يعيش ملايين السوريين مبعثرين فوق رقعة الشتات الواسعة اليوم، مخلّفين وراءهم عائلات وأحباباً تعوّدوا أن يشاركوهم لحظاتٍ مفصليّة حلوة ومرّة، فلا ينفكون يبحثون عن كوى صغيرة ينسلّون عبرها إلى مناسباتٍ ذات قيمة عاطفية كبيرة لهم ولمن فارقوهم في البلاد، وهو ما لفت انتباه عددٍ من السوريين داخل البلاد وخارجها، فوجدوا فيه مساحة للعمل، إذ أن كثيرين يريدون إيصال أغراض من الشتات إلى سوريا أو بالعكس.
ورغم أن التحويلات المالية قد تؤمّن إيصال المال اللازم لشراء هذه الأغراض، إلا أنّ إيصال شيء ملموس من فلان إلى فلان بشكلٍ مُفاجئ سيكون أكثر عاطفيّةً وأعمق أثراً. وبالفعل بدأت تظهر صفحات على فيسبوك تختصّ بنقل الهدايا، ويعمل القائمون عليها بمثابة نقاط وصلٍ بين الخارج والداخل، ثم توالدت هذه الصفحات وتعددت بسبب نجاح الفكرة، إلى أن أصبح البحث عن إحداها كفيلاً بنقلنا إلى عشرات الصفحات التي تعمل في المجال نفسه؛ نقل المشاعر والبضائع.
كيف يعمل هؤلاء وماذا يقدّمون؟
تواصلنا مع القائمين على إحدى هذه الصفحات كزبائن عاديين يريدون إيصال مواد عينية إلى سوريا؛ تنوّعت دوافعها بين هدايا الخطوبة وعيد الميلاد، أو تقديم سلّة غذائية لعائلة في سوريا نظراً لاقترابنا من شهر رمضان. وغالباً ما كان الرد يأتي خلال مدّةٍ لا تتجاوز ساعةً واحدة من القائمين على خمس صفحات مختلفة، واللافت أنّ جميع الإجابات كانت من نساءٍ يشدّدن على التعريف بأنفسهنّ كنساء عند الردّ على رسائلنا. وعند خوضنا في تفاصيل العملية أكثر، كُنَّ يبعثنَ برسائل صوتية أو يطلبن إجراء مكالمة لاختصار الوقت وزيادة الثقة بين الطرفين، وكنّ محنّكات خلال الحديث كتاجر مديني يُكثر من مفردات التقرّب والدعاء.
من خلال استعراض الصفحات، لاحظنا أنّ القائمين عليها يدأبون على نشر عروضٍ تتناسب مع طبيعة الموسم، ففي فترة عيد الأم مثلاً هنالك قوالب كيك يكتبون فوقها العبارة التي يريدها الزبون، ويرفقونها بالورود ويزينونها بأوراق نقدية من فئة ألف ليرة سورية عند الطلب، إذ يكفي أن تحوّل للقائمين على إحدى الصفحات مبلغ 45 دولار من البلد الذي تعيش فيه، حتّى يصل إلى والدتك قالب كيك إلى بيتها وعليه اسمها مع رسالة منك أو تسجيل صوتي، كما يمكن إضافة أي هدية أخرى مقابل مبلغ مالي إضافي. وبعد انتهاء الطلب وتسليمه تنشر الصفحة صورة للهدية أثناء تحضيرها وأخرى عند باب المرُسَل إليه، برفقة منشور يشرح اللحظات العاطفية التي كانت الهدية قد ولّدتها لمختلف الأطراف التي ساهمت فيها.
ويشمل هذا أنواعاً لا حصر لها من المناسبات، التي يمكن للعاملين في هذا المجال تأمين الهدايا المتعلقة بها، وهي تشمل «أي شيء يتوفّر في سوريا ولأيّ وجهة يمكن الوصول إليها عبر القائمين على الصفحة وشركائهم أو عن طريق الشحن، كما يمكنك اختيار المكان الذي تودّ شراء هديّتك منه إذا كان قريباً من أحد العاملين»، وذلك بحسب إحدى العاملات في هذه المهنة.
إحدى الصفحات نشرت إعلاناً قالت فيه إنّ موسم العروض الرمضانية قد بدأ، وإن بإمكان السوريين من أوروبا شراء سلل رمضانية قيمة الواحدة منها 100 دولار أمريكي، ليتم إرسالها إلى وجهة يختارونها في سوريا، ويشمل هذا السعر إيصالها إلى باب المنزل. وفي الواقع يمكن لشخص يسكن في دمشق شراء المواد نفسها بنصف هذا المبلغ، أي أنّ الربح الذي تجنيه هذه الصفحات قد يصل إلى حدود 50%.
