للكوميديان المصري في وجداننا الجمعي مكانة خاصة، جعلتنا نتصور شخصية المصري على العموم خفيفة الظل تعريفاً وبالمطلق، حتى أننا نكاد نتفاجأ ونشعر بالخيبة حين نلتقي مصرياً سَمِجاً. كذلك للكلام المصري وقع خفيف يُدخلنا في مزاج الضحك حتى قبل تبيُّن مضمونه. في حالة محمد أنديل، «الأخ الكبير» الذي «كلامه غير ملزم»، هناك شيء آخر إضافي؛ هناك تأكيد لما نُحسّه وأحسسناه على الدوام دون أن نعبّر عنه بوضوح، وهو أن الشأن المصري يخصّنا بقوة، ويحكي عنّا في كثير من المواقف، ويحكي عنّا بأفضل حالاته، بالسخرية. وهناك حساسية ليوميات ولتفاصيل ولشخصيات نعرفها في محلياتنا، التي ليست بالضرورة مصرية، وهناك خوض عميق يكثَّف في حوالي 10 دقائق لاجتماعنا وسياستنا.
الغريب أن الأشياء في مخيلة الإنسان ترتبط بانطباعات وبأحاسيس قد تكون اعتباطية، مثل أن الصمم مثلاً إعاقة مضحكة، كما يقول الكاتب البريطاني ديفيد لودج في إحدى رواياته، بينما العمى إعاقة تراجيدية. والسخرية في منطق الارتباطات ذاك لصيقة في المخيلة بالذكاء الشديد والألمعية والجاذبية؛ ألمعية تُغوي بالانتماء بطريقة ما إلى نفس المكان الساخر، وجاذبية جعلتنا في موقع الجمهورية نقترب من الساخر محمد أنديل لنُحدّثه ونسأله.
مرحبا محمد، نحن دائماً منبلش بسؤال تقليدي مع ضيوفنا، كيف بتحب تعرّف نفسك؟
بعرّف نفسي كأنديل، رسام كاريكاتير ساخر وبس.
إنت هلأ في فرنسا من عدة أشهر نتيجة «سوء الأحوال الجوية» بمصر. هل بتعتبر إقامتك الحالية منفى أم خيار شخصي أم منصة جديدة للعمل؟ كيف بتنظر لهالتجربة؟
الوجود في أوروبا دلوقتي بالنسبالي تجربة مثيرة جداً، ونافذة على مُدخَلات جديدة وإلهام جديد. الموضوع مش منفى خالص، قد ما هو استراحة وخطوة للأمام. أنا من زمان مؤمن إن الحياة في مكان وظروف مختلفة تجربة مهمة جداً جداً لنضج الفنان واختبار فضوله ورغبته في استكشاف العالم وقدرته على التعلم والتعامل مع ضغوط من نوع مختلف، وأنا مبسوط إني باعمل ده دلوقتي.
خليني اسألك عن الكاريكاتير بالعالم العربي باعتبارك رسام كاريكاتير. ليه منحس معظم الشغل اللي بنشوفه، مع استثناءات قليلة ناصعة، وكأنه عبارة عن رسوم توضيحية؟ فيه شي كتير مدرسي أو ترجمة مباشرة بالرسم للحدث، وأنا بشوفه غير جميل وغير ذكي ككاريكاتير.
جزء كبير من الرداءة دي سببه إن في سوق الصحافة مفيش احترام للكاريكاتير وخصوصيته كفن، وده يمكن طبيعي لأن الكاريكاتير فن ليه سطوة وممكن يحدث بلبلة كبيرة. لحد دلوقتي الدنيا بتقوم ومابتقعدش لمّا «شارلي إيبدو» بتعمل رسمة عن الرسول، لأن فيه قوة خارقة في فكرة الرسم والصورة دي غير الكلام. لو حد قلي كلام عدائي أنا ممكن أتجادل معاه، والجملة تدخل في وداني وتخرج والوقت بيعدي، بس الصورة عندها رسوخ شوية بيبقى جارف. الشخص بيحس إن الإهانة أو الرأي المتعارض معاه ده مش بيختفي، وإن الصورة لسه موجودة وعمال بتمارس ضده حالة لانهائية من التحدي. عشان كده الكاريكاتير له خصوصية كبيرة ورسامين الكاريكاتير المهمّين هم أشخاص مثيرين للمشاكل عادة.
