– نعم سيدي هذا أنا في جواز السفر!
– لا أعرف إلى أين سأذهب فيما بعد.
– ماذا تريد مني أن أفعل سيدي؟
– أنا لا أكذب يا سيدي! أنا حقاً لا أعرف!
هذه هي الترجمة العربية للجمل الافتتاحية في العرض المسرحي «please, repeat after me/رجاءً، عيدوا وراي»، الذي عرض يوم 30 أبريل على خشبة «المسرح الإنكليزي» في برلين، من كتابة وإخراج زياد عدوان، وأداء مجموعة من الممثلين من جنسيات مختلفة (عناد معروف، حسين الشاذلي، شادي العلي، سيلين كافاك، غيزام أكمان، أتيلا أكينجي).
please, repeat after me
توحي الجمل الافتتاحية للعرض، الذي كُتِبَ باللغة الإنكليزية، بأجواء تحقيق مع أشخاص عالقين على الحدود، كما أنها ترسم علاقة القوة بين «سيدي» والآخرين. وتتحدث المسرحية كما يبدو للوهلة الأولى عن مجموعة لاجئين قدموا إلى ألمانيا في السنوات الأخيرة، يعرضون شهاداتهم عن الحرب وتجربة اللجوء. يبدأ العرض بمقاطع من الأداء الحركي، تتخللها مونولجات الشخصيات عن الحرب واللجوء، بالإضافة إلى مقاطع ظهور الحكواتي المتواجد في سوريا، التي تُعرض على ستارة تُستخدم كشاشة إسقاط كبيرة في وسط المسرح.
إلا أن خطأً تقنياً يعيق إكمال العرض المسرحي، إذ ينقطع البث المباشر مع الحكواتي من سوريا، بالإضافة لانهيار عصبي لواحدة من الممثلات، فيما تغادر ممثلة الأخرى المسرح، ما يضطر الممثلين لتقديم حلول ارتجالية والاستعانة بالجمهور أحياناً بهدف إكمال العرض. وفي وسط الفوضى الحاصلة نتيجة الخطأ التقني، تُفتح ستارة المسرح مجدداً، لتكشف عن وصول الحكواتي شخصياً من سوريا إلى ألمانيا، متجاوزاً العقبات التي تمنعه من إكمال العرض، ليكتشف الجمهور بذلك أن كل الأخطاء التي حدثت هي أخطاء مفتعلة، وأن المشاهد المرتجلة هي مشاهد متفق عليها.
هكذا يتحول الخطأ من مشكلة تقنية إلى عنصر جمالي وحيز للّعب، مسبباً الضحك ومولداً للشك عند الجمهور؛ هل هذا الخطأ مفتعل أم حقيقي؟ هل الممثلون هم فعلاً لاجئون؟ هل ما يقدمونه الآن جزءٌ من العرض المخطط أم أنه ارتجال؟ هل القصص التي يرويها الممثلون حدثت فعلاً أم أنها قصص متخيلة؟ ليصبح من الصعب تمييز الحدود الفاصلة بين مشاهد العرض كما هو مخطط له وبين النسخة التي آل إليها، لأن حدود اللعب اتسعت، بحيث لم يعد من الممكن على المتلقي أن يتوقع ما الذي سيحدث.
يستثمر العرض في الخطأ المسرحي من أجل تقديم رؤية مختلفة عن اللجوء السوري في ألمانيا، ويستخدمه أداةً لإحداث نوع من التوازن في علاقات القوة بين المتفرج الألماني والممثل (الذي يلعب دور اللاجئ)، ففي الحالة السائدة يشاهد المتفرج الألماني عروض اللاجئين من موقع المتفوق، لكن عند افتعال الخطأ، يصبح المتفرج في الصالة والممثل على الخشبة في حالة تساوٍ، لأن ما حدث خارجٌ عن سيطرة الطرفين بحيث لم يعد هناك طرف أقوى من الآخر، لكن عندما يصر الممثلون على إكمال العرض، فإنهم يستعيدون شيئاً من القوة ويصبح المتفرج في حالة ترقب لما سيحدث.
