتهدئة وعسكرة ومراقبة، وهو ما شكل صلب التخطيط العسكري القديم الذي طبقته الدول الأوروبية المستعمِرة. فهذه الأدوات اختُبرت أولاً هناك، ثم أعيد استخدامها في المدن المحلية ضمن الأحياء المتمردة، وهي تشمل تسجيل بصمات الناس، والسجون البانوبتيكية، وبناء الجادات العريضة الأوسمانية.نسبة إلى البارون جورج يوجين أوسمان (1809-1891)، والذي اختاره الإمبراطور نابليون الثالث لتنفيذ برنامج تجديد مديني هائل للشوارع والحدائق والأشغال العامة الجديدة في مدينة باريس، وهوا ما يشار إليه عادة باسم أعمال أوسمان لتجديد مدينة باريس.
بدت تلك الآليات واضحة في كل من الجزائر وسوريا، ففي الجزائر أعاد المارشال بوغودالمارشال توماس بوغود «نبيل لابيكونيري ودوق إيسلي» (1784-1849) كان الحاكم العام للجزائر بين 1842 و1847، وقد قاد أعمال المحو العمراني في الجزائر بعد التنكيل بالمقاومة. تنظيم أحياء كاملة في الجزائر العاصمة بعد هدم كامل ووحشي ضمن استراتيجيته لإيقاف انتصارات المقاومة. وأُعيد استخدام نفس المخطط في باريس لإضعاف ثائريها الفقراء من خلال تخطيط جادات عسكرية عريضة لإيقاف تقدم الثوار، وهي الجادات التي كان أوسمان قد تبناها في أفكاره.
أما في سوريا، تحديداً في دمشق، استقر الثوار في الغوطة كقاعدة انطلاق لمهاجمة مراكز الاحتلال الفرنسي ومباني قياداته في دمشق القديمة إثر اندلاع الثورة السورية الكبرى عام 1925. حاولت السلطات الفرنسية وقتها السيطرة على المدينة وتأمين استقرارها، وأحاطتها بالأسلاك الشائكة – سامحةً بعدد محدود فقط من المداخل – وردّت على هجمات الثوار بمحو جزء من منطقة العقيبة لشق شارعي بغداد والملك فيصل، وذلك بهدف قطع إمدادات ثوار الغوطة وعزل المدينة القديمة عنهم. وعندما لم تستطع قوات الاحتلال الفرنسي احتواء المقاومة، حدثت أول عملية إبادة عمرانية في تاريخ المدينة الحديث، حيث قصفت المدينة القديمة بالمدفعية المنصوبة على جبال المزة (التي لم تكن مأهولة في ذلك الوقت) وبالطائرات لمدة يومين، ما أدى إلى تدمير عدة أحياء خاصة في المدينة القديمة، مثل حي سيدي عمود الشهير والمسمى منذ ذلك الحين حي الحريقة، والشارع المستقيم في سوق مدحت باشا (انظر الشكل 3).
الشكل 3- المجازر المدينية التي ارتكبها التخطيط العسكري الفرنسي أثناء احتلاله لدمشق
من ناحية أخرى، ساهم الفرنسيون في بناء الجزء الحديث من مدينة دمشق عبر تنفيذ بعض من أدوات أوسمان في تخطيط المدينة، كالساحات النجمية والشوارع العريضة في مخطط دمشق العام الذي وضعه دانجيه بمساعدة إيكوشار عام 1936. ولا بد من تذكر أن القصر الرئاسي القديم كان يتوسط مدينة دمشق في حيها الجديد «أبو رمانة» الذي شيده الفرنسيون.
أعيد إنتاج هذا التخطيط مجدداً في فرنسا، وتحديداً في باريس، التي غدت مثالاً واضحاً لتنظيم الحدود الاجتماعية على يد الحكومات الفرنسية. إذ أبعدت المهاجرين إلى أطراف المدينة، وخلقت بذلك أحياء خاصة بهم، وطوّقت مدينة باريس بعائق ضخم هو المتحلق الدائري الذي يفصلها عن تلك الأحياء. كانت أوضاع أحياء المهاجرين، اقتصادياً واجتماعياً وخدماتياً، أسوأ بكثير من الأوضاع في مركز المدينة. وقد قاد انعدام المساواة هذا لأحداث شغب متعددة، مثل شغب الضواحي الشهيرة عام 2005، وهو ما عاود الظهور مؤخراً عبر التعبئة الكاملة للقوات الأمنية وشيوع المظاهر الأمنية والعسكرية في المدينة.