الصحافة المصرية في الكم عقد الأخيرين دول، وبما إنها صحافة مسيطَر عليها من قبل أجهزة الدولة، أدركت خطورة هذا الفن وبالتالي بقت بتضيق المساحة المتاحة للرسامين، فالرسامين مابيعملوش شغل إلا اللي هم عارفين إنو هيتنشر، واللي هم عارفين إنو آمِن سياسياً، وأخطر من سياسياً بقى هو على المستوى الفني، يعني ساحة التجريب فيه بتبقى ضئيلة جداً، وبالتالي مافيش فرصة كبيرة للاختزال والتأويل والرمزية، مافيش فرصة كبيرة للغموض، واللي هو برأيي من أهم القيم الفنية. المحرر بيبقى منتظر من الرسام رسمة واضحة وليها قضية واضحة وبسيطة وتناسب تصوره هو عن القارئ، وهو عادة بيبقى شايف إن القارئ دا هو شخص غبي ومحدود أو شخص سيء التعليم، فلازم تقله حاجة واضحة تماماً مافيهاش مكان للبس ولا للتأويل. فعشان كده الرسام بياخد الخيار السهل وبيعمل رسمة واضحة وفيها كلام بيشرح: دا الفساد ودا الفقر وكده.ن مؤمن إن الحياة في مكان وظروف مختلفة تجربة مهمة جداً جداً لنضج الفنان واختبار فضوله ورغبته في استكشاف العالم وقدرته على التعلم والتعامل مع ضغوط من نوع مختلف، وأنا مبسوط إني باعمل ده دلوقتي.
هل عانيت شخصياً من هيك محرّرين من قبل؟
في بداية حياتي اشتغلت بظروف شبه دي، وكانت فترة صعبة، وتطوُّري كرسام كان بطيء جداً بسبب القيود دي، بالرغم من إني كنت بشغتل مع ناس بحترمهم وبقدّرهم، واستفدت من الشغل معاهم، بس إحساسي إن في حد غيري لازم يقبل الرسمة أو يرفضها كان بيقيّد خيالي بشكل كبير. الظروف تغيرت بعدين، والثورة قامت، وأنا اشتغلت في أماكن مختلفة زي مدى مصر، وهو مكان طريقة تأسيسه كانت مختلفة جداً عن الأماكن اللي اشتغلت فيها قبل كده، وهو مكان بيمتلكه الصحفيين وبيتشاركوا في إدارته. فأصبحت عندي مساحة حرية كبيرة جداً، وبقى عندي مساحة للتجريب وإني أنا أعمل اللي أنا عايزه، وإني أكون على تواصل أعمق مع مشاعري وانفعالاتي. فطبيعي في حالة زي دي إني أنا يكون عندي اندفاع أو حدس معين فأستجيب له على طول بشكل بصري وأنشره، وشوف بقى الجمهور هيتفاعل معاه ازّاي. فدي علاقة أفيد بكتير. وأنا شغلي تطور أكتر بكتير بفضل تمتعي بهذه الحرية، ودي حاجة أنا سعيد جداً بأنها حصلتلي وهي أَقيَم حاجة بالنسبالي، الحرية دي.
أنا كنت بعرف رسوماتك الكاريكاتيرية وبعدين ببرنامج باسم يوسف، ومؤخراً «أخ كبير». فيه شي بيلفت نظري بأداءك هو السرعة والإيقاع المحموم وغزارة الكلام والحركة، على شو مستعجل؟
السؤال غير متوقع الحقيقة. ماعرفش والله.
أنا بقضي وقت طويل جداً على الإنترنت، وأنا بدأت عمل في الصحافة في 2005 بس بعد سنوات قليلة ظهر الإنترنت في حياتي. ولما ظهر، حسيت إن ده مكان عظيم وإن دي نقلة، وتغيّرت علاقتي تماماً بالشغل. فبعدما كنت متربّي التربية الصحفية الكلاسيكية، بتاع شغل لبّاد وصلاح جاهين وكل العظماء دول، فجأة لقيت إن في مصدر إلهام مختلف تماماً واللي هو الإنترنت. إيقاعه أسرع، وإيقاع الاستهلاك فيه أكبر، والعمل ينشغل ويُنتج ويُنشر ويتم التعامل معاه في خلال دقايق. تجربة مختلفة عن النشر الصحفي والعمل في التلفزيون. أنا اشتغلت كمان في التلفزيون وكتبت مسلسلات، الإيقاع بيبقى مختلف تماماً والمتفرج بتبقى توقعاته مختلفة تماماً. افتتنت بإيقاع الإنترنت وحسيت إن هو واقعي أكثر بكثير وشخصي وحميمي أكثر بكثير، وفي علاقة مباشرة بين الصانع والمشاهد، وديه حاجة أنا بحبها. فالسرعة إلها علاقة بإيقاع التلقي.
وجزء ثاني من الموضوع له علاقة بإن في طاقة موجودة على الإنترنت هي طاقة الشباب (إذا كان ممكن اختزالها بهذا الشكل المبتذل). أنا بحب الطاقة دي وبتلهمني، وبحس إن القيم والأفكار اللي أنا مهتم فيها ملتصقة أكتر مع الإيقاع ده، الإيقاع اللي فيه اهتمام أكتر باللي جاي مش باللي فات. الحاجات دي أثّرت بنوعية المنتج.
أنا الحقيقة ما بحسش بالتفصيلة دي وأنا بشتغل، على قد ما بحس إن المنتج لمّا يكون سريع ومُحمَّل بالشحنة دي، بحس إن هو متسق أكثر مع ذوقي أو مع مشاعري، ولما يكون أهدا أو أبطأ بحس إن في حاجة مش مزبوطة.
