إن فشل الأمم المتحدة في التعاطي مع العمران في سياق سوريا «النزاع» – سوريا الولاء والعداء؛ سوريا المقاومة والإرهاب؛ سوريا الفوضى والحرية – وفشلها في فهم «النزاع» ضمن سياقه العمراني في سوريا المكان – سوريا الشوارع والعمران؛ سوريا الحواجز والحصار؛ سوريا التهديم والإعمار – جعل جهدها لإغاثة ضحايا الحرب جَرحاً، ودفعها نحو التعافي والسلام فتنة، وسعيها لبناء ما دمرته الحرب قهراً، فأضرّت بسوريا من حيث أرادت أن تنفع، وخاطرت بالهبوط بها من حيث أرادت أن ترفع. تسلط المقالة هذه الضوء على أخطاء منهجيات تدخل الأمم المتحدة في السياق السوري، لا توجيهاً لأصابع الاتهام بل محاولةً للوقوف على الأسباب بهدف تقييم المقاربة الدولية «للنزاع» والعمران في سوريا.
ظلم يتبعه ظلم، ونزاع يتبعه نزاع
ما حدث في سوريا في السنوات السابقة لم يولد من العدم. فسوريا كانت – كما يقال – بركاناً يغلي وانفجر. فالقمع السياسي، والاقتصاد المحتكَر، والتضخم السكاني، والتردّي الخدماتي، والقصور التنموي، والفساد المؤسساتي، والتخطيط الإقصائي، والظروف المهينة لمئات آلاف «سكان المخالفات»، والتأميم، والاستملاك، وتسلّط المحاسيب على الأرزاق والعقارات، شكّلت كلها مظلوميات عمرانية تراكمت على مرّ الأيام والسنين وجعلت من انطلاق الاحتجاجات قدَراً برسم الحالمين بمستقبل أفضل. هذا المستقبل استغله كثيرون، سوريين وغير سوريين، لإرضاء مطامع وتحقيق مكاسب على حساب آمال الشعب المكلوم.
يرى كثيرون أن حلم الناس لم يُثمر، وأن الحرب في سوريا لم تزد على مصائب الماضي إلا ظلماً ونزاعاً وإرهاباً. فالانقسام الحاد جعل من الحكومة الشرعية عند البعض نظاماً إجرامياً عند الآخر، ومن أصدقاء سوريا لدى الطرف الأول أعداء وشركاء في جرائم حرب عند الطرف الآخر، ومن المقاتل الشريف هنا إرهابياً مجرماً هناك، وهكذا في سلسلة غير منتهية من الانقسامات والتجاذبات والتحزّبات تحولت معها مواضع النزاع في سوريا إلى صراعات مدمّرة. هذه النزاعات جعلت من كل شيء في سوريا فضاءات لها وأدوات فيها؛ فصارت الأحياء والشوارع والحواجز والمزارع والمنازل والكهرباء والمياه والمشافي والجسور وحتى القبور مسارح للصراع تارةً، وسلاحاً تُستخدم فيه في تارة أخرى؛ تتلاعب بها أطراف النزاع أو تدمّرها أو تطوعّها بما يدفع مؤيدي الطرف الآخر إلى الحياد أو الاستسلام أو الموت. تعجّ التقارير بالأمثلة عن ذلك، فحصار الأحياء وتدمير ما فيها من خدمات ومقومات للحياة، أو تسويتها كلها بالأرض – بالقذائف أو بالجرّافات – لم يكن عرضاً من عوارض الحرب بل نهجاً مترصّداً، سواءً لتحقيق نصر عسكري أو لمعاقبة «المارقين» الذين ارتموا في كنف «أعداء الوطن» و«الإرهابيين» أو ببساطة لمجرد الانتقام. لم يزد هذا النهج من نزاعات الماضي إلا نزاعاً آخر، معارك متتالية تصبّ الزيت على النار وتأخذ بسوريا إلى دوامة بلا نهاية. وقد خلّفت هذه الدوامة آلافاً من السوريين بين لاجئ يحنّ لأهله وداره، ومهجّر يتحسّر على خرائب بيته، ومُبعَد لا حيلة له بالعودة إلى بلد تهدّم ثلثاه، ودمّرت نصف مدارسه ومشافيه واحترقت فيها جميع ذكرياته.Human Rights Council, “Report of the independent international commission of inquiry on the Syrian Arab Republic (8th Report),” 2014.D. Sharp, “Urbicide and the Arrangement of Violence in Syria,” in Beyond the Square: Urbanism and the Arab Uprisings, no. December, D. Sharp and P. Claire, Eds. Terreform, 2016, pp. 118–141.
قد يقول البعض إن أبشع صفحات حرب الأمس طُويت، وأن إعادة الإعمار انطلقت، متجاهلين أن لكل شيء في سوريا نزاعاً، وأن لكل نزاع معركة ولّادةً للمظالم وهدّامةً للحقوق والآمال. فما يُفترض أن يكون عملية إعادة إعمار واستعادة أمل يتكشف اليوم عن ممارسات إقصائية لا تراعي حقاً ولا تأبه بأي من شرائح المجتمع من المتضررين والمهجّرين، حاملةً في طياتها منافع للبعض القليل ومصائب ومظالم جمّة للكثيرين الآخرين، وحارمةً بذلك السوريين من أمل إعمار يجبُر المظالم ويكون خطوة نحو السلام.
تعجز الأمم المتحدة و«أصدقاء سوريا» عن فهم النزاع في السياق العمراني وفهم العمران في سياق النزاع، جاعلين من أنفسهم شركاء في الظلم من حيث يعلمون أو لا يعلمون
في خضم هذا النزاع المعقد لما قبل الحرب وما في الحرب وما يُخطَّط له بعد الحرب، تعجز الأمم المتحدة و«أصدقاء سوريا» عن فهم النزاع في السياق العمراني وفهم العمران في سياق النزاع، جاعلين من أنفسهم شركاء في الظلم من حيث يعلمون أو لا يعملون، وجاعلين من تدخلاتهم وإنجازاتهم وانسحاباتهم ومساعداتهم ومفاوضاتهم ومنهجياتهم في الإعمار أخطاء متتالية في وادي المأساة السورية.
