لا يقتصر النهب الذي يمارسه عناصر نقاط التفتيش والحواجز في سوريا على فرض إتاوات عشوائية على العابرين، بل اقتضت مصالح الجهات المُتصارعة عسكرياً فتح معابر مُحدّدة في مناطق التّماس للتبادل التجاري، وأصبحت هذه المعابر مصدراً لجني الأموال الطائلة على حساب السكان، من خلال فرض رسوم مرتفعة على البضائع التي يتم نقلها من منطقة إلى أخرى، عبر آلية تشبه عمل السلطات الجمركية التي تفرض الرسوم المالية على حركة البضائع عبر حدود الدول.
وتبرز منطقة منبج الواقعة في الريف الشرقي لمحافظة حلب، وتحديداً عند نقطة «أبو حوش» على بعد 125 كيلومتراً شمال شرق مدينة حلب، كقناة للعبور والتبادل التجاري بين مناطق سيطرة النظام السوري ومناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، وذلك من خلال معبر يقول أحد السائقين الذين يجتازونه بشكل مستمر إنّه «لا يختلف عن مناطق العبور على الحدود بين أيّ دولتين، حتى تخال أنّك لست في دولة واحدة».
وتنقسم نقطة «أبو حوش» إلى جانبين، الأول تسيطر عليه الفرقة الرابعة في قوات النظام عند النقطة التي باتت تُعرف باسم «معبر التّايهة»، والثاني هو «معبر أبو كهف» الخاضع لسيطرة «مجلس منبج العسكري» التابع لقوات سوريا الديمقراطية، وعند هذين المعبرين تفرض كلٌّ من الجهتين رسوماً جمركيّة أو مبالغ «ترسيم» تقتصر حالياً على حركة انتقال البضائع، بعد أن كان الترسيم حتى وقت قريب يشمل انتقال الأفراد والحافلات التي تُقلّهم أيضاً.
ساحة القلب أو «الطبّون»
تتمّ عمليّة ترسيم البضائع قبل انتقالها من طرف إلى آخر في ساحة مشتركة بين الطرفين، مقسومة بحاجز من الأسلاك الشائكة. والساحة في الأصل هي فرع جامعة الاتحاد الخاصة بريف منبج، التي سبق أن نُهبت محتوياتها على يد فصائل مُعارضة في شهر تموز/يوليو 2012، قبل أن يحوّلها تنظيم الدولة إلى مقرٍّ لبعض قياداته ثمّ إلى سجن، لتصبح بعد دحر التنظيم منطقة للتبادل التجاري تحمل اسم «ساحة القلب» أو «الطبّون»، التي يُمنع على السيّارات العاملة في مناطق سيطرة أحد الطرفين تجاوزها نحو مناطق سيطرة الطرف الآخر، ففيها يتم إنزال البضائع وترسيمها وفق آليّاتٍ مُحدّدة، قبل أن تُحمّلَ من جديد في شاحنات أخرى نحو وجهتها النهائية.
ويقول عاملٌ في أحد مكاتب شحن البضائع بين حلب ومناطق الجزيرة السوريّة لـلجمهورية «إنّ العمل في هذه الساحة شديد التنظيم ويخضع لإجراءات صارمة وعمليات تفتيش دقيقة، فضلاً عن وجود مكاتب لتنظيم دور الشاحنات وعمال محدّدين يتكفّلون بأمور التفريغ وإعادة التحميل. ورغم أنّ السائد هو قيام شركات شحن بمتابعة أمور البضائع وتخليصها جمركيّاً، إلا أن بوسع أيّ تاجر مرافقة بضائعه بنفسه ومتابعة إجراءات الترسيم كاملةً لدى الطرفين، بيد أنّ التجار يُفضّلون ترك الأمر لشركات الشحن التي تمرّست في التعامل مع إدارة المعبر من الجانبين، وصار بوسعها، علاوةً على التكفّل بنقل البضائع من مصدرها حتى وجهتها النهائية، العمل كمخلّص جمركي، إذ تقوم بإضافة نفقات الترسيم والعمولة وأي مبالغ مالية يجري إنفاقها خلال عملية النقل على رسوم الشحن».
مبالغ الترسيم
سيطرت قوات سوريا الديمقراطية على منبج وطردت تنظيم الدولة منها صيف 2016، وتم افتتاح المعبر بشكل متقطع أمام الحركة التجارية منذ أوائل 2017، ثم أصبحت الحركة أكثر انتظاماً لاحقاً. ويتم تحصيل الرسوم من قبل إدارتي المعبر في الاتّجاهين؛ أي أنّ كلا الطرفين يفرضان رسوماً على البضائع الداخلة إلى مناطقهما وكذلك الخارجة منها، غير أنه لم يكن هناك تعرفات دقيقة ومُحدّدة من مجلس منبج العسكري أو قوّات النظام على البضائع التي يتم نقلها عبر الجانبين في البداية. ويُظهر أحد إيصالات الدفع، التي حصلت الجمهورية عليها من أحد التّجار، أنّ قسد فرضت مبلغ ترسيم على أحذية بالة تزن 8 أطنان، بمقدار 15 ألف ليرة سورية عن الطنّ الواحد، ويُظهر إيصال آخر صادر عن الجهة نفسها تقاضي مبلغ 10 آلاف ليرة سورية عن الطنّ الواحد من شحنة قطع تبديل للسيارات. ويعود الإيصالان إلى العام 2017، لبضائع خارجة من منبج باتجاه مناطق سيطرة النظام.