يعني السرعة هي جزء من الشكل اللي عم تقدمه، وبنفس الوقت إنت مستبطن هاي السرعة، وطاقة الشباب المُلهِمة لغزارة الإنترنت. أنا بتخيل فيه فرق جيلي كمان، أنا كنت مبهورة بهاي السرعة وحاسة إني ما عم لحّق، وفي شي من الكمد أو الخيبة إني ما عم لحق، وإنو هالإيقاع عم يجبرني كون مواكبة للمستجدات اللي من غير الممكن الإحاطة فيها.
أكيد فيه شيء جيلي. أنا إجاني تعليقات من ناس أكبر بالسن فعلاً على موضوع السرعة ده، وفي ناس شباب برضه كانوا شايفين إنو كتير كثيف وعارم. أنا بالنسبالي ده مهم لأن البرنامج ماهواش مريح، ماهواش عمل فني مريح ولا هو عمل فني منصاع لمعايير التسلية. يعني لا الشخصية دي هي شخصية مسلية، ولا الكلام اللي بقوله حد عايز يسمعه، ولا طريقة توصيله هي طريقة ظريفة. هو عكس ده تماماً. فبالنسبالي إن الشخص يشعر بعدم الارتياح فيوقّف ويعيد تاني أحسن بكتير من إن العرض يكون جزء من التيار السائد اللي الأشياء فيه ليها نفس المذاق وهو بس يسوق معاه. مهم بالنسبالي إن المتلقي يرتبك ويتلخبط كده ويحس إن «ثانية واحدة! هو إيه ده؟». ودي حاجة أنا بحاول أحققها باستخدام كذا عنصر، مش بس الصورة. يعني الألفاظ الصادمة، أو طريقة التصوير… في جفاف معين في شكل العالم هو متعمد عشان يلفت الانتباه أو عشان يكسر «تدفّق» معيّن.
بس إنت غيّرت الخلفية كديكور، وقت كنت بمصر كانت كيتش ووقت صرت بفرنسا ما عادت كيتش، ليه؟؟
بالنسبة لموضوع الديكور، هو بالنسبالي كل حاجة في البرنامج ده بتعمل نوع من أنواع «المحاكاة الساخرة» على توقعات المشاهد، فأنا برضه اشتغلت في أعمال تلفزيونية كتير، وكان بيضايقني جداً قد إيه في محاولة كده للتظاهر بالبذخ في الإنتاج التلفزيوني، وكلها ليها علاقة بإننا نحسّس المشاهد بنوع من أنواع الضآلة، إن البرنامج أو العمل أغنى منه، فلازم نورّيله حاجات كده شكلها مبهر. الناس نفسها بتعمل شبه ده، في طريقة اختيارها لديكورات بيوتها وكده… في النهاية كل ده مقترن بالمتوفر عند الناس وبقدرتهم الشرائية، فبتحصل حالة محاكاة للبذخ بس كلها حاجات بلاستيك وصيني. وأنا حبيت أعمل ديكور البرنامج بنفس العقلية دي، فنزلت لسوق شعبي في القاهرة اللي هو في منطقة العتبة، وهو أرخص مكان، وقعدت بقى أختار الأشياء اللي بتتظاهر إنها أكثر قيمة من حقيقتها: الورد الصناعي، والحاجات الدهب اللي هي أصلاً بلاستيك، وورق الجدران اللي بيكون عادة مشهد طبيعي للريف الإنكليزي، وحاجات كده… واستبدلتها بمشهد عادي للقاهرة بالتلوث والزحمة.
الحاجات دي أنا كنت بحاول إن الظاهر منها يبقى حالة من الديستوبيا والقبح، بس بنفس الوقت وراها فيه تحكم كبير قوي في التفاصيل الفنية، يعني المعايير بتاع اختيار الأشياء دي وألوانها وكل ده؛ أنا كنت فاهم إن اللي هيوصل للناس هو الحاجات اللي عالسطح، اللي هي الكيتش والأشياء رديئة الذوق، بس الحقيقة أنا برأيي اللي خلّى ده يبقى ناجح هو التحكم الفني ده. التحكم الفني ما هواش متاح قوي بالنسبالي في فرنسا لإن مافيش نفس الحالة الاستهلاكية دي، اللي هي الأسواق الرخيصة الشعبية. أنا عايش في الريف وبعيد جداً عن المدينة، ومعظم المجتمع اللي حواليي مجتمع كبير في السن وناس متقاعدين وحياة راكدة إلى حد كبير، وده بينعكس على شكل الديكور واللي هو أكثر برودة.
الحقيقة هاد الضبط أو المُعايرة للعناصر الفنية موجود على مستوى آخر على ما يبدو. بمقابلة سابقة إلك بتقول إنو بحالة عدم الوعي وعدم الإحاطة بطبيعة أو بأهداف نظام سياسي ما، تصبح السخرية خطر. كيف بتضبط أو بتدرس هاد الشي؟
الإجابة دي كانت بالتحديد حول السخرية من ترامب في أمريكا. أنا كنت بعلّق على حاجة أنا كنت شايفها إشكالية شوية، واللي هي إن الناس متصورين إن كل ما يسخروا من ترامب حيضعّفوه أو يُضعفوا شعبيته، واللي هو برأيي ساذج إلى حد كبير. لإن شعبية ترامب ما كانتش مبنيّة على كونه شخص محترم، فالممارسات دي من الساخرين الأمريكان كانت بتدلّ على عدم المواكبة للتغييرات اللي بتحصل في المشهد السياسي الأمريكي باللحظة اللي ترامب وصل فيها. ودي حالة ليها علاقة بمجتمعات عندها تاريخ ما من الديمقراطية والصراع على الحكم ما بين حزبين إلخ وحرية الرأي ليها دور في تداول السلطة.
