«وينك اليوم؟». رسالة نصية تفقدية من والدتي أو والدي، سببها في الغالب مضي فترة من الزمن -لا تتجاوز الـ 12 ساعة – دون أن أكتب لهما. هناك عدة احتمالات للإجابة على هذا السؤال: «أنا هون» وهذه الإجابة التطمينية، مجردة مكانياً مفادها أنني بخير؛ أو أن تكون الإجابة «أنا في البيت، في المكتبة، في المقهى، في البار..الخ»، وهذه الإجابة دعوة للدخول في تفاصيل أكثر، برفقة من؟ لوحدك؟ ماذا تفعلين؟ كم تبعد المكتبة عن البيت؟ هل تتأخرين بالعودة إلى البيت؟.. وغيرها من الأسئلة . أمّا الإحتمال الثالث، «أنا هون في ألمانيا» ملحقاً بإيموجي ضاحك، فهو الجواب الغامض والفظ، و قد يكون الأقسى، لأنه يذكّرنا ويذكّر الأهل بالمسافات التي تفصلنا، ويُظهر استغلالاً لهذه المسافات لمراوغة سؤال جاد، «أين أنا اليوم؟» والسخرية منه، ذلك عدا عن أنه يغلق الباب أمام تخيلات الأهل عن «ألمانيا» ويجعل معناها بالنسبة للأباء والأمهات غياباً يتجمع فيه الأبناء.

في كثير من الحالات قرر أو اضطر الآباء  للبقاء في سوريا بعد هجرة الأولاد ولجوئهم إلى ألمانيا أو دول أخرى في العالم، وبالرغم من كل التسهيلات التي تقدمها وسائل التواصل المتاحة، إلا أن مرافقة الأبناء في تجاربهم الجديدة في الغربة عبر الإنترنت لا تكفي لأن تخرج الأهل من عزلتهم، ولا لإذابة المسافات. لتصبح تدريجياً حتى المكالمات الهاتفية مجرد أحاديث عامة، مختصرة، يتخللها الكثير من لحظات الصمت، الصمت الذي يشتعل بالأصوات الداخلية والهواجس والتخيلات حول المكان الذي يعيش فيه أولادنا. ولو أتيح لنا الخروج بلوحات فنية تجسد هذه التخيلات، فلربما لن تكون أقل طرافةً من تخيلات الأطفال الحياة على كوكب المريخ مثلاً!.

لغة القطارات

وسيلة المواصلات الرئيسية في برلين، مثلاً، هي القطارات. هناك شبكة ضخمة من المواصلات والمترو وقطار فوق الأرض وترامواي في الشوارع، بالإضافة للباصات. قطارات تغادر بحسب الساعة وليس عند اكتمال عدد الركاب. ليست هذه القطارات نظيفة تماماً كما يتصور البعض، فقد تجد أحياناً زجاجات البيرة مرمية في زوايا القطار، وبقايا الأكل، والأسوأ هو الإقياء المتيبس في القطارات، لاسيما ليلتي الجمعة والسبت. هذه القطارات تتأخر أحياناً، وهي ليست رخيصة، وليست فائقة السرعة. وكل قطار يسير وفق  خط من المحطات باتجاهين متعاكسين متوازيين. نستخدم هذه القطارات بشكل يومي وروتيني، ولم تعد بالنسبة لنا كما كانت، في أعماق تصورات أبائنا القديمة، رمزاً للحداثة.

تخبرني أحد صديقاتي، ن. ع، والتي جاءت إلى ألمانيا بغرض الدراسة، أن والدتها تسألها دائماً «لوحدك بالقطار؟ انتبهي ما حدا يقعد حدك؟». خوف الأمهات من حوادث التحرش في المواصلات العامة قديم ومكرس، وذلك نتيجة تاريخ متراكم من حالات التحرش  التي سمعنا عنها كثيراً، واختبرت أغلب الصبايا بعضها في المكرو سرفيس الأبيض أو الباص الأخضر. ولما سألتُ صديقتي كيف تتصرف حيال هذا النوع من الأسئلة ، قالت لي «أصبحت أصور لأمي صوراً توضيحية، قطار تحت الأنفاق والقطار فوق الأرض، وكيف يجلس الركاب داخل المقطورة، المحطات ، كيف تبدو سكك القطار من فوق، الشاشات التي تكتب عليها أسماء المحطات وساعة الوصول. يؤسفني جداً أنه ليس لدينا مترو في دمشق. أردت فعلاً أن أمحو أميتها بخصوص ذلك».