نهج خاطئ لمفاوضات السلام
فشل الأمم المتحدة في فهم النزاع في سوريا ضمن سياقها الجغرافي-السياسي، كمكان تتصارع فيه المصالح الإقليمية، قادها نحو طريق السلام الخطأ. فإعلان المبعوث الأممي إلى سوريا ستيفان دي مستورا نهاية عام 2017 أن فرصة ذهبية للمفاوضات المباشرة بين المعارضة والنظام السوري تلاشت، وإقراره بذلك بالانهيار الكامل للمفاوضات السورية في جنيف، وتأكيده عدم وجود أي حافز لدى نظام الأسد للجلوس على طاولة المفاوضات – في ظل ثبات المعطيات على الأرض وغياب أي ضغط روسي فعال – لم يكن إلا فشلاً جديداً في سلسلة طويلة امتدت لسنوات، فشلاً وراء فشل، لمحادثات السلام الأممية العقيمة.P. Wintour, “‘Golden opportunity’ lost as Syrian peace talks collapse,” Guard., pp. 2017–2019, 2017. ما شهدته سوريا في السنوات اللاحقة، من مفاوضات سوتشي التي جمعت روسيا وإيران وتركيا، ومن دون وجود ذكر للسوريين، وما أفضت إليه في بعض الأحيان من تهدئة ما، ليس سوى دليل آخر على الدور المحوري الذي تلعبه حرب الوكالة الدائرة في سوريا.
يتفق الكثيرون أن سوريا ملك للسوريين، بأرضها وحضارتها ومستقبلها، ولكنهم يختلفون حول مستقبل الحرب في سوريا وما إذا كان فعلاً بيد السوريين وحدهم، في ضوء المكانة التي تحتلها سوريا على أجندات المتصارعين الاقليميين. فلا تخفى على أحد كثرةُ الأصابع الخارجية التي حرّكت وتحرّك الحرب في سوريا لخدمة مصالحها، ولا يخفى على أحد أن الكثير ممن يقاتلون في سوريا بيادق في لعبة حرب الوكالة التي تتخذ من تراب سوريا مسرحاً لها. فلروسيا في سوريا معركة إثبات وجود، وقاعدة عسكرية استراتيجية لا تعوّض بثمن، وخط يتم العمل عليه لتصدير الفوسفات؛ وللخليج المتهافت اليوم في الأرض السورية مضمار لكبح الطموح الإيراني؛ ولإسرائيل أيضاً مصلحة شبيهة ومصالح أخرى. هذا بغض النظر عما أحدثه الدمار من فرصة هائلة للاستثمار والانتفاع من الإعمار بالنسبة لكثير من تلك الأطراف. فمن البديهي إذاً ألا يكون حل الحرب السورية بيد السوريين فقط في ظل فشلهم وطمع الآخرين. فالتاريخ يعلمنا أنه لا شيء ينهي الحروب الأهلية المشتعلة أكثر من كبح جماح الحروب الباردة من ورائها والتعامل مع الأصابع التي تحرّكها من وراء الستار. ولنا في حروب أنغولا وغواتيمالا وفييتنام ولبنان وغيرها أمثلة.The Economist, “How to stop the fighting, sometimes,” 2013.
التاريخ يعلمنا أنه لا شيء ينهي الحروب الأهلية المشتعلة أكثر من كبح جماح الحروب الباردة من ورائها والتعامل مع الأصابع التي تحرّكها من وراء الستار
من هنا، ألا يمكن القول إن الأمم المتحدة، ولأعوام متتالية، فشلت في التعامل مع سوريا كمسرح حرب باردة بين لاعبين إقليميين يضيفون إلى الصراعات التي فيها صراعاتهم الخاصة؟ ألا يمكن القول إن المنظمة الدولية الكبرى أخفقت في لجم الأمم المتفرقة عن اتخاذ سوريا أرضاً لتصفية حساباتهم وتحقيق مصالحهم؟ ألا يمكن القول إنها رعت مفاوضات السلام الخاطئة أو القاصرة في جنيف؟ ألا يمكن القول إن منظمة الأمم المتحدة سارت في اتجاه السلام الخطأ؟
نهج خاطئ للمساعدات الإنسانية
رغم فشل المفاوضات، والتسويف الحالي للأمم المتحدة في الانخراط بعملية تمويل إعادة الإعمار انتظاراً لمرحلة «ما بعد الحرب»، قد يكون من الإجحاف القول إن نيتها كانت أو ما زالت إهمال الناس وتركهم لمصيرهم في الحرب. فالعُرف الدولي السائد يُلزم المجتمع الدولي بتركيز الجهد على المساعدات الإنسانية لإغاثة ضحايا الحرب ومساندتهم. غالباً ما تواجه هذه المساعدات تحديات جمّة في سياقات الحروب الأهلية، لما فيها من تعقيدات سياسية وحساسيات اجتماعية وطبقات متراكمة من المظلوميات والنزاعات والخلافات. وذلك فإن المؤسسات الإنسانية، تفادياً للانخراط في هذه التعقيدات وتركيزاً على دورها الإنساني، تتّبع جملة من المبادئ القديمة الراسخة للتدخل: كمبدأ الحياد ومساعدة كل المحتاجين بغض النظر عن خلفياتهم؛ ومبدأ عدم الانحياز إلى أي طرف من أطراف النزاع. لكن للأسف، وبسبب إهمال البعد المكاني والعمراني للنزاع في سوريا، آلت الجهود الإنسانية والإغاثية للوقوع في فخ التحديات التي حولتها إلى – وبعبارة متحفظة – حلقة جديدة من حلقات الضرر والظلم.