لكن في مصر والشرق الأوسط ممارسة السخرية السياسية هي نوع من أنواع الانتحار، شئنا أم أبينا. هي نوع من أنواع… مش عايز أقول التضحية، لإنو مفهوم التضحية إشكالي، لكن معروف إن ممارسة السخرية السياسية في الشرق الأوسط هي تحدي ومخاطرة. فلو طبقنا نفس الفكرة دي على الواقع في مصر، ودي حاجة كنا منفكر فيها كتير قبل 2011 لما كنت بشتغل في الصحافة المطبوعة في الصحف المعارضة زي الدستور مثلاً. فلو الساخر مش مدرك إيه هي الاتفاقات وموازين القوى اللي حاصلة من ورا الستار، ممكن يتصور إن هو بيشتغل في مطبوعة معارِضة وبيمارس نوع من أنواع الضغط على الدولة، بس هو بالحقيقة بيعمل شيء تجميلي وبيخلّي شكل المجتمع كأنه فيه معارضة وكأنه عندنا حرية رأي وبتاع… بس ده مش صحيح. بالنسبالي أنا شخصياً، اللحظة اللي نحن فيها حالياً، داخل في مكوناتها كل ما نتج عن 2011، لا بد في رأيي إن الشخص المهموم بالسخرية السياسية يكون عنده أكبر كمية من الوعي للّي حصل من 2011 لحد دلوقتي. والوعي غير الانفعال، وده فخ كتير منا وقع فيه بعد 2011، إنو مثلاً ممارسة الضغط والمعارضة كان جزء كبير منها انفعال؛ انفعال وخطابية سياسية أكثر منها محاولة لخلق شيء بنّاء، أو دفع المزاج العام في اتجاه ممكن ينبنى عليه حاجة. فهو ده اللي مفروض ينعرف؛ إننا نعرف إيه اللي بيحصل ونعرف إحنا أخطأنا بإيه، والدوافع اللي ودّتنا للّحظة دي.
عند كتير من الفلاسفة، السخرية هي خرق لغوي لخطاب سياسي يدعي الجدّية، أو يدعي إن الواقع شديد الجدّية، فنخترقه لإبراز إنو هو مسخرة. والساخر بيكرّر ذاته وبينبسط كل مرة إنو قادر على أداء هالخرق، وهالتكرار بيوصل لشي عقيم؛ أو مكمن خطر للتكرار أو الابتذال غير المجدي سياسياً. بعروضك ما حسينا إنو الموضوع مجرد تمرين لغوي. حسينا فيه أفكار ومحاولة نقد أيديولوجي حقيقي، ولو إنك بتقولها بطريقة سلبية وسوداوية أو أوقات حتى عدمية. شو رأيك؟
الحقيقة أنا بحب الكوميديا جداً، وكل أنواع الكوميديا على اختلاف مشاربها: الكوميديا العميقة كده وكمان الكوميديا المبتذلة البسيطة جداً اللي ممكن الناس تنظر إليها بنوع من التعالي، زي أفلام محمد سعد وحاجات السلابستيك والكلام ده. وبحس إن كل أنواع التهريج بتكشف رغبات مكبوتة عند الإنسان، رغبات بالهروب والفكاك من حالات التظاهر بالانضباط وبالجدية وبحالات التظاهر بالمعنى. حاسس إن فيه شي إشكالي جداً في الواقع ده، وإن هو الإنسان وخياله أوسع بكثير من كده، وإن الكوميديا بتوفر للإنسان حالة الفكاك دي.
الكابوس بالنسبالي هي لمّا الكوميديا تتحول لشيء عادي هي كمان، له نسق أو له توظيف، وده له علاقة بالسؤال بتاع لو الكوميديان مش مدرك للي بيحصل، إيه ممكن تكون النتيجة من النتائج العكسية؟ والنتائج العكسية مش سياسية بالضرورة؛ ممكن تكون اجتماعية برضه. اللحظة اللي يبدا فيها الكوميديان يبقالو وظيفة أو دور، وبالتالي يبقى مفيد اجتماعياً، هو برأيي يبقى فقد سلاحه وبقى عادي، زي الواقع اللي بيسخر منه. فأنا عندي طول الوقت صراع ما بين اللي عايز أقوله، وما بين تحقيقي للانتشار والنجاح ومن ثم هروبي من القولبة. فده معناه إن أنا أتخذ قرارات فيها مخاطرة شوية أو مغامرة بنوع من أنواع القبول، زي إني أشتم أو أقول حاجة غير متوقعة. في الآخر أنا بحاول أهرب من القبول، مش غرضي إني أضحك الناس أو إني أبقى مريح. أنا وأي شخص تاني مش منفكر بنفس الحاجات كل يوم. في لحظة معينة بتخطر على بالنا أفكار جديدة أو هواجس غريبة. نحن كبشر مش متّسقين، حتى مشاعرنا مش متّسقة. أحياناً نلاقي نفسنا ما عُدناش نحب الحاجات اللي كنا منحبها، وأحياناً نلاقي نفسنا نطمح لحاجات مختلفة تماماً. أنا اللي بعمله إني بستمع للأصوات الغريبة دي للآخر، وبحاول أقدر ألاقي حاجة جديدة. لإن الغرض مش إني ألاقي صيغة مريحة أو مضمونة وأفضل أعيدها.