أين تعيش؟

السؤال الأكثر تقاطعاً بين تجارب الشباب الآخرين من أصدقائي هو سؤال الأهل  المتكرر «أين تعيش؟» والفضول لمعرفة بيوتنا، الحارة التي نعيش فيها، المحلات القريبة من بيتنا، في أي طابق نسكن، ومع من؟ ما معنى الـ WGWohnunggemeinschaft أي المسكن المشترك وكيف يمكن أن تؤمن على روحك وتنام في البيت ذاته مع أناس لا تعرفهم من قبل؟ يشاركنا د. ح  أسئلة والدته الدائمة حول من معه في البيت؟ وكيف يعيش ؟ هل يأكلون سوية؟ هل يقضون الوقت معاً في المناسبات والعطل؟

أقرب مثال لبيوت الـ WG في دمشق، مثلاً، هي البيوت العربية القديمة ، والتي كانت تؤجر الغرف فيها إلى طلاب جامعيين، أو عندما يتفق مجموعة أصدقاء على استئجار بيت مشترك. وبالرغم من الصعوبات التي كان يواجهها الشباب في استئجار بيت، سواء الصعوبات المالية أو  بسبب الجو المحافظ السائد، إلا أنه حتى هذا المثال يبدو منطقياً أكثر بالنسبة للأهل، إذ أن غالبية من في البيت على الأقل من جنسية واحدة، كما أن التقسيم العمراني للبيت العربي يسمح ببعض الاستقلالية والخصوصية، ويتم التعويل على الصداقة والروابط الاجتماعية فيما بينهم، وعندها يمكن للأهل الإطمئنان على أولادهم.

الـ WG هو بيت يحوي غرف منفضلة، تؤجر لأناس مختلفين من جنسيات مختلفة وأجناس مختلفة، يتفقون ضمنياً على معايير الأمان والثقة:  يعيشون في بيت واحد،ضمن غرف مستقلة، ولا يوجد قفل خاص لكل باب، وإذا وجد فمن غير المحبذ أن تقفل باب غرفتك الخاصة وإلا سيشعر الآخرون بالإنزعاج باعتبارها علامة ارتياب. أحياناً يأكل زملاؤنا في السكن من طعامنا، وأحياناً بالعكس نحن من نأكل من طعامهم، وأحياناً لا يحترمون خصوصية الفرد. هم ليسوا مفرطي اللطف ونحن لسنا كذلك. هم لا يحتضنوننا ولا يعطفون علينا، بل نحن مستأجرون وندفع لهم لقاء ذلك. «تعتقد أمي أني أعيش مع أناس لطفاء جداً، وأننا نقضي معظم الوقت نأكل ونشرب سوية في حين أن ذلك نادراً ما يحدث وما هو تماماً نقيض الحياة في هذه البيوت و في هذه المدينة»،  يقول لنا د.ح. أما المعنى العاطفي للبيت، فيتلاشى تدريجياً في نظام السكن هذا، فالغرف الصغيرة والحلول المؤقتة، وكثرة التنقل بين البيوت، وضرورة تغيير عاداتك وسلوكياتك من أجل الآخرين، كلها أسباب تجعلنا نشعر أننا في بحث دائم عن البيت. وحتى عندما نجده، نظل مستمرين بالبحث  عن مكان أفضل، يشبه غالباً البيوت التي خرجنا منها، مكان مريح، حميمي وخاص بنا.