ففي أشد مراحل الحرب في سوريا استعاراً، قامت الجهات المتصارعة باستخدام العمران وسيلة من وسائل الحرب، ليقوم الجيش السوري ومساندوه باستخدام المدن كسلاح واستغلاله بكل الأساليب الممكنة لإلحاق الهزيمة العسكرية والسياسية والمعنوية بالمعارضة وبكل من أيّدها من أفراد وجماعات الشعب السوري. كان أحد أبرز هذه الأساليب فرض الحواجز والحصار على مدن أو أحياء برمتها، لتجويع مقاتلي المعارضة ومؤيديهم من السكان وتدمير معنوياتهم وإجبارهم على الانسحاب أو الاستسلام. ذلك كله في الوقت الذي يتم فيه التسويق للرواية الرسمية بأنه لا أحد يريد العيش تحت وصاية المعارضة «الإرهابية» أو في أماكن تواجدها، فالكل، يقول النظام، يفرّون من المعارضة والإرهابيين الذين يتخذونهم دروعاً بشرية ليعودوا إلى «حضن الوطن».
عملت الأمم المتحدة في هذا السياق لتنفيذ تدخلاتها الإنسانية وتوزيع مساعداتها الإغاثية عن طريق مكتبها لتنسيق المساعدات الإنسانية في فندق الفورسيزنز في قلب العاصمة دمشق، وذلك في سياق أحاط عملها بالكثير من الصعوبات والتحديات والتناقضات. وفي نهاية المطاف، وتحت مبررات ضرورات العمل من قلب دمشق، وبحجة أن وصول بعض المساعدات أفضل من عدم وصول أي مساعدات على الإطلاق، اختار مكتب المنظمة الرضوخ بشكل واضح لشروط وتوجيهات النظام السوري، والذي وضع كل ما طالته يده من عقبات في وجه إيصال المساعدات للمحاصرين في أنحاء سوريا، خاصة في أرياف دمشق. دفعت هذه الحيثيات كثيراً من فاعلي المجتمع المدني للاحتجاج. فقد وقعت أكثر من خمسين جمعية ومنظمة سورية تقريراً احتجاجياً مفصّلاًThe Syria Campaign, “Taking Sides: The United Nations ’ Loss Of Impartiality , Independence And Neutrality In Syria,” 2016. يتهم عمليات الأمم المتحدة بالانحياز للنظام وعدم التزام الحياد، وبالتالي مخالفة أهم أعمدة ومبادئ العمل الإنساني والإغاثي. أفاد التقرير أن ملايين الدولارات المخصصة لدعم المنظمات العاملة من دمشق وُزّعت بشكل شبه حصري في المناطق الخاضعة للنظام، وأن عمليات الأمم المتحدة لم تقدم المساعدات للمناطق المحاصرة بسبب قيود النظام لا بسبب الدافع الأمني لحماية عاملي الأمم المتحدة. استدل التقرير بأمثلة عديدة مثل عبور شاحنات المساعدات من خلال دوما، المحاصرة والشديدة العوز، للوصول إلى كفربطنا الخاضعة لسيطرة النظام في دمشق ومن دون تقديم أي مساعدات لأهل دوما أنفسهم. وفي الأشهر الثمانية الأولى من عام 2015 وصلت المساعدات الموزعة من خلال دمشق لما يقارب 4% فقط من المحاصرين. إن حيثيات الحصار العمراني المفروض على أحياء برمتها، والتدمير الممنهج للبنى التحتية والبنى الخدمية، والفشل الذي طال عمليات إيصال المساعدات للمحاصرين، كلها أجبرت الناس على الفرار من شبح الموت قصفاً أو جوعاً أو برداً أو مرضاً تحت الحصار. لم تجد هذه المأساة مكاناً حتى في تقارير مكتب تنسيق المساعدات، والذي دأب على استخدام مصطلحات بعيدة عن توصيف الواقع تجنباً لإغضاب النظام السوري، مفضّلاً الخضوع لممارسات غير شفافة وإعادة صياغة التقارير والمصطلحات المستخدمة ونفي وجود المنظمات الإنسانية غير التابعة للنظام.A. Sparrow, “Aiding Disaster: How the United Nations’ OCHA Helped Assad and Hurt Syrians in Need,” Foreign Aff., no. February, 2016.
أفاد تقرير أن ملايين الدولارات المخصصة لدعم المنظمات العاملة من دمشق وُزّعت بشكل شبه حصري في المناطق الخاضعة للنظام
في ظل غياب الفهم العميق لأهمية السياق العمراني بما فيه من حدود وحصار وتدمير متعمد للبنى التحتية والعمار، شكّل توزيع مكتب الأمم المتحدة لمساعدات بقيمة مليارات الدولارات ضرراً من حيث أراد النفع، وتعمّق جراح الشعب المنكوب، وتجاوز المبادئ الراسخة في العمل الإغاثي والإنساني. فبدل الحيادية المطلوبة، أسهمت عمليات الأمم المتحدة بتعزيز رواية النظام الرسمية عن عدم رغبة الناس في العيش خارج سيطرة النظام، وعن اندفاعهم «بالآلاف» نحو «حضن الوطن» دوناً عن أي من الروايات الأخرى. وخلافاً لمبدأ عدم الانحياز، ساهمت عمليات الأمم المتحدة – ولو عن غير قصد – في تعزيز سطوة أحد أطراف النزاع على حساب الأطراف الأخرى. وبدل حماية وإغاثة الأكثر ضعفاً، رضخت لإجبارها على تهميش أولئك القابعين في أسوأ الظروف المعيشية في العالم، محاصرين بالقصف والبرد والجوع والمرض. ورغم أن وجهة نظر القائمين على مكتب التنسيق جاهزة (بعض المساعدة أفضل من لا مساعدة على الإطلاق) لا يبدو أن آلاف الأهالي الذين قضوا جوعاً أو مرضاً أو برداً تحت الحصار أو هُجّروا من ديارهم يتفقون مع وجهة النظر هذه بعدما شهدوا الدعم السياسي والمعنوي والعسكري الذي قدمته للنظام السوري.