يمكن هاد أكثر شي موّتنا من الضحك، حتى نحن غير المنغمسين بالتفاصيل المصرية أو القاهرية، على الرغم من إنو الشأن المصري شأن شبه داخلي إلى حد ما لكثير من السوريين، ومنعرف عن مصر كثير… ولكن نظرياً، رغم بعدنا الجغرافي عن مصر، قدرنا نضحك على الاستطرادات اللي بتعملها واللي إلها علاقة بتفاصيل مُعاشة كثير محلية، متل مثلاً لقطة لمّا تصير الشمس عمودية على بوابة مدينة الإنتاج السينمائية وبتظهر نادية الجندي بحلقة «إنت البلبيسي»، أو التفاصيل اللي بتوصف فيها «المواطن الأصمر» بالفانيلّا على البلكونة، إلخ، الحقيقة ما بعرف وقْع هالتفاصيل بالسخرية، هي هيك السخرية على العموم؟ ولا في شي متميّز عندك؟
الحقيقة إن أحد أهم أنواع الكوميديا هو «الأوبسرڤيشن كوميدي» أو كوميديا الملاحظة، واللي هي أكثر أنواع السخرية شعبية وتقليدية. اللي هي لما الكوميديان بيطلع يتكلم مع الناس عن حاجات هم بيمروا فيها وبيعيشوها، بس ما بياخدوش بالهن منها. يتكلم عن الحيوانات الأليفة، يتكلم عن السفر، عن الفنادق، الحاجات العادية أول ما الناس بتاخد بالها منها بتُستثار: «آه أيوه صح!»، «أول مرة آخد بالي من الحاجة دي، غريبة!». أعتقد إن الفنانين اللي عندهم فضول ورغبة في استكشاف الأشياء والنظر فيما وراء السطح بيشوفوا كل ده. لكن أعتقد إن اللي بيخلي توظيف التفاصيل دي في عمل زي «أخ كبير» شوي مميز هي إن الكوميديا مش مبنية على الملاحظة؛ الكوميديا مبنية على حاجة تانية، والملاحظة ترسّخ الرأي أو القناعة. فأنا ممكن أقعد أتكلم سبع دقايق عن المشهد اللي لفت انتابهك، عن الرجل بالفانيلّا في البلكونة، بس مش هنتخطى حالة الملاحظة دي ونقعد نتّريق عليه ونتّريق على شكله ويتحول لوجهة نظر. بس لما أقعد أتكلم عن حاجة أعمق من كده وأمشي بالمشهد وأطلّع التفصيلة دي بشكل عارض، تجي التفصيلة تدعّم وجهة نظري، يبقى الشيء اللي طول عمري بشوفه وبلاحظه ومش واخد بالي منه، يبقى له معنى. فده بيحسسك إني أنا وإنت عايشين في نفس العالم وشايفين نفس الحاجات، وبيحسّسك إن الطرح اللي بطرحه مش جاي من خيال، بل من إدراك حقيقي للواقع، من معاش.
أنديل (مدى مصر)
بالحقيقة أنا ما حسيت أنو هاد النموذج عم نتّريق عليه، حسيت إنو هو بروفايل مجتمعي منعرفه منيح، حتى على مستوى المنطقة، بمعنى إنو «المواطن الأصمر» كلنا منعرفه ومنحبه يمكن. بس إنت عم تسبّه، صح؟
حاجات الحب والتعاطف هي حاجات برضه أنا بنشغل بيها كتير. أنا بعد 2011 على طول، كان عندي اهتمام بفكرة «الصوابية السياسية»، وكنت شايف إننا داخلين على ثورة ورغبة بالتغير والحراك وإلخ، ومن ضمن الحاجات اللي كنت أنا شخصياً غافل عنها تماماً هي فكرة إن قد إيه اللغة بتدعم هذه الأنساق الاجتماعية الموجودة وقد إيه الهزار وأنواع من الكوميديا بيرسّخوا حالات من حالات القمع، وديه حاجة كنت بتكلم فيها كتير، من 2011 لحد 2013، ودخلت بسببها بسجالات عميقة مع أصدقاء لي في مجالات السخرية حول ضرورة الانضباط. وقتها أنا كنت شايف كده، وإن نحن ما ينفعش إننا نسخر من كذا ومن كذا. دلوقتي موقفي تغير شوية تجاه الموضوع ده، لإني بقيت شايف إن الانغماس في محاولات ضبط لغة الناس هو نوع من أنواع «الأخلاقوية» اللي هي أقرب للعقيدة الدينية. لما نكون بنتكلم عن حاجة ليها علاقة ازّاي هنعيش مع بعض أو ازّاي هنحل مشاكلنا مع بعض، ماينفعش إن حدّ يحط نفسه في موقع إن هو عارف اللي ينفع وإيه اللي ما ينفعش يتقال، مهما كان الشخص شايف إن مبرره صح.