خلال القرن العشرين، ازدادت الحاجة الماسّة لتحصين المدن، وتحوّل التفكير المديني في المجتمعات الغربية إلى تفكير أكثر عسكرية، محولاً الحياة اليومية في الفراغات العامة والخاصة والبنى التحتية وحتى السكان إلى ثنائية لا فكاك منها: فهم جميعاً إما أهداف أو تهديدات. وكان ذلك لبّ مفهوم التخطيط العسكري الجديد.
في كتابه مدن تحت الحصار، يشير ستيفن غراهام إلى أن التخطيط العسكري الحديث بدأ عند جلب الحرب إلى فراغات المدينة اليومية. وقد شكّل هذا التغيّر ذريعة وتحفيزاً لتوسيع أمور المراقبة وتحديد الهوية، لكن الأهم أنه استهدف وسيطر على الفراغ اليومي وشبكات الحياة اليومية، وبشكل خاص على أعضاء المجتمع «المتمردين أو الإرهابيين المحتملين أو الأشخاص ذوي النوازع الإجرامية». فالفارق أضحى واضحاً بعدما غدت الفراغات والشبكات والدوائر مجرد ساحات المعارك الرئيسية الجديدة.
تدور فكرة التخطيط العسكري الجديد حول تحصين المدينة وتكثيف المظاهر العسكرية للحياة فيها، بما يغير الثقافة المدينية بسياساتها ومشاهد مدنها ودوائر بناها التحتية عبر تطبيع العسكرة، ما يعني بدوره تطبيع الحرب نفسها. وقد سيطر هذا التطبيع، بحسب غراهام، على المدينة وفراغات الحياة اليومية من خلال إجراءات المتابعة والاستهداف العنيفة والعسكرية.
كي نفهم التخطيط العسكري علينا أن نفهم مقوماته الأساسية: العسكرة والأمن والخوف. وتصير حياتنا اليومية ساحة حرب دائمة بالتطبيع مع هذه المقوّمات الثلاثة.
عسكرة الحياة العامة
أول المقومات هو العسكرة، وهي عملية مكانية واجتماعية تولّد العنف ضمن المجتمعات المدنية من خلال تطبيع نقلة نوعية في أفكار الناس وأفعالهم وسياساتهم باتجاه الأمور العسكرية؛ إلى جانب ممارسة السلوكيات التأديبية العدائية بهدف تحديد ومراقبة الأجسام والأماكن والهويات؛ ونشر البروباغاندا لرمنَسة صورة العنف، فالأنظمة التي تعتمد التخطيط العسكري تنظّر للعنف هنا كوسيلة لتحقيق غاية الرب أو لاستيفاء ثأر محق.
عسكرة مجتمع ما عملية معقدة ومتنوعة ومتعددة الطبقات، تنسج بدقة تفاصيل الحياة بين مجالي الحياة المدينية العام والخاص، وثقافات كل منهما واقتصاداته السياسية وجغرافياته.
تجلى تطبيع العسكرة والجندية في الحياة المدينية في زيادة مصاريف الدولة على أمور تتعلق بتحديد وفصل العناصر المهدِّدة عن تلك التي تعتبر مفيدة، سواء في البلد نفسه أو خارج الحدود الوطنية عبر وحدات الجيش العاملة في الخارج، كما في الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا.
لم تأخذ «الجمهورية العربية السورية» شكلها الحالي إلا بعد انفصالها عن مصر عبد الناصر وتفكك مشروع «الجمهورية العربية المتحدة». شهدت البلاد خلال الحكم الناصري تحولاً نحو الدولة البوليسية والحزب الواحد والقائد الفرد، قبل أن يستولي حزب البعث على السلطة في انقلابه العسكري عام 1963 ويحل الدستور ويعلن حالة الطوارئ ويتسبب بنفي معظم الطبقة السياسية خارج البلاد.
سببت حالة الطوارئ خوفاً عاماً نتيجة القيود التي فرضتها على الحقوق والحريات الفردية والعامة، كحق الإقامة وحق الاجتماع وحق الحركة، وحتى حق المرور في أوقات معينة، ناهيك عن الرقابة على الإعلام. كان كل من يتحدى هذه القيود يقاد إلى المحاكم الميدانية أو العسكرية. وقد طبّعت هذه الحالة الحرب في عقول السوريين منذ أواخر الستينات.