نهج خاطئ لإعادة التأهيل
فيما يبدو موقف الأمم المتحدة من تمويل إعادة الإعمار واضحاً، أي لا إعمار حتى انطلاق عملية سياسية فعالة في البلاد، إلا أنها في عدة حالات فشلت في النأي بنفسها تماماً عن كل ما يمتّ للعمران وإعادة الإعمار بصلة – ولو كان ذلك تحت مسمى إعادة التأهيل أو المساعدات الإنسانية لتيسير عودة المهجّرين إلى منازلهم. فعلى سبيل المثال، بعد معركة حلب في نهاية عام 2016، والتي أعقبت فترات من الحصار الشديد، وانتهت بسيطرة النظام السوري على المدينة وتهجير مئات الآلاف من سكانها وتدمير جزء هائل من منازلها وبُناها التحتية في قسمها الشرقي، انخرطت المفوضية العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة في مشروعات بناء في حلب بالتنسيق مع وزارة الإدارة المحلية التابعة للنظام السوري. وقد ركزت المشاريع على ناحيتين، الأولى إنسانية هي تيسير عودة اللاجئين؛ والثانية إعمار حلب القديمة. ولكن ما تسرّب من آليات إعداد خطط التدخل، كما ورد في تقرير لشبكة فوكس نيوزE. Beals, “UN allowing Assad government to take lead in rebuilding Aleppo,” Fox News, 2017. يدلل مرة أخرى على قصور الأمم المتحدة في تعاملها مع البعد العمراني كبعد محوري لضمان عمليات إعادة تأهيل عادلة ومستدامة ومبنية على الحقوق. ويبدو أن ديناميات مشابهة لسوء توزيع المساعدات في ريف دمشق حدثت في حلب في عام 2017. فرغم إعداد المفوضية للائحتها الخاصة بأسماء الأحياء ذات أولوية المساعدة والتأهيل، فإن تلك اللائحة لم تُعتمد إلا بعد مقاطعتها مع لوائح من إعداد النظام، وهو الطرف في النزاع الذي لم يتوانَ عن تطويع العمران لكسب جولة جديدة في الصراع. وبحسب التقرير فإن غالب مشاريع إعادة تأهيل المدارس والمراكز الطبية وبناء المراكز الاجتماعية حدثت حصراً في الأحياء التي حددها النظام كأولوية، علماً أن بعض المشاريع خدمت أحياء لم تكن أساساً في حلب الشرقية، الأكثر تعرضاً للدمار. ومن جهة أخرى، فإن هذه العمليات لم تأخذ بعين الاعتبار، ولا حتى بالحدّ الأدنى، الاعتبارات المحورية المرتبطة بعشرات الآلاف من سكان حلب الشرقية الذين يعيشون خطر فقدان عقاراتهم بعد تلف وثائق ملكيتهم؛ ولم تأخذ بعين الاعتبار حقيقة أن تأهيل المنازل في حلب الشرقية لا يكفي بحال من الأحوال لعودة عشرات آلاف المهجّرين الذين يخشون العودة لأسباب أمنية. ومن دون ضمانات فعلية أمنية وقانونية لعودة سكان حلب الشرقية الأصليين، تنطوي عمليات إعادة التأهيل هذه على تثبيت تهجيرهم وتعزيز حرمانهم من حقوقهم، وهي تُسهم في خلق شبكات نفوذ وسيطرة جديدة في المدينة محل الشبكات الأهلية القديمة، ناهيك عما يحمله انعدام السيطرة على آليات تحديد أولويات النظام من تعزيز لسطوته على حساب حقوق الناس.
تشير تقارير إلى أن غالب مشاريع إعادة تأهيل المدارس والمراكز الطبية وبناء المراكز الاجتماعية في حلب حدثت حصراً في الأحياء التي حددتها الحكومة كأولوية
يصف تقرير «لا عودة إلى حمص»PAX For Peace and The Syria Institute, “No Return to Homs – A case study on demographic engineering in Syria,” 2017. حالة ثانية لقصور تعاطي الأمم المتحدة مع عمليات إعادة التأهيل المندرجة ضمن برامج المساعدات الإنسانية. فقد تعرضت حمص مع بداية 2012 لحملة عنيفة من التدمير والمجازر والاعتداءات الجنسية والسرقة و«التعفيش»، والتي أدت لنزوح الآلاف من سكان المدينة، خاصة من الأحياء ذات الغالبية السنية. وخلال عدة أشهر، استعاد النظام السوري بدعم من الميليشيات المساندة له السيطرة على أجزاء واسعة من أحياء بابا عمرو وكرم الزيتون وباب سباع وغيرها من الأحياء، المجاورة في غالبها للأحياء ذات الغالبية العلوية. ساهم الطابع الطائفي لهذه الحملات في توليد الكثير الشحن الطائفي في حمص، والذي صار أحد ملامح النزاع الرئيسية فيها. وفي منتصف العام نفسه، فرضت قوات النظام وحلفائه حصاراً خانقاً على باقي أحياء المعارضة ومع تدهور الأوضاع فيها، بدأت العوائل بالنزوح رغم الخطر الذي كان ينطوي عليه ذلك، ولم يتبقَّ في حمص إلا أقل القليل. تجددت الحملة العسكرية في نهاية العام 2013، وانطلقت على إثرها مفاوضات برقابة أممية لإنقاذ حياة من تبقى من السكان العالقين عن طريق «الإخلاء»، أو ما تصح تسميته أكثر بالتهجير القسري، الأمر الذي عرّض الأمم المتحدة للنقد الشديد، خاصة مع ما رافق «الإخلاء» من