تقدير اليورو

الحال الاقتصادي هو من أكثر الأمور إثارةً لقلق الأهل على أبنائهم في غربتهم. «من الصعب أن تفهم والدتي أين تذهب الـ 400 يورو كل شهر» يقول ج. ع. الأمر البديهي أن اليورو عملة قابلة للاستهلاك ولا تعيش خالدةّ للأبد، إلا أن صعوبة تقدير اليورو مردها انهيار الليرة السورية مقابل العملات الأجنبية في السنوات الأخيرة وضعفها لدرجة أنه لم يعد من الممكن اعتبارها مقياساً لأي شيء. لذلك، تفشل الأمهات أو الأباء في التوصل إلى معادلة متوازنة طالما أن الطرف الثاني منها هو الليرة السورية. 400 يورو تساوي 400 يورو، وهي تكفي الشخص واحد لأن يعيش حياة مقبولة، وذلك ما يؤمنه «الجوب سنتر»الجوب سنتر أو مركز العمل مؤسسة تابعة لوكالة التوظيف، تقوم بتأمين الدخل الأساسي للأفراد العاطلين على العمل ريثما يجدون عملاً. وتزوّد اللاجئين بالمساعدات من بدل سكن وتأمين صحي ومخصصات شهرية أو غيره من المؤسسات التي تقدم مساعدات للاجئين. وهي، كأي مخصصات شهرية، تنتهي كل شهر، أو كل منتصف شهر أحياناً.

أما عن اتهام الأهل السريع والمعتاد لأولادهم  بسوء إدارة مصروفهم الشخصي، في إشارة ضمنية إلى جهاز الآيفون الحديث، والحذاء الرياضي الجديد، وحبة الأفوكادو كل صباح، وغيرها من «الرفاهيات» فلا يمكن أن يكون الوضع المعيشي والاقتصادي في سوريا هو جملة المقارنة التي نتكئ عليها، وذلك لعدة أسباب، أهمها اختلاف أسعار هذه الرفاهيات نسبة إلى دخل الفرد السوري، واختلافات أولويات توزيع الدخل بين من يعيش داخل سوريا وخارجها.

لكن، كيف يتدبر اللاجئ أو الطالب أو أصحاب الدخل المحدود هذه المصاريف؟ إما من خلال عقود شراء طويلة الأمد، حيث يتم تقسيط سعر هاتف الآيفون على عامين مثلاً؛ أو انتظار موسم التخفيضات؛ أو الشراء عبر الإنترنت؛  وغيرها من خيارات الشراء والتخفيضات المتاحة. وإذا كان ما يسبب خيبة الأمل لدى الأهل هو تقاعس الأبناء عن سياسة الإدخار التقليدية، وتبذير أموالهم على الأكل والشراب والثياب والكحول والتدخين -هذا صحيح- لكنه في الوقت ذاته مؤشر جيد على أنهم يعيشون حياتهم ويؤمنون متطلباتهم بمعزل عن هاجس المخاوف المالية  التي كانت ترافقهم وترافق الأهل حتى الآن في سوريا.

يسكن القلق والخوف معظم تخيلات الآباء عن حياة الأولاد في ألمانيا أو دول أخرى، خوفهم علينا من الطرقات المهجورة، ومن حياة الليل والسهر، ومن الحوادث الصحية التي يمكن أن تصيبنا في وحدتنا، وغيرها من التفاصيل الكئيبة التي تعكر صفو ذهنهم، خاصة إذا كان من الصعب عليهم استيعاب حقيقة أننا كبرنا وأصبحنا مسؤولين عن أنفسنا. وأغلب هذه التخيلات السوداوية بشأن مصائرنا في الغربة سببها الفجوة المعرفية وغياب اللغة المشتركة، أو بالأحرى التجربة المشتركة التي تضمن لنا أنهم يعرفون عما نتحدث بدقة. وأسوأ السيناريوهات التي يمكن أن تحدث هي الاستسلام لهذه الفجوة، وترك الأهل في عزلتهم خارج العوالم الحقيقية التي يعيش فيها الأولاد واكتشاف أنفسهم كمتفرجين فقط على التغيرات من حولهم، وفي الوقت ذاته فاقدي القدرة على مداواة القلق والخوف المستمر.

ربما يصعب على الأبناء مصارحة أمهاتهم وآبائهم بكل تفاصيل حياتهم الخاصة، إلا أنهم يستحقون إجابة على أسئلتهم وإشباع فضولهم «الطفولي»، خاصة وأنهم يتعاطفون معنا، ويختبرون معنا ذهنياً ومعنوياً حالة الشتات المستمرة التي نعيشها.