أخذت القوة التأديبية في سوريا تنعكس في المؤسسات العقائدية التي تجنّد كافة فئات المجتمع وتلقّنهم الولاء لـ«الأب القائد»، فكانت منظمات طلائع البعث وشبيبة الثورة والنقابات المهنية وكلها تحت سيطرة حزب البعث. كانت منظمات «المجتمع المدني» المفترضة أحد أبرز مظاهر العسكرة، والتي اقترنت بالمؤسسات «الاستهلاكية العسكرية» التي شكلت أهم مصادر التموين للسوريين أثناء فترات العقوبات و«الإسكان العسكرية» التي سيطرت على بناء المساكن. ومن جهة أخرى تمثلت عسكرة التعليم في الزي العسكري الموحّد، وحصص التربية العسكرية الإجبارية، والتحية الصباحية للديكتاتور والحزب الحاكم، والتعهد بـ«التصدي للإمبريالية والصهيونية والرجعية».
الأمن لأمان السلطة
ثاني مقومات التخطيط العسكري هو الأمن. اقترن أمن المدن الغربية في القرن العشرين بالأنظمة العسكرية، وكان العذر الأمني يساق لتبرير كل عملية عسكرية. وبارتفاع معدلات الهجوم في مختلف مدن العالم، تم تطبيع مبدأ «الدفاع من أجل الأمن» وأصبح الإقصاء وجنون الشك جزءاً لا يتجزأ من إجراءات الأمن، أو على الأقل سمة لا يمكن التخلي عنها. تشعّبت رؤى الأمن وأنظمة الفكر العسكري وذابت الفروق بين السلم والحرب وبين البوليس والاستخبارات والجيش بمستوياتهم المحلية والوطنية والعالمية.
لا يهتم الأمن بالنظام القانوني أو بحقوق الإنسان، فهو قائم على ملاحقة وتحديد كل فرد أو مجموعة أو اتحاد وتقرير ما إذا كانوا مرتبطين بالعنف أو الإزعاج أو مقاومة الأنظمة الرأسمالية النيوليبرالية المهيمنة ومعاقبتهم تحت مسمى الأمن القومي أو الوطني.
لا يتشارك النظام الحاكم في سوريا مع الأنظمة الغربية في «رقميتها»، إذ لم يتبنَّ هذا النظام الأساليب الأمنية وإجراءات المراقبة الحديثة. بل، بالعكس، يعتمد على العين المجردة لتأمين الاستقرار.
أنشأ الأسد الأب هيكلية أمنية قوية سيطر من خلالها على سوريا بتعيين المقرّبين ونشر المخبرين، وتساوى أمامها المواطنون مع المسؤولين بكونهم أهدافاً للمراقبة. وبحسب هيومن رايتس ووتش فإن هناك ثمانية أجهزة أمنية رئيسية، لها فروعها وسجونها المنتشرة في كل أنحاء البلاد. والمذهل أن كلاً منها يعمل باستقلالية تامة عن الأجهزة الأخرى، ولكل منها غرف تحقيق وتقنيات استجواب خاصة بها، دون أي تنسيق أو حدود واضحة بين أشكال التحرك وجمع المعلومات. فالمخابرات العسكرية مثلاً مدربة على جمع معلومات لا تتعلق فقط بالقوات المسلحة بل بقضايا أمن الدولة؛ وأجهزة أمن الدولة مدربة على التعامل مع التمردات والسيطرة على حشود الناس. كذلك شكلت النقابات والمؤسسات العامة وأفرع حزب البعث الحاكم بانوبتيكوناتها الخاصة لمراقبة وتتبّع المواطنين فيها وحولها.
بينما تعني كلمتا «الأمن» و«الأمان» كلاهما حماية الممتلكات من المخاطر والتهديدات، يدور الأمن حول حماية المجتمع وتركيبته الاجتماعية، وحول فهم معنى القانون والنظام والأخلاق، وحول حماية القيم المجتمعية ضد أعمال الجريمة المخطط لها. أما الأمان فيدور حول الحماية ضد الحوادث الناجمة عن أعمال غير مخطط لها. ولأن الأمن يعتبر مسألة موضوعية، أي ليس حقاً فردياً بل هدف سياسي معقّد، فهو يشمل الأمان؛ الذي هو مسألة ذاتية ومطلب اجتماعي، ولا يرمز لخطر واقعي بل يتعلق بتفسيرنا ونظرتنا للحياة اليومية. كذلك يرتبط كل من الأمن والأمان بالثقافة، فهما منتجان لبيئتهما ويتأثران بالسياسات المطبقة فيها. ومن هنا فإن العلاقة المتبادلة بين ثقافة المجتمع وسياسات الأمان والأمن خلقت عنصراً محورياً لفهم المدينة هو الخوف المديني، والذي ستتم مناقشته بمزيد من التفصيل أدناه.