اعتقال للرجال وتعذيبهم وقتلهم. لم تخفّ حدة هذه الانتقادات في المراحل اللاحقة، فبعد ما تعرضت له حمص من دمار وحصار وتهجير قسري، سمح النظام بعودة بعض سكان حمص لأحيائهم، مثل حي الحميدية ذي الغالبية المسيحية. كان الحميدية أول الأحياء التي تم السماح بعودة سكانها إليها، ومن أولها إدراجاً في برامج إعادة التأهيل المدعوم من الأمم المتحدة، الأمر الذي أجّج الشحن الطائفي أكثر فأكثر، خاصة مع بقاء أحياء مثل بابا عمرو والخالدية خاوية. ورغم إعادة تأهيل الطرق للوصول لمناطق عدة وسط حمص، تم تجاهل حي باب هود الاستراتيجي والذي كان معقلاً للمعارضة، وذلك لأسباب مجهولة يراها كثيرون ذات دوافع سياسية. يصف التقرير أيضاً كيف أن الأعمال المدعومة لإزالة الركام من حي جورة الشياح وسط مدينة حمص، والذي تم «إخلاؤه» باتفاقية عام 2014، لم ترافقها أي محاولات تواصل مع أصحاب المنطقة الأصليين، الأمر الذي يراه كثيرون تهديداً لحقوق ملكيتهم. ومن جهة أخرى فإن التزامات الأمم المتحدة للعمل مع الحكومة من أجل إعادة إعمار مدينة حمص، في وقت كان لا يزال فيه الأهالي في حي الوعر المجاور تحت الهجوم والحصار، تطرح تساؤلات أخلاقية وسياسية لا يمكن إغفالها. إن منهجية عمل الأمم المتحدة في حمص، سواء في مرحلة احتدام القتال أو فيما تلاها من مراحل بداية عودة بعض النازحين، تثير تساؤلات حول إسهامها في تعزيز استراتيجيات التغيير الديموغرافي، أو بأقل تعبير حول جدواها في تخفيف حدة النزاع والانتقال بطريقة فعالة نحو السلام.
رغم إعادة تأهيل الطرق للوصول لمناطق عدة وسط حمص، تم تجاهل حي باب هود الاستراتيجي الذي كان معقلاً للمعارضة لأسباب مجهولة يراها كثيرون ذات دوافع سياسية
نهج خاطئ لإعادة الإعمار
يصطف اليوم الحلفاء على طرفي جبهة معركة الإعمار معلنين ولاءاتهم، فحلفاء النظام أوضحوا مراراً دعمهم واستعدادهم للاشتراك بتمويل إعادة الأعمار. فقد قال نائب الرئيس الإيراني بداية عام 2019 أن بلاده «ستكون إلى جانب سوريا في مرحلة الإعمار، كما كانت إلى جانبها في الحرب على الإرهاب»، قبل أن يعلن عن توقيع مجموعة من الاتفاقيات الثقافية والاقتصادية والاستثمارية وغيرها.حزب البعث، “سوريا وإيران توقعان 11 اتفاقية تعاون في المجالات الاقتصادية والعلمية والثقافية والاستثمار والإسكان”. كانون الثاني 2019. أما الرئيس الروسي فعمل على إقناع الغرب بتمويل الإعمار بحجة دفع اللاجئين للعودة، ووقّع اتفاقيات مع النظام السوري للمساعدة في التنقيب عن الفوسفات سيسيطر الروس بموجبها على 70% من ناتج الفوسفات السوري – وهو ما يمكن النظر إليه كاسترداد لفاتورة دعم السنوات السابقة أكثر منه مساعدة فعلية لسوريا. بالطبع، إذا ما نظرنا من ناحية عملية، فالقدرة المادية لروسيا وإيران لا توحي بإمكانية دعمهما لأي إعادة إعمار حقيقية في سوريا.J. Yazagi, “Opinion: No Reconstruction for Syria.” The Syrian Observer, 2017. وعلى الطرف الآخر من الجبهة، يستمر الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة بفرض العقوبات الاقتصادية على دمشق، مثبّطَين بذلك شهية المستثمرين على الإقدام على مشاريع الإعمار. وفي الوقت نفسه يتحفظ كلا الطرفَين الغربيَّين على تمويل إعادة الإعمار ريثما تبدأ عملية سياسية حقيقية ذات مصداقية في سوريا تؤدي لحكومة تمثل مصالح السوريين على حد تعبيرهم، مكتفِيَين حالياً بالتخطيط أو الدعوة للتخطيط لمرحلة ما بعد «الاتفاق» ليتمكنا من الاستجابة السريعة لمتطلبات الإعمار في حينها.Council of the EU, “Supporting the future of Syria and the region: co-chairs declaration,” 2017. وبدورها تتبع الأمم المتحدة المقاربة الأوروبية والأميركية وتعارض تمويل الإعمار في الوقت الحالي، مستخدمةً معارضتها هذه كورقة ضغط سياسية على السلطة في سوريا. أما دول الخليج فتقف اليوم متذبذبة في مكان ما بين طرفي الجبهة، وهي تدرس احتمالية التطبيع مع نظام عادته سابقاً لإبعاده عن دائرة النفوذ الإيراني في المنطقة، الأمر الذي قد يترجَم – إن حصل – إلى مبالغ هائلة يعرضها الخليج على دمشق وفقاً للغة المتبادلة بينهما منذ عقود. وبالفعل قامت الإمارات والبحرين بإعادة افتتاح سفارتيهما في دمشق، في حين تبقى السعودية وباقي دول مجلس التعاون الخليجي أكثر حذراً.بي بي سي، “الإمارات تعيد فتح سفارتها في العاصمة السورية دمشق”، 27 كانون الأول 2018.