الشخص المتدين اللي بيطلب من الآخرين ما يسخروش من عقيدته عشان هي مقدسة بالنسبة له، وهو مؤمن إن هو عنده حق يمنع الآخر من السخرية، وبرضه اللي شايف إن ما ينفعش إننا نسخر من السمر أو مش عارف إيه ولا إيه، إذا ما قبلنهاش من ده مش المفروض نقبلها من أي حد. مهم نتناقش في المسائل دي، بس برضه مهم إننا نحترم حق الناس إنها تقول اللي هي عايزاه. ومهم نحترم إن شعبية ونجاح الكوميديا القايمة على الإيذاء والعنف ناتجين من تعقيد سايكولوجي عند البني آدم، أعقد بكثير من الصورة الطفولية بتاع الصوابية السياسية دي. يعني الإنسان مهما حاول أنو يكون «صائب» هيفضل برضه يتأثر بالعنف والتروما ويتأثر بالتضحية وبالبطولة. فمُهم إننا نقبل وجود الحاجات دي ونستمع ليها ومنخافش منها، ونلاقي طريقة للكلام عنها أكثر حرية وإثارة للاهتمام، أكثر من مجرد إني كون مزنوق فطلّع نموذج مطحون وأقعد أتّريق عليه.
هل فكرة أخ كبير فيها لعبة لغوية على فكرة الـ«بيغ براذر» الأوريلية، ولا هو بس أخ كبير وكلامه غير ملزم وبيعطي حلول كلية طفولية؟
بصراحة أنا ما قريتش رواية 1984 وماقريتش أي حاجة لجورج أورويل. أنا مابحبش أدبيات الثورة والمجتمع ومابحبش الفن الثوري. أنا عارف إن ده ممكن يكون تصريح مضحك من حد زيي، ولكني بشوف إن أي فن يستند على انفعال هيستيري عشان يعوّض نقص معين هو فن رديء. أنا معرفش أدب أورويل عامل ازّاي، بس الإحساس اللي كان بيجيلي إنو هو فن تحريضي وتوعوي، وأنا ما بحبش النوع ده من الفنون.
الحقيقة مصدر الإلهام الأساسي لتعبير «أخ كبير» نابع من اللغة الشعبية، وتعبير شعبي مصري معروف إن الشخص يقول لشخص تاني «أنا بكلمك كأخ كبير»، يعني بكلمك من موقع النصح. واللي بيقول كده بيحاول يقول إن هو بينصح بس ومش عايز منك حاجة، بينصحك عشان مصلحتك. أنا أكبر منك، فعندي معرفة وخبرة في الحياة أكتر منك، وبنقل لك خبرتي بالحياة، ومش أبوك عشان أجبرك. وأنا بحس إن الموقع ده، موقع الأخ الكبير، رمادي جداً وكاشف جداً للإشكاليات اللي ليها علاقة بالسلطة والرغبة في الانقياد والرغبة في القيادة والحاجات اللي شبه ده. وأنا بحس إن الأفكار السلطوية بتنتعش في الحتة الرمادية دي، وبتكشف عدم ثقة الناس في نفسها. أنا شخصياً في تجربتي في هذا البرنامج، لمست الحاجات دي بوضوح. شفت ازّاي الناس بتتعامل مع البرنامج كأنه قرآن أنو نص ديني، ومعاي أنا شخصياً. الناس بتبعتلي رسايل تطلب مني نصايح في حياتها. أنا بقلهم يا جماعة لازم تتحرّروا! وواحد يبعتلي إنت رأيك أدخل كلية إيه؟ المنطقة الرمادية بقى اللي يبقى فيها الواحد «شخصية عليا» بنثق فيها وندّيلها مكانة، مع إن مش لازم يكون عند مكانة. وكمان من إيمان الناس بأهمية الروابط الأسرية والروابط الحميمية.
وأنا بتلاعب بقى بالبنية العميقة السايكولوجية الفرويدية، فاكتشفت مثلاً إن الشخصية محببة رغم قبحها، لأنها بتفكر الناس بشخصيات هم يعرفوهم قوي؛ بتفكر الناس بآبائهم وإخوتهم الكبار وعمامهم. ففيه أُلفة تجاه هذه الشخصية القبيحة، والأُلفة دي هي اللي بتخللي شخصيات زي ترامب وزي السيسي، الإخوة الكبار دول، يبقى عندهم الشعبية دي رغم قبحهم الشديد، واللي هن مش بيداروه خالص، وهم عارفين إن إنت لو مش بتحبني بس إنت مدمن عليّ بشكل أو بآخر، أو بتألفني.