الاحتراس الدائم
ثالث مقومات التخطيط العسكري هو الخوف. فقد مرت الفراغات العامة في المدن خلال العقود الأخيرة بعمليات متواصلة من التحصين والفصل والإقصاء والسيطرة والخصخصة، كان بعضها متولداً من الحياة اليومية بما في ذلك مشاعر وتصورات السكان. لقد فشل تخطيط المدن الحديث في الاعتراف بدور المشاعر في تشكيل البيئة المعمورة، وفي الاعتراف بدور الخوف تحديداً في تشكيل عالم المدن. فغالباً ما نُظر إلى الخوف كمشكلة يجب حلها واختُزل في كونه نقيض الأمن.
كان الخوف عملة صالحة لتبرير أي مسألة، فالعسكرة الحديثة عملت مع سياسات الخوف، واستخدمتها في التخطيط المديني لتعزيز أشكال الإقصاء وإعادة تصنيع العلاقات الاجتماعية والاقتصادية، رغم أن الإقصاء كان ينتج أحياناً عن غير قصد. كذلك، يرتبط الخوف بممارسات البروباغاندا والتضليل الإعلامي، والتي تنطوي على عمليات وصْم وتهميش وتطويق تعيد تخطيط وإنتاج مساحات الإقصاء للآخرين.
يعرّف كوري روبينكوري روبين هو منظّر وصحفي وأستاذ في العلوم السياسية في كلية بروكلين ومركز الدراسات العليا بجامعة مدينة نيويورك. الخوف السياسي على أنه «شعور الناس بالتخوف من حصول أذى لرفاههم الجماعي، أو التخويف الذي تمارسه الحكومات أو بعض المجموعات على الرجال والنساء». وحسب ويندي بيرلمانويندي بيرلمان هي كاتبة وباحثة تركز على السياسات المقارنة في الشرق الأوسط والحركات الاجتماعية والتعبئة الشعورية، وهي حالياً أستاذة مشاركة للعلوم السياسية بجامعة نورث وسترن. هناك أربعة أنواع للخوف من السلطات متجذّرة في قلوب الناس: الخوف المُسكِت الناشئ عن القمع والقادر على الإخضاع؛ والخوف المذلَّل الذي يصاحب حالات التمرّد وكسر وضعية «القتال أو الفرار» لصالح التحدّي ورفع الصوت السياسي؛ والخوف شبه المطبّع، أي حين يفقد الخطر شكله المعتاد ولا يعود من الممكن فهمه أو التنبؤ به، وغالباً ما يكون مؤقتاً وينتهي إلى أحد أنماط الخوف الأخرى؛ والخوف الضبابي الذي يسود في أوقات اللايقين وتشوّش المستقبل والتعوّد على عدم الاستقرار في اتخاذ القرارات السياسية.
كان الخوف في سوريا سياسياً، بخلاف حاله في المجتمعات الغربية. وبحسب ويندي بيرلمان فإن الخوف الشائع فيها منذ سبعينات القرن الماضي حتى الآن هو الخوف المُسكِت الذي يشجع المواطنين على الخضوع لسلطة قسرية. كانت المراقبة والتهويل والاعتقال بانتظار كل من يفكر بالانتفاض. وكانت القوة الوحشية التي تعاملت مع أحداث الثمانينات تلاحق الناس وتملأ نفوسهم بالرعب والقلق. وفي ظل فرض الرقابة الصارمة على الإعلام والاختفاء التام للصحف والقنوات الحرة، لم يكن التعبير عن الآراء مسموحاً، وحتى إلقاء نكات قد يودي بفاعله في غياهب النسيان ومجاهل الاختفاء القسري والتعذيب وربما القتل. وقد ألقى هذا بثقله على علاقات الناس وغذّى الارتياب فيا بينهم، فعبارة مثل «وطّي صوتك، الحيطان إلها آذان» كانت عنوان المرحلة. لقد حوّل الخوف الناس إلى مواطنين مذعنين، لا يتحدّون النظام ويصدّقون عدم إمكانية أو عدم جدوى أي تغيير.