قد يقول البعض إن المعارك تراجعت، وأعداد الضحايا في أدنى مستوياتها، ومعركة «إسقاط» النظام انحسرت وانهزمت. ولكن للأسف فإن حرب سوريا أثبتت دوماً أنها أكثر تعقيداً مما تبدو عليه. فإن صحّت بالفعل فرضية أن معركة إسقاط النظام سقطت، فلا شكّ أن معركة بقائه تمدّدت واستعرت. وبعيداً عن التجاذبات الكلامية حول من سيدفع فاتورة الإعمار، تواصل أجهزة الحكومة السورية محاولتها إبقاء النظام، متخذةً من التعمير والتدمير أسلحةً لتعزيز سلطته وسيطرته «إلى الأبد». يسعى النظام من خلال هذه الأسلحة لخلق أمر واقعٍ، وترتيبات اجتماعية وديموغرافية وسياسية جديدة، وأطر إعادة إعمار قانونية وتشريعية وعمرانية، بحيث يستحيل معها إسقاط النظام أو التفكير في محاولة إسقاطه، ويعاد من خلالها توجيه أي عمليات إعمار قائمة أو مستقبلية بما يمهّد لانتصار غير متنازع عليه في معركة البقاء. فبعد أن توالت الأنباء والتوثيقات لما جلبه الدمار والحصار والتلاعب بالخدمات من تهجير وتغيير ديموغرافي على أساس طائفي وسياسي تمييزي، ومن تعزيز للسلطة على أساس إقصائي، وبعد ما تم توثيقه من تجريف لأحياء برمتها بغير وجه حق في دمشق وحماة،Human Rights Watch, “Razed to the Ground, Syria’s Unlawful Neighborhood Demolitions In 2012-2013. ” 2013. تتوالى اليوم أنباء ما يسبّبه أو سيسبّبه الإعمار من تعميق لهذا التمييز والإقصاء. يطوّع النظام اليوم المشاريع والمخططات التنظيمية في دمشق وحماة وحمص، ويفرض جملة من القوانين الإشكالية للإعمار – من المرسوم رقم 66 لعام 2012 إلى القانون رقم 10 لعام 2018 وصولاً للقانون رقم 5 لعام 2016 وغيرها من القوانين الذائعة الصيت.S. Abou Zainedin and H. Fakhani, “To reconstruct or not to reconstruct,” After the fall: Debating reconstruction in a broken Syria, no. 23, Syria Notes, pp. 6–11, 2018. وقد تعرضت هذه القوانين والمشاريع المصاحبة التي يتم تنفيذها لانتقادات واسعة لما فيها من محاولات لحصر الضرر بالمعارضين، أو الموصومين بـ«بالإرهاب» أو «حاضني الإرهاب»، ولما تنطوي عليه من مخاطر كبيرة قد تحرم الآلاف من سكان «المخالفات» من حقوقهم، وتحرم آلاف المهجّرين من منازلهم بسبب الحصار والدمار من استعادة ملكياتهم والعودة إلى مدنهم وقراهم، ناهيك عن إتاحتها المجال بشكل حصري لشركات تدور في فلك المحاسيب للتشارك مع الحكومة بما يضمن لها النموّ والتمكن والاستئثار بالانتفاع المادي. كل هذه ترتيبات ومشاريع أقل ما يقال فيها أنها تُقصي أكثر من عشرة ملايين لاجئ ونازح وتكافئ أولياء وحلفاء الحكومة وتمهد لسيطرتهم بطريقة لا يمكن منازعتها.J. Daher, J. Yazigi, S. Said, and A. Shaar, Reconstructing Syria: Risks and side effects. 2019.
تواصل أجهزة الحكومة السورية محاولتها إبقاء النظام، متخذةً من التعمير والتدمير أسلحةً لتعزيز سلطته وسيطرته «إلى الأبد»
في هذه الأثناء، يبدو أن العالم شغل نفسه بالتجاذبات القائمة حول سؤال «من سيدفع فاتورة الإعمار في سوريا؟». من سيدفع 488 مليار بأصفارها التسعة وبالدولار؟ أهُم صدقاء سوريا من هذا الطرف أم من ذاك؛ هل هم الروس والإيرانيون وحلفاء النظام؛ أم المتذبذبون الخليجيون، أم هي الأمم المتحدة وأوروبا وأميركا، أم خليط من هؤلاء وأولئك؟ يسألون هذا السؤال وكأن كل شيء عبارة عن مال، وكل مظلمة تحدث اليوم يمكن جبرها بالمال، وكل حي يُجرَّف اليوم يمكن استعادته بالمال، وكل عائلة تُطرد من أرضها اليوم يمكن إعادتها بالمال، وكل حيتان السوق الذين يتم تمكينهم اليوم يمكن تجاوزهم غداً بالمال، وكل قواعد الإعمار التي تبنى اليوم يمكن مَحوُها بالمال، وكل الوقت يمكن إرجاعه للوراء بالمال.
Aliaa Aboukhaddour – علياء أبو خضور
خطوات في الاتجاه الصحيح؟
إسقاط الضوء على أخطاء الأمم المتحدة، سواء في المساعدات الإنسانية خلال الحرب أو في المفاوضات الرامية لإنهائها أو في العمل على إعادة إعمار ما «بعدها»، ليس الهدف منه وضعها في قفص واتهامها بالفشل مراراً وتكراراً، بل هي محاولة للوقوف على أسباب هذا الفشل وسعي لتصحيح النهج. وهو ما ينطلق من رؤية أن الإعمار والسلام الحقيقيَّين غير ممكنَين دون إعطاء الأولوية لجبر مظالم الناس ووقف توليد غيرها، وأن ذلك هو الطريق الوحيد للإعمار والسلام المستدام.