لم يكن الخطأ المسرحي مبرراً للعب فحسب، بل انزياحاً من الواقعي إلى الغرائبي أيضاً. وإذا كانت غرائبية القصص التي يرويها اللاجئون هي ما يجعلها موضوعاً جذاباً للمتلقي الأوروبي، فما هي الحدود القصوى من الغرائبية التي يمكن أن يصدقها؟ هل يصدق أن بطّة اعتُقلت لأنها مرت بجانب مظاهرة؟ هل يصدق أن إحدى شخصيات المسرحية، التي تحمل اسم «عرمج»، من قرية حدودية تكون سوريّةً أحياناً وغير سوريّة أحياناً أخرى؟ وأن «عرمج» يريد أن يسافر إلى القمر؟ وعلى الرغم من أن شناعة ما يحدث في سوريا تجعلنا نصدق أن كل شيء ممكن الحدوث، إلا أن التطلع إلى قصص القادمين من سوريا بوصفها مصدراً للغرائبية يبقى موضوعاً مشوقاً لأي عمل فني أو حتى حديث يومي، ويبني تلقائياً حواجز بين المهاجرين والمجتمع المحلي، ويسبب إرهاقاً سببه إما الدفاع عن النفس في مواجهة هذه الغرائبية، أو المحاولات لنيل إعجاب ورضى الآخر الأوروبي.
لم يحاول العرض الدفاع عن المهاجرين الجدد أو هدم الصورة النمطية عن اللاجئين في المجتمع الأوروبي، بل على العكس، يقدم العرض شخصيات متطرفة في نمطيتها، التي تتوافق في نواحٍ كثيرة مع المخيال الأوروبي عن القادمين الجدد وعن البلاد التي أتوا منها. ويبدو ذلك جلياً في الشكل الخارجي لشخصية «الحكواتي» أو شخصية «صباح»، وحتى في شخصية «أنياكي» على الجهة المقابلة، التي تعكس صورة نمطية لرجل أوروبي متحيز للسوريين وثورتهم، لكنه لا يعرف منها إلا القشور، ويتوجه للجمهور بخطاب عن التراث والطبخ السوري على نحو سطحي شديد التبسيط وعامر بالمغالطات، إلى درجة أنه كان يعتقد أن الفلافل هي أقراص لحم «حلال»!
لجأ عدوان إلى تضخيم الصورة النمطية عن اللاجئين، وذلك ليس بهدف تعزيزها، بل بهدف إظهار سذاجة هذه الصورة وسطحيتها، حتى أنه استخدم كثيراً من «الكليشيهات» المسرحية والثقافية التي صارت لصيقة بالمسرح السوري، أو حتى بالوجود السوري الثقافي في ألمانيا، ولكن بصورة تهكمية، منها مثلاً استخدام الطعام تعبيراً عن حسن الضيافة والكرم، وهو ما اقترحه الحكواتي تلطيفاً للأجواء، فأحضر حلوى «البرازق» ووزعها على الجمهور.
لا شك أن عدوان استفاد من موقع المهاجر السوري للتهكم على الصور النمطية في أذهاننا، بحيث كان من الصعب الخروج بأي معلومة لتصنيف شخصيات المسرحية أو الحكم عليها، بما في ذلك المعلومات المتعلقة بأعمار الشخصيات وجنسياتها وهويتها الجنسية وما إذا كانت قصصها واقعية أم متخيلة. وفضلاً عن التهكم الذي يطال التفاصيل، فإن هناك تهكماً على مستوى الشكل العام للعرض المسرحي، إذ تحمل المسرحية انتقاداً للشكل الذي صار اعتيادياً في المسرح السوري في ألمانيا، مسرح الشهادات واللاجئين الذين يمثلون أنفسهم على المسرح، ويقدمون قصصهم التي تكون هي موضوع العرض المسرحي؛ إلا أن ذلك التهكم لم يكن استخفافاً بالمآسي التي يعاني منها السوريون، أو انتقاصاً من تجربتهم، بل جاء انطلاقاً من ضرورة إعادة التفكير في شكل المسرح السوري في ألمانيا، وإعادة النظر في اللجوء والحرب بوصفها تجارب إنسانية مشتركة.