العمران والخوف
للتخطيط العسكري سمات وخصائص عدة، منها مكاني يتعلق بتجسيد مقوماته في الفراغ؛ ومنها ما يتعلق بفكره وعقيدته ودلالاته، كتعقب الأهداف باستخدام الأنظمة الإلكترونية أو ربط الأمن بالحكم النيوليبرالي واقتصاده السياسي الداعم؛ ومنها ما يتعلق بخلق فراغات عمرانية جديدة بعنف، إما بإنشاء أماكن فارغة تستتبع المضاربات العقارية وجني الأرباح، أو بتمثيل جغرافيات العنف غير المنتهي التي تحدّث عنها الفيلسوف أغامبين من خلال مفهومه الشهير حالة الاستثناء (دولة الإقصاء)، وهو ما يعرف باسم المجازر العمرانية أو urbicide؛ أو، أخيراً، بربط الجيش والبوليس ودمجهما معاً.
هنا سنتوقف عند خصائص التخطيط العسكري المكانية، حيث تتجسد العسكرة والأمن والخوف بشكل كبير في تنظيم الفراغات المدينية.
يعتمد التخطيط العسكري اعتماداً مباشراً على مقوِّم الخوف المديني، وهما يشكلان حلقة مفرغة، يتغذّيان على بعضهما البعض ويقوّي كل واحد منهما الآخر، فالخوف يتبع الشكل والشكل يتبع الخوف المعزّز بالسياسات المحلية. فمن خلال الخوف، تتكرّس صناعة الحدود الداخلية ضمن المدن، ويمتلئ النسيج المديني بالذعر نتيجة سياسات التخطيط الحديث التي يقودها التكنوقراطيون. وهكذا تصبح المدن مصممة بوظائف أحادية مجزأة لاستيعاب علاقات اجتماعية محددة باستعمال أدوات تعزز سياسات الإقصاء ضمن الأنظمة النيوليبرالية.
الخوف المديني، بحسب سيمون تولوميلوسيمون تولوميلو هو باحث في جامعة لشبونة، تشمل اهتماماته نظرية التخطيط والثقافات ودراسات الأمن النقدية والدراسات المستقبلية وجغرافية الأزمة.، هو تركيب اجتماعي سياسي يُنتَج بطريقتين: إما بالتشتت المكاني، أو بإنتاج فراغات عامة مستمرة بمثالية. يحصل التشتت المكاني أو الفراغي كنتيجة مباشرة لعمليات إنتاج المدينة كآلة، والتي تعمّق الفردية والعزلة وتخلق مساحات مقسّمة أو «زونات» (zones) لتعزيز «الآخرية» (otherness) وما يستتبعها من تهويل الأخطار التي يمثلها الآخرون. أما الفراغات العامة المستمرة بمثالية فهي تشبه «المسقط الحر» الذي اقترحه لو كوربوزييهلو كوربوزييه (1887-1965) هو مهندس معماري ومخطط عمراني وكاتب سويسري-فرنسي، يعتبر من رواد العمارة الحداثية والوظيفية. يعني المسقط الحر الذي اقترحه رفع المباني على أعمدة وترك الطابق الأرضي مفتوحاً بما يمدّ الفراغات العامة عبر المدينة ويخلق مساحات عامة حيوية.، والذي يعزل البناء عن محيطه الخارجي ويمنع الفراغات العامة من تحقيق حيويتها المنشودة، ما يعني أن التخطيط المديني يخلق مشاكل أكثر من يحلها. من جهة أخرى فإن الخوف والأمن مرتبطان بشدة نظراً للدور القوي الذي تلعبه خطابات الخوف في تحديد الأشخاص المهدِّدين أو المهمَّشين أو «الآخرين».
ولشرح التنظيم المكاني للخوف وكيف يتجسد بشكل فعلي في الفراغات المدينية، حلل سيمون تولوميلو فراغات الخوف وصنفها ضمن عدة تصنيفات سماها مشاهد الخوف المدينية. تتعلق هذه المشاهد بخلق حدود ضمن المجتمعات لجهة احتوائها للآخرين وإقصائها لهم.