والأخ الكبير عادة بيكون شخص شديد السخافة في أي أسرة. معظم الناس بيحبوا إخوتهم الصغيرين أكتر ما بيحبوا إخوتهم الكبار، بس بنفس الوقت مضطرين لوجود أخوهم الكبير وتدخله في حياتهم. وإيه يعني إنك تبقى مولود قبلي بست سنين؟ طب ممكن تكون أغبى مني، «لا أخوك الكبير! لا ما يصحش!». بأمارة ايه؟ أنا أصلاً فكرة الأسرة ورابطة الدم اللي بتستمر للأبد مش مفهومة بالنسبالي.
إذا بنرجع للتريقة. الحقيقة السخرية هي أكثر المساحات خطورة باللغة، أكيد فيها خرق للّغة السلطوية وتسخيف لخطاب سلطوي يدّعي الجدية، ولكن فيها أخطار، الخطر الأول هو تسهيل الاتجاه لفكر مؤامراتي، والخطر الثاني هو التطبيع؛ التعايش مع نظام يتجه نحو الشمولية من خلال السخرية.
قبل 2011 كنا ننتقد مبارك وعيلته ووزير داخليته، وكنت شايف إن نحنا منعمل كده بالزبط، إن الناس كانت بتتقبل الوضع الراهن، بتبص على رسوماتنا وتقول «آه والله عندكم حق» وخلاص، لدرجة إني أنا بطلت أرسم كاريكاتير تماماً قبل 2011 بسنة تقريباً، وقعدت أكتب مسلسلات كوميدية رديئة. وفجأة حصلت الثورة. ولما حصلت الثورة ونزلت الميدان، لاقيت الناس حاملة لافتات وراسمة رسومات بدائية فيها محاكاة للكاريكاتير، فانبهرت! لإني حسيت إن اللي نحن كنا بنقوله متصل مع شيء ما، ما كناش شايفين الشيء ده، بس هو كان بيحصل، ولما الفرصة جت، هذا الشيء تحول إلى حراك. فده خلاني أستعيد الثقة إن مافيش حاجة اسمها «تدجين» للسخرية، خاصة لو السخرية حرة فعلاً، ومش محكومة بفلتر محرِّر هو اللي عارف يقول إيه ومايقلش إيه، ويعقد اتفاق مع السلطة وقتما هو عايز.
وفي النهاية أنا مش شايف دوري ككوميديان إني أحرّض الناس على الخروج بالمشاعل ومش عارف إيه. أنا دوري إني بشوف حاجات حواليي بنفعل تجاهها انفعالات معينة، وبتكلم عنها، زي الإنسان ما يعمل في الظروف العادية. وإن الناس كلها عندها مشاعر مشابهة، فأنا بفتح معاهم حوار. أنا بقول للناس أنا شفت إيه وهن بيقولولي همَّ شافوا إيه، والباقي ما يخصّنيش.
مسألة التطبيع أنا مش شايفها منطقية. التطبيع ده أنا بخاف منه لما يكون في برنامج كوميدي زي أبله فاهيتا أو زي ساترداي نايت لايف بالعربي بياخد طاقة الناس أو رغبتهم بالسخرية من الأشياء ويوجهها باتجاهات تتظاهر بكونها صادمة أو جريئة أو ملفتة للانتباه، بس هي في الحقيقة حاجات عاديّة جداً، زي مثلاً الهزار القبيح بدون محتوى. ده بالنسبالي تطبيع متعمد ومُتقَن، وله نتايج مخدرة أكثر بكثير من السخرية المستقلة. والدليل على كده إن أول ما السيسي جا، برنامج باسم يوسف توقف، وده دليل على إن البرنامج ده قادر على تحدي الخطاب الرسمي وتحسيس الناس بتفاهته.
الدولة مدركة إن الساخر الحقيقي فعلاً مش من مصلحتها خالص، حتى لو هو مش بيتحداها، المهم هو بيعمل منتج غير متحكم فيه وخلاص، خارج سيطرة موازين السوق أو موازين أخرى، زي الكوميديا اللي كان بيعملها شادي أبو زيد. ما ينفعش إن الناس تشوف حد حرّ عموماً، أياً كان نوع الحرية، حرية الفن أو أي حرية أخرى. ليه الدولة بتبقى في صراع مع المثليين؟ هم مش بيسعوا للوصول للحكم مثلاً، بس فكرة إن المواطن يشوف إن في حدّ بيعيش حياته بحرية وبيعبّر عن نفسه بحرية، دي حاجة مش حتتّسق مع السياق الدولتي ده.
فأنا مش شايف خالص إن السخرية بتعمل تنفيس أو الكلام ده، بالعكس السخرية بتنوّر الناس وبتقلّل إحساسهم بالخوف، وبتحسّسهم بقيمتهم وبقيمة آراءهم وبقيمة غضبهم، وبتصغّر تأثير الحاكم. الحاكم بيخاف من السخرية. إنما ده مرتبط باستقلالية السخرية كشرط أساسي. الاستقلالية دي مقترنة بأشياء وهي صعبة التحقيق، يعني مستقلة مادياً، وعلى مستوى الصوت، وعلى مستوى الجرأة والتصادم مع المجتمع.