السواد الأعظم من الصفحات لا يقتصر في عمله على اتجاه واحد؛ أي على أموال محوّلة من الخارج لتقديم هدايا أو بضائع في سوريا، بل إن العكس موجود أيضاً، كما أن بوسع بعض القائمين بهذا العمل إيصال الهدايا من شخص مقيم في أوروبا إلى آخر يعيش في الأردن أو لبنان أو تركيا أو الصين. ويضاف إلى ذلك أن هناك صفحات مختصّة بنقل الهدايا والعينيّات بين الأراضي التركيّة والمناطق الخاضعة لسيطرة فصائل المعارضة في سوريا.
ويتبيّن من خلال المعلومات التي يوفرها فيسبوك عن هذه الصفحات، أنّها تدار غالباً من قبل أكثر من شخص يتوزعون بين سوريا وأوروبا ودول الجوار السوري؛ تقول مُشتغلة في هذا المجال للجمهورية «إنّ عائلاتٍ كثيرة في سوريا باتت تعتاش من عملية تأمين هدايا المغتربين وإيصالها لذويهم».
آلية تحويل الأموال
لا تتجاوز قيمة معظم الهدايا والأغراض التي يتمّ طلبها عبر هذه الصفحات مبلغ 100 يورو، وبدون تواتر منتظم، ومن ثم فإن هذا النوع من التحويلات مشروع ولا يتعارض مع القوانين التي تفرضها السلطات المالية الرقابية، حتّى لو كان المُرسِل لاجئاً يتقاضى مساعداتٍ من حكومات الدول التي لجأ إليها، غير أنّ إشاعاتٍ يتداولها العاملون في هذا المجال تحدّثت عن نية حكومة النظام إصدار قرار يجرّم العاملين فيه إذا لم يكن لديهم سجل تجاري.
تقول إحدى مديرات الصفحات التي توصل هدايا في سوريا إنّها ترسل المال إلى أهلها الذين يعملون معها بين فترةٍ وأخرى، وذلك كي يبقى كرأس مال يشترون الهدايا بواسطته، كما أنّ جزءاً من الأموال التي يعملون بها في الداخل يأتي من الهدايا التي يُدفع ثمنها في سوريا لكي تُسلّم في أوروبا.
ألبسة وماركات
بالإضافة إلى الهدايا ذات البعد العاطفي المباشر، هنالك شريحة اجتماعية في سوريا لديها القدرة المالية على شراء ملابس فاخرة من ماركات عالمية شهيرة، ومعظم هذه الماركات لم تعد موجودة في سوريا، أو انخفضت جودة بضائعها قياساً بما قبل العام 2011. وليس يسيراً على كثيرين في سوريا السفر إلى لبنان أو غيره للتسوق، لذلك يتم اللجوء إلى صفحات فيسبوك أو أشخاص موجودين في سوريا وتركيا وأوروبا لهذا الغرض.
إحدى الصبايا المُقيمات في دمشق أنشأت في العام 2015 صفحة تعرض من خلالها صوراً لملبوسات من محال تجارية عديدة في لبنان، وإذا أُعجب أحد الأشخاص بشيء من المعروض، يقوم بمراسلة الصفحة لطلب سعره، والاتفاق مع مديرتها على آلية نقل المال ومكان تسليم البضاعة، وكثيراً ما يكون الأمر هنا أيضاً متعلقاً بإيصال هدايا من الملابس غالية الثمن في مناسبات معينة.
تقول الصبية للجمهورية «بعد أربعة مشاوير إلى بيروت لم أعد مضطرةً للسفر أبداً، فأصحاب المحلات باتوا يرسلون لي صوراً بكل جديدٍ لديهم، فأقوم بعرضها وأستقبل الطلبيات وأحوّلها إلى التاجر اللبناني الذي تعاقد من أجلي مع سائق تاكسي يعمل على خط بيروت-دمشق لقاء مبلغ متّفق عليه عن كلّ قطعة يجلبها، ويتكفّل هو بتمريرها عبر الحدود، وحين تصلني البضاعة أضع ربحي فوق سعر الكلفة وأبيعها.
وعن طبيعة زبائنها اليوم، تشرح أنّها بعد أربع سنوات من العمل نالت ثقة زبائن كثر، ترسل لهم الصور عبر واتساب فيطلبون ما يعجبهم، وتوضح أنّهم «من مختلف الشرائح، لكن هناك كثيرات من زوجات وبنات ضبّاط كبار بينهم، يلجأنَ إلى هذه الطريقة لأنهنّ يخشينَ السفر إلى لبنان للتسوّق».
قد ينظر البعض إلى هذا القطاع من الأعمال، الذي ولد نتيجة الظروف الراهنة التي يعيشها السوريون، على أنّه يقوم على استغلال حاجة عاطفية لأهداف تجارية، لا سيّما عندما يتم نشر قصص الهدايا ومرسليها على صفحات فيسبوك عامة بهدف الترويج، الأمر الذي ينزع عنها الخصوصية، ولكن في الجهة المقابلة، فإن هذه المهنة تضفي نوعاً من الوصال يحتاجه السوريون الذين لا يعرفون متى سيلقون أحبتهم من جديد.