Aliaa Aboukhaddour – علياء أبو خضور
انكفاءات داخل المدينة
أول مشاهد الخوف هو المناطق المطوّقة (المغلقة) التي اشتُقت من مفهوم المجتمع التأديبي لفوكو وطريقة توزيعه للناس في الفراغ، والانتقال بين ممارسة الهيمنة أو الخضوع لها. يعرّف تولوميلو المناطق المطوّقة بأنها مكان غير متجانس لـ«الآخرين» ومنغلق على نفسه. ترمز المناطق المطوّقة إلى تجميع الأماكن المبعِدة اجتماعياً والمغلَقة مكانياً، وهي تظهر من خلال عمليتين:
أ) فراغات الإقصاء (الاستثناء) الإجباري من المساحات والحقوق الجماعية: وهي فراغات لها موقعان، الأول هو المخيمات المنصوبة في مناطق يصعب الوصول إليها، والثاني هو المناطق المهمشة التي تحدّها الأسوار والجدران أو الأجسام الطرقية (المكونة من طُرُق). يبرَّر الإقصاء بالحالة القانونية المعلقة، ويمارَس في منطقة الحرب أو في الفراغات الرمادية العشوائية التي تمثل علاقات القوة مكانياً والعزلة التي تسبّبها الدولة
ليس الاحتواء والإقصاء في دمشق واضحين كوضوحهما في بقية مدن العالم، لكنهما واضحان في المخيمات التي آوت الفلسطينيين الذين لاذوا لسوريا منذ 1948. فقد بُنيت في ضواحي دمشق، بعيداً عن المركز، وبخدمات بين السيئة والمتوسطة. وعند توسع دمشق وازدياد التمدن فيها، أصبحت هذه المخيمات جزءاً من المدينة، أحياءاً بمبانٍ إسمنية دائمة تسكنها طبقات وسطى من جميع فئات السوريين (كما في مخيم اليرموك). بعض هذه المخيمات يبعد عن وسط مدينة دمشق حوالي 7-14كم، لكن معظمها ما زال يعاني من أحوال سيئة ومن انفصال كبير عن مركز المدينة بأجسام طرقية ضخمة، كمخيم جرمانا ومخيم الست والسبينة (انظر الشكل 4).
تلقي فراغات العشوائيات الرمادية بظلالها على المدينة وتنتشر في مختلف أنحائها. وقد ظهرت أولاً بسبب الزيادة الكبيرة في أسعار العقارات ونمو الكثافة السكانية وهجرات السوريين الداخلية إلى العاصمة دمشق من الشمال السوري ومرتفعات الجولان. أصبحت العشوائيات بعدها سكناً لطبقات اجتماعية واقتصادية متنوعة (كما في نهر عيشة والتضامن والطبالة والدويلعة)، فكانت مخرجاً لمأزق السكن بالنسبة للبعض، والذين قاموا بحل مشاكلهم بأنفسهم، على الرغم من التهديد المحدق المتمثل بسياسات الهدم وتجميل المدينة على حساب سكانها.
ب) فراغات العزلة الطوعية (المنتجة ذاتياً)، حيث يريد أعضاء مجموعات متجانسة إنتاج مساحات آمنة لحماية أنفسهم من التهديدات الملموسة في المدن. مثال ذلك المجتمعات المسورة (في المناطق السكنية) التي يتم فيها تطويق المساحات المشتركة والتحكم في الدخول إليها بتحصينات وممارسات أمنية. تلك المجتمعات الخاصة تتمتع بأنظمة حكم ذاتي، وهي تشترك مع المخيمات بحوكمتها الذاتية، بالإضافة لاستخدامها نفس خطابات الخوف و«الآخرية» التي هي شكل من أشكال التطويق.
تَشكُّل هذه الفراغات في دمشق مثير للغاية. فهي لم تُبنَ للأغنياء كما هي حال العزلة الطوعية في دول العالم المتقدم، بل بُني بعضها ليستوعب جنود الجيش السوري وعائلاتهم، أو ليضم مجتمعات فقيرة متجانسة تتشارك الأصول الإثنية وترغب بالانغلاق على نفسها وتبادل الخوف مع العالم الخارجي (مثل جبل الرز الذي سكنه الأكراد، ومنطقتا عش الورور ومزة 86 اللتان يسكنها الجنود والأقلية العلوية).