تتوالى الأمثلة على التلاعب بالتخطيط العمراني واستغلال التدمير واحتكار عمليات التعمير لتؤكد مجدداً أن العمران ليس مجرد فضاءات فيزيائية وجدران وبنى تحتية حيادية، بل هو فضاء ووسيلة في آن معاً؛ كانت وما زالت تُدار فيه ومنه وبه النزاعات. هذا يجعل من فهم الارتباط الوثيق بين العمران والنزاع شرطاً جوهرياً لتصميم وتنفيذ أي تدخلات، سواء تحت مسمى الإغاثة أو التأهيل أو الإعمار، بما يضمن عدم المخاطرة بالوقوع في فخ الضرر الذي يراد منه النفع.
لا يمكن النظر لعمليات التدخل في النزاع السوري بأبسط أشكالها، كإيصال للمساعدات الإنسانية، كمجرد نقل مواد بشكل حيادي بين نقطتين محايدتين سياسياً وموجودتين في مكان محايد أو في «اللامكان»، خاصة عندما تحوّل الحرب الأمكنة المترابطة والنُّسُج العمرانية المتصلة لمجموعة من الأمكنة المتشظية والمنفصلة بالحواجز والسواتر والجبهات. ولا تعني حيادية العمل الإنساني التي تعلنها الأمم المتحدة أو أي من منظمات العمل الإنساني ذاك التجريد، بل تعني حياد التخطيط للعمليات والتدخلات من خلال استيعاب صلتها بسياسات السياق العمراني المكاني وما تحمله هذه الصلة من إمكانيات ترسيخ ظلم أو تعزيز سلطة جائرة، وبالتالي تثبيت حصار ظالم وتهجير سكان متعبين وتهديم آمال حالمين، وإعلاء صوت البروباغندات وتخفيض أصوات الضعفاء. رأينا ذلك في حصار الغوطة وحمص وحلب وغيرها؛ رأيناه عندما أسهمت عمليات الإغاثة القاصرة في تثبيت سردية النظام السوري وإنفاذ سياساته. لا أحد يرغب بالبقاء في الغوطة، والكل يغادرها، لا لجوع ولا لخوف ولا لمرض ولكن «للعودة إلى حضن الوطن» كما يقولون. لا يجب النظر لإيصال المساعدات كمجرد إيصال لمواد من نقطة أولى إلى نقطة ثانية من خلال نقطة ثالثة، بل هي عمليات متجذرة في السياقات العمرانية للنزاع كأمكنة جغرافية ذات أهمية سياسية محددة، وكمناطق نفوذ لقوى عسكرية محددة ذات أهداف محددة، وكحيّزات محاصرة أو مفصولة بحواجز تابعة لقوات محددة، وكبيئات حاضنة لمجتمعات بانتماءات وهويات محددة، وكأسماء لأحياء ارتبطت بذكريات محددة. إن فهم العمليات ضمن سياقها في النزاع العمراني بهذا العمق يطرح أسئلة كثيرة عن إمكانية تطبيق مبادئ الحيادية وعدم الانحياز بفهمها التقليدي في الإعمال الإغاثية ويجعلها أكثر تعقيداً، الأمر الذي يجب أن يُعيد البُعد الأخلاقي والسياسي – تحت مبدأ لا ضرر ولا ضرار – إلى صدارة العمل الإنساني، إذ لا تشكل عبارة «بعض المساعدات أفضل من لا مساعدات على الإطلاق» دائماً جواباً كافياً.
لعمليات التأهيل والإعمار تعقيدات أخرى، فهي لا تدور فقط في فلك الأمكنة بل تُدار بها. فتصبح الجدران والحجارة والعمران وما يرتبط بها من تدمير أو إعمار سلاحاً ذو حدين، يعمِّر بحدّه الأول ليهدم بالآخر، ويبسُط بحده الأول ليرفع بالآخر، ويجيب عن سؤال بحدّه الأول ليطرح عاصفة من الأسئلة بالآخر. يتجلى ذلك واضحاً في ممارسات النظام للإعمار بعقلية مقاتل في معركة البقاء. فعمليات الإعمار الحالية – سواء سنّ القوانين الإشكالية التي تهدّد أملاك الناس وتؤبّد نزوحهم، أو تمكين الشبكات الاستثمارية الموالية لاحتكار الإعمار، أو إعمار المشاريع الفخمة الإقصائية لخدمة الأقلية الغنية على حساب أكثر الناس ضعفاً – ما هي إلا نماذج عما قد يجلبه سيف الإعمار من تهديم وإجحاف. فإذا تم أخذ هذه الحيثيات والمجريات بعين الاعتبار، وإذا كان السعي للإعمار في الحقيقة بغية الوصول إلى السلام، تصبح جدليات التمويل حديثاً عقيماً لا طائل منه. فلا خير في تمويل إعمار قائم على هدم حقوق الناس، ولا خير في تمويل إعمار يهدف إلى تثبيت حرمان الناس، ولا خير في تمويل إعمار يعزّز سلطة جائرة. الأولوية هنا هي لضمان أن تسهم عمليات الإعمار باسترداد حقوق الناس وجبر مظالمهم ونزع فتيل النزاع والحرب، سواء أحدث الإعمار اليوم أم غداً أم في المستقبل البعيد، أياً يكن من يموّل هذا الإعمار، أكانت الأمم المتحدة أم أوروبا أم أميركا أم السعودية أم إيران؛ وأياً يكن من يقوده، أكانت الحكومة الحالية أم حكومة مستقبلية منتخبة أم الأمم المتحدة بحد ذاتها. من هنا فإن على الأمم المتحدة إعطاء الأولوية لدورها كمراقب لعمليات الإعمار، قبل دورها كممول لها، وعليها أن تطرح سؤال «أي إعمار نريد أن نموّل؟» قبل سؤال «من سيمول الإعمار؟». فالأولوية هنا ينبغي أن تكون لتعزيز الإعمار المبني على الحقوق.
لا يمكن عزل تدخّلات الإعمار عن السياق العمراني، بما يشمله هذا السياق من وضع فيزيائي على الأرض، ووضع حقوق ملكية وأطر قانونية وتشريعية للإعمار، ووضع شبكات استثمارية في قطاع العقار وشبكات اجتماعية في التجمعات المعمورة. ليس هذا السياق العمراني نقطة ثابتة من الزمان، وليس حالاً ثابتة، بل هو حقائق متغيرة مع كل يوم. فالسياق العمراني عام 2011 لا يشابه السياق العمراني قبله ولا بعده، والسياق العمراني اليوم لا يشابه السياق العمراني الشهر الماضي ولن يشابه السياق العمراني في الشهر المقبل. وفي ظل ما تشهده سوريا اليوم من إعادة ترتيب وخلق للسياق العمراني، بتشريعاته وقوانينه وسندات ملكياته وشبكاته الاجتماعية والاستثمارية، لتحقيق مصالح سياسية واقتصادية إقصائية، فإن مجرد الانسحاب من عمليات الإعمار يعني التواطؤ في ترك الباب مفتوحاً على مصراعيه لنموّ هذه الترتيبات وترسّخها وسيطرتها على إعمار اليوم والمستقبل. من هنا فإن التصدي لهذا الإعمار الإقصائي لا يقل أهمية عن تمويل مشاريع إعمار مبنية على الحقوق، وهو التصدي الذي لا يجوز أن يقتصر على الانسحاب. إذ لا يمكن أن تجري مقاومة خلق هذه الترتيبات الجديدة للسياق العمراني من موقع المتفرج، ووقف التدخل في عمليات الإعمار اليوم لا يعني توقف الوقت وتجمد السياق العمراني فجأة. وعليه فإن دور الأمم المتحدة والمجتمع الدولي وأصدقاء سوريا المقاوم والمقوّم لعمليات الإعمار وخلق سياقات وقنوات إعمار غير عادلة لا ينبغي نفض اليدين منه أو تأجيله.
في محاولة لدفع الأمم المتحدة والمجتمع الدولي نحو تبني دورهما الرقابي والمقاوِم والمقوِّم، عمل عدد من الأكاديميين والباحثين والمؤسسات والمنظمات، بما في ذلك تلك التابعة للأمم المتحدة وللاتحاد الأوربي، على إيجاد مداخل يمكن الشغل عليها أو من خلالها لتقويم المنهج وتجنب تعزيز الاتجاه الخاطئ للتدخل. اشتغل البعض على سؤال الملكية وما قد ينتج عنه من مظالم في سياق الإعمار الحالي، وعلى الآليات التي يمكن العمل من خلالها على توثيق حقوق الناس وخلق أطر لاسترداد الملكيات.S. Aita et al., “Urban Housing And The Question Of Property Rights In Syria,” 2017. واقترح آخرون ضرورة مقاومة ممارسات الحكومة للسيطرة على الإعمار وفرض الأطر الإقصائية، مشيرين إلى إمكانية العمل من خلال آليات تتجاوز الحكومة وتعمل مع المجتمعات المحلية بما خلق توازن قوى بين المجتمع والنظام؛ أو من خلال العمل على نطاقات صغيرة مع مجتمعات محلية بما يعكس حاجاتها المباشرة، بدل العمل من خلال أهداف الحكومة العامة التي قد لا تنطلق من تلك الحاجات.S. Heydemann, “Rules for reconstruction in Syria,” Brookings, 24-Aug-2017. كما أشار البعض إلى ضرورة العمل في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام بما يخلق بديلاً مبنياً على الحقوق، وبما يقلل من شعور النظام بالسيطرة المطلقة على آليات وأطر الإعمار، الأمر الذي يدفعه للتفكير مرات أخرى في السياسات التي يتبعها وجدوى الاستمرار فيها.
خاتمة
إن مظالم الماضي ومآسي الحاضر وما يُعدّ له في المستقبل تشكل كلها أسباب متراكمة للـ«النزاع» في سوريا. وفي سياق التلاعب بالتخطيط قبل الحرب، واستغلال التدمير خلال الحرب، ومحاولة احتكار إعمار ما بعد الحرب ووضعه في خدمة الأقوى، كان التحييد الظاهري للعمليات التي ترعاها الأمم المتحدة عن ارتباطاتها بالحيثيات العمرانية في «النزاع» السوري قد جعلها بيادق بيد الطرف الخطأ من «النزاع»، وجعل من مساعداتها الإنسانية وقوداً في حرب المعنويات والسياسة والتهجير، فكانت ضرراً أُريدَ به نفع، وحرفاً لمبادراتها للإعمار والتأهيل نحو تواطؤ مع الولاءات والمكافآت والتحيزات. وهكذا أصبح تقاعسها عن التدخل في مراقبة العمران تعامياً عن تمادي البيئة التي تجعل احتكار العمران والإعمار واقعاً غير قابل للتغير، يربح فيها رابحو معركة الحرب معركة السلام، ويكون فيها ضحايا الحرب ضحايا للسلام والإعمار. كل ذلك يجعل من الأمم المتحدة واقفة على الجانب الخطأ من «النزاع» والعمران في سوريا. وهو ما يفرض بالضرورة على الأمم المتحدة تقويم ذلك من خلال تعميق فهمها لما يربط عملياتها بالنزاع وبالسياق العمراني، ومن خلال تبنّيها لدور رقابي ومقاوِم ومقوِّم قبل دورها كممول.
*****
هاني فاكهاني: مهندس معماري وممارس حضري سوري، يبحث ويحاضر ويصمم في مجال إعادة الإعمار والإسكان. مؤسس مشارك للمنظمة الناشئة ‘سكن للمجتمعات الإسكانية’ ولشركة خاصة بالخدمات المعمارية. حاصل على شهادة الماجستير في البناء والتصميم العمراني في التنمية من وحدة تخطيط التنمية في كلية لندن الجامعية UCL، حيث بحث العلاقات المتبادلة ما بين إعادة الإعمار والحوكمة والسلام في سوريا، وعلى بكالوريوس في الهندسة المعمارية من جامعة دمشق.