ولم يكن لدى الفرقة الرابعة في جيش النظام هي الأخرى صورة واضحة لمقدار الرسوم التي تقوم بفرضها في الفترة نفسها، وذلك بحسب السائق الذي زوّدنا بالإيصالات، وكذلك لم تكن تحرّر إيصالات استلام بالمبالغ التي تتقاضاها، بل كانت تعمل بمبدأ «الشيلة»، أي النظر إلى نوع البضاعة وحجمها وثمنها، ومن ثمّ فرض مبلغ ترسيم اعتباطي يخضع لمزاج وتقدير العسكري المُختص بالتقييم.
أمّا بعد أن أخذ المعبر شكلاً جديداً أكثر تنظيماً منذ مطلع العام 2018، فقد بات لدى الطرفين تسعيرة ترسيم واضحة ومُحدّدة، وما زال مجلس منبج العسكري يُحرّر إيصالات بالمبالغ التي يتقاضاها، بخلاف النظام الذي يُقيّد في سجلاته هذه المبالغ ولا يعطي إيصالات رسمية بها. وفي الوقت نفسه يشترط الطرفان على البضائع القادمة من حلب باتجاه مناطق سيطرة «قسد» أن تكون مُرفقة ببيان جمركي في حال كانت ذات منشأ أجنبي، وكذلك فواتير نظامية تشتمل على كافة تفاصيلها ومحتوياتها وقيمتها، في حين لا ينطبق ذلك على البضائع الداخلة إلى مناطق سيطرة النظام.
وتمكنت الجمهورية من الحصول على قائمة بالتسعيرات التي تفرضها قوات سوريا الديمقراطية على البضائع الخارجة من جانبها، وذلك عن النصف الثاني من شهر كانون الأول/ديسمبر 2018. ومن المُفترض أن يتم تغيير هذه النشرة كل خمسة عشر يوماً من الناحية النظرية، غير أنّها بقيت شبه ثابتة من الناحية العملية؛ فيما لم نتمكّن من الحصول على أجور الترسيم التي يفرضها النظام، كونه أكثر تحفّظاً حول التفاصيل المُتعلقة بتعاونه المالي مع باقي أطراف الحرب في سوريا والإتاوات التي يفرضها على الناس. ويقول أحد سائقي الشاحنات للجمهورية «إنّ الطرفين يفرضان رسوماً أقل على البضائع الداخلة إلى مناطق سيطرتهما قياساً بالبضائع الخارجة، وذلك بسبب حاجة كل طرف إلى تشجيع عبور البضائع والسلع نحو مناطق نفوذه».
وعبر المعبر نفسه، يتم ترسيم البضائع المتبادلة بين مناطق سيطرة النظام ومناطق النفوذ التركي المعروفة باسم «درع الفرات»، غير أنّ هذه البضائع لا تخضع لرسوم من جانب «قسد» حين تجتاز معبر «أبو كهف» نحو معبر «أم جلود» حيث تتواجد فصائل من المُعارضة، بل تعبر مجاناً بموجب اتّفاقات بين الأطراف الثلاثة، وتقتصر عملية الترسيم على جيش النظام والفصائل المدعومة تركياً. كما أنّه بخلاف ما كان سائداً سابقاً، فقد باتت عملية انتقال المدنيين من مناطق «درع الفرات» إلى مناطق النظام السوري عبر منبج مجانية، وهو ما كان يُعرف سابقاً بـ«التّرفيق».
السكان يدفعون الثمن
يشتكي التجار الذين تحدّثنا إليهم من تأخّر وصول بضائعهم لمدّة تتجاوز في كثير من الأحيان خمسة عشر يوماً، تبعاً لنظام الدور المُتّبع في المعبر والوقت الذي تستغرقه عمليات التفتيش الدقيق والتحميل والتفريغ المتكرر، بالإضافة إلى ارتفاع قيمة شحن الطرد الواحد من الحجم المتوسّط إلى أربعة آلاف ليرة سورية، خصوصاً في ظلّ أزمة المحروقات الحالية. وبالإضافة إلى ذلك، فإنه كثيراً ما تتم سرقة جزء من البضائع أثناء عملية التفتيش، إذ يخبرنا أحد التجار من مدينة القامشلي أنّه «لم يستلم بضاعته كاملة منذ أكثر من عام، وفي كل مرة كانت تسرق منها الأيادي الخفيّة»، مضيفاً «آخر مرّة وصلتني ثمانية طرود قد سُرق منها ما قيمته 25 ألف ليرة سورية، ولا أستطيع تعويض خسارتي إلا من خلال رفع الأسعار».
يقوم التجار برفع أسعار البضائع لتغطية المبالغ الإضافية التي يدفعونها للجهات المسيطرة على المعابر، ولتغطية الخسائر التي تلحق بهم جراء التأخير في وصول البضائع أو جراء سرقة بعضها، لينتهي الأمر إلى أن يكون عملية نهب منظمة للسكان، الذين تصبح الحياة أكثر ضيقاً في وجوههم يوماً بعد يوم، تحت حكم قوى تغرق في تبعيتها لجهات ودول خارجية أكثر فأكثر، وتمعن في الوقت نفسه في مزيد من النهب وتمزيق البلاد.