طيب بالنسبة للرقابة الذاتية اللاشعورية، إنو الواحد يعرف هوامشه ويوقف عندها؟ مافي استبطان للخوف حتى لو ظروف الإنتاج مستقلة؟
ممكن، بس اللي أنا بقصده بالاستقلال هو إن الصوت الساخر يصعب تصنيفه. يعني كل ما كان الكوميديان صعب يتصنف، كلما كانت الاستقلالية هي الاستقلالية اللي أقصدها. وكل واحد وذوقه ومع اللي يحب يتصادم معاه. واحد حابب يتصادم مع الرموز الدينية، واحد حابب يتصادم مع التقليدية المجتمعية، مع النسوية إلخ. والمساحة متروكة لكل واحد يعبر عن نفسه.
أنا ما بشوفش مثلاً إن برامج الكوميديا السياسية الأمريكية مؤثرة أو مفيدة. بتشوفي عشر دقايق من البرنامج تعرفي إن المقدم عندو انحيازات ديمقراطية أو عندو انحيازات جمهورية. بالنسبالي، دي مش كوميديا، دي بروباغندا، ودا من أعراض التشوه الثفافي اللي بيصبغ أمريكا وبيصبغ المشاريع الثقافية في العالم دلوقت.
فيه مواضيع بتتحاشاها أو بتخاف السخرية منها؟
أنا بتطرق لتابوهات كتير في شغلي، ماشفتش حاجة الناس بتدافع عنها بالاستماتة دي وتشعر بإهانة عميقة لانتقادها غير الدين ومسلسل جيم أوف ثرونز! ولو فكرت في الموضوع هتلاقيهم الاتنين شبه بعض جداً!
الدين بالنسبالي شيء غريب جداً، أنا تربيت تربية متدينة أوتوماتيكية، ودلوقتي الدين ماعادش ليه نفس التأثير على ضميري، مجرد كلامي عن تجربتي دي بيثير هيستيريا رهيبة عند ناس كتير وبستغرب جداً من الذعر ده عند بني آدم لمجرد إن أي حد تاني بيقول له إنه مش مؤمن بنفس الحاجة. غريب جداً مدى سطوة وتأثير الدين على مشاعر وانفعالات المؤمنين.
مفيش مواضيع بتحاشى الكلام فيها. بس في مواضيع بتفرض نفسها عليا بحكم الضرورة أو الأهمية أو الأولوية، وبالتالي بتزق مواضيع تانية برا دايرة الضوء. كنت أتمنى مثلاً أبقى في ظروف أقدر أتكلم فيها أكتر من كده عن المجتمع التقدمي أو المثقفين لأنهم بيضحكوني جداً، بس للأسف ده هيبقى مش وقته دلوقتي، بس إن شاء الله دورهم جاي.
بِطَرحك لموضوع المشاريع والترتيبات الكبيرة للبلد، ممكن يحس المتفرج إنو الموضوع أكبر منه بكتير ومرتّب من قبل قوى كبرى، وهو مالو أي دور أو فاعلية بتغيره، فبيقبل إنو يسخر من ذاتو بنوع من العدمية. ما ممكن السخرية تغذّي التفكير بنظرية المؤامرة؟
أنا من خلال احتكاكي مع الناس في الشارع، لمست إن الناس عندها انطباع بانعزالها عن الواقع وعدم التأثير. فيه وبيفكروا بالحل بطريقة طفولية جداً، بيفكروا بالحل بطريقة أفلام ديزني، إن في حاجة هتحصل وهنرتاح كده للأبد وطبعاً مش حنحتاج نعمل حاجة تاني. وهو متناقض مع تاريخ الحضارة والبشرية. الإنسان طول عمره في حالة صراع مع أشياء. والصراع ده لا ينتهي. والبحث عن التحدي جزء أصيل في الإنسانية. ونحن مش أطفال وأهالينا بيحلّولنا مشاكلنا. الطفولة دي أنا شايفها منعكسة على طريقة تفكير الناس بحاجات كتير، وكنت بحاول ركز الحالة دي في شخصية «أخ كبير» وفي تصوراته.
أنا كنت فاهم إن الناس لمّا تشوفه وتقارنه مع الواقع هتِفهَم إن نحن عايشين كده، لإن بتحكمنا العقلية دي، العقلية الطفولية والقدرية والكلية. فيه ناس كتير بيوصلها الإحساس ده. وفيه ناس برضه بيوصلها الإحساس إن مافيش أمل، وإن نحن مغيبين وماعرفش ايه. بس دي حاجة ماقدرش أتحكم فيها ومش عايز أتحكم فيها. شايف إن شيء كويس إن كل واحد يوصله شعور مختلف عن التاني، ويعكس عليه قناعاته هو، اللي هو عايز يفهمه واللي هو عايز يشوفه.
بس في الحقيقة أنا كنت بحاول أسخر من هذه القدرية، بحاول