الشكل 4- مشهد الخوف المديني الأول المتمثل في المناطق المطوّقة
الشكل 5- جبل الرز، إحدى العشوائيات الإثنية
أوصال المدينة المقطّعة
من مشاهد الخوف الأخرى العوائق (الحواجز) التي تتمثل بفراغات فيزيائية ناتجة عن استخدام شبكات البنية التحتية، بوعي أو بدون وعي، خاصةً تلك التي تقلل من حق الحركة بدل أن تزيده. فتركز معظم الاستثمارات في المدن وحول بُناها التحتية الضخمة من سكك وأجسام طرقية وأنفاق، ما يؤدي لازدياد المسافات بين الوظائف المدينية وبالتالي إلى شكل من أشكال الإقصاء داخل المدينة.
تنتج شبكات البنية التحتية مناطق جغرافية ونقاطاً تتمتع بنفاذ ميسّر إليها، لكنها قد تؤدي أيضاً إلى تشويه الفراغات المدينية وخلق سوء تناسق أو إطالة المسافات بدلاً من ضغطها وإيجاد نقاط وصل.
بالنسبة للبعض، تشكل فراغات التنقل شكلاً من أشكال الحواجز، فغالباً ما تفصل الطرق السريعة والسكك الحديدية بين المناطق التي كانت متلاصقة في السابق. فهي تؤثر على المساحات المدينية اليومية التي يقطعها مالكو وسائل النقل البطيئة. وعلاوة على ذلك، أثرت بنى النقل التحتية على المدن في جميع أنحاء العالم، فدمرت المنازل والمتاجر وأزالت الأحياء وتسبب بإجلاء السكان (وخاصة ذوي الخلفيات المهمشة والفقيرة)، ناهيك عن محوها الذكريات المعاشة في أماكن بنائها وقَسمها المجتمع إلى قِسمين.
ثمة تباينات أخرى في إنتاج السياسة المكانية. فقد تم توظيف الفصل عبر البنية التحتية أيضاً لفصل فقراء المدن والأقليات العرقية عن بقية سكان المدينة، كما هو الحال في المدن الأميركية وفي باريس على وجه الخصوص؛ ولا سيما الجادة التي تطوّق العاصمة الفرنسية فتسوّرها وتعمل كجدار تمييز بين المناطق الغنية والفقيرة. يساهم هذا النوع من الفراغات في ثقافة الخوف لأنها تحمي مستخدمي البنية التحتية من غزو «الآخرين»، وفي الوقت نفسه تعزل المناطق المدينية «الخطرة» من خلال التحكم والسيطرة على حقوق الحركة.
في دمشق، خلق مخطط إيكوشارمخطط إيكوشار هو المخطط التنظيمي الذي اقترحه ميشيل إيكوشار لتنظيم وتطوير مدينة دمشق عمرانياً عام 1968. شبكة من الطرق المتصلة التي سهلت حركة السيارات ووصلت بين الأحياء، لكنها مع ذلك مزقت نسيج المدينة والمناطق الخضراء فيها. حتى جبل قاسيون لم يسلم من ذلك، فقد خلق المخطط العام ذاك شقوقاً في النسيج المديني المتشابك أشبه بحواجز داخل المدينة (كشوارع الربوة وبيروت القديم والثورة وحلب والمتحلق الجنوبي وأوتوستراد درعا وأوتوستراد المزة).
الشكل 6- مخطط إيكوشار المقترح للطرقات
وبسبب شبكة الطرق هذه، بعض هذه المناطق هُدمت وأعيد بناؤها وبيعت بأسعار مرتفعة، ما جعلها حواجز بين المناطق الغنية والمخدّمة والأحياء الشعبية القديمة والمهمشة. أُخرج الكثيرون من بيوتهم ومُحيت أراضٍ زراعية واسعة كي يتسنى لأصحاب السيارات وشاحني البضائع التنقّل من مكان لآخر. لقد أثّرت هذه الشبكة على الحياة اليومية لكثير من العائلات التي كانت تقطن هناك، فإما انفصلت عن بعضها أو اضطرت لتغيير أماكن عملها، فيما وجد كثيرون صعوبة في عبور الأجسام الطرقية الضخمة. حدث هذا في مناطق المزة أوتستراد ومزة بساتين، وكفرسوسة وكفرسوسة البلد، وداريا ونهر عيشة وغيرها.
الشكل 7- أوتوستراد درعا الفاصل بين نهر عيشة وداريا
الشكل 8- مشهد الخوف المديني الثاني المتمثل في العوائق
عيون الأخ الأكبر
يتمثل المشهد الأخير من مشاهد الخوف المديني في ما يسمى مناطق التحكم. يظهر هذا النوع من الفراغات في التخطيط العسكري الحديث الذي يستخدم نسخة جديدة من البانوبتيكون. هذه المناطق توجه القوة من الأعلى إلى الأسفل بفضل الكاميرات وأجهزة الاستشعار، التي تشير لسلطة يمكن التحقق من وجودها ولكنها غير مرئية، فهي تراقب وتشاهد وتسجّل وتمحّص أنشطة الأفراد.
تغزو كاميرات المراقبة (CCTV) الفراغات المدينية، ولا سيما بعد تطور التقنيات التي تجعل التكنولوجيا أرخص وأصغر وأكفأ. وهي تبثّ الخوف من الإرهاب بدلاً من نشر الأمان.
تؤثر مشاهد التحكم على الخصوصية الشخصية في الأماكن العامة، كما أن نظم المراقبة عامةً (الإجراءات البيومترية، وبطاقات الهوية الشخصية، وكاميرات المراقبة، ونظام تحديد المواقع) وممارسات التحكم خاصةً (إغلاق الطرق، وإنشاء مناطق أمنية باستخدام الجدران ونقاط التفتيش والحواجز والمتاريس) تعتبر تهديداً للحريات السياسية الضرورية للمواطنة الفاعلة. يمكن للتحكم أن يتلاعب بعلاقة الفرد بالفراغ، كما يمكن للمظاهر الأمنية أن تضر بالمواطنة الفاعلة وأن تعزز الفردانية والانسحاب من الأماكن العامة، فهي «خطرة ولهذا تتم مراقبتها». وهكذا فإن عمليات المراقبة والتحصين تدفع نحو خصخصة الأماكن العامة وحصر الحياة الاجتماعية في مساحات خاصة مغلقة.
لا تكاد تتواجد الأنظمة التقنية ولا الكاميرات في مدينة دمشق بسبب نقص الكهرباء. وهي إن وجدت فغالباً ما تكون ذات ملكية خاصة. وهي بذلك تختلف عن مدن العالم المتقدم، لكنها تشبهها باحتوائها على بانوبتيكونات صغيرة في كل حي وكل شارع، فالناس يشعرون بأنهم مراقبون كل الوقت، حتى في بيوتهم، بسبب كثرة عيون السلطة ومخبريها وضلوع الجميع في التنصّت والوشاية.
يتجسد بانوبتيكون التحكم في سوريا في الأفرع الأمنية ومقرات حزب البعث المسيطرة على مدينة دمشق، بحيث تكاد تكون جميع أحيائها خاضعة لعيون الحرس. علاوة على ذلك، فإن الأكشاك المنصوبة في الطرقات وقرب الحدائق تراقب وتتنصّت على اجتماعات الناس وتجمع المعلومات عنهم كأفرع أمنية مصغرة. نلاحظ أيضاً أن معظم عمال النظافة وسائقي التاكسي مخبرون أو عناصر في الأجهزة الأمنية. أخيراً، لا يخفى على أحد أن الكثير من الأبنية والشوارع والساحات (المستشفيات، الأوبرا، المكتبة الوطنية، الملاعب، الجسور والطرق السريعة) أُطلق عليها اسم الأسد الأب أو الابن الراحل لتعزيز مزيد من السيطرة وتذكير للناس بسطوة حكم الأسد.
الشكل 9- مشهد الخوف المديني الثالث المتمثل في التحكم
تطرّق هذا العرض للتخطيط العسكري في زمن السلم، ولم يستعرض المجازر المدينية التي تحدث في زمن الثورات والحروب، والتي تبرّر بها الأنظمة عملياتها العسكرية والأمنية وتحتوي تمرّدات مواطنيها. عايشت سوريا أشكالاً عديدة لهذه المجازر على مدى السنوات القليلة الماضية، ولعل المستقبل يحمل المزيد من تجلياتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي ما تزال حالياً قيد التشكل.
*****
هـ.ف: مهندسة معمارية سورية. ماجستير في العلوم- اختصاص البناء والتصميم العمراني في التنمية من «وحدة تخطيط التنمية» في كلية لندن الجامعية UCL، بالإضافة إلى درجة الماجستير التأهيلي في هندسة المدن – تنمية المدن المستدامة من سوريا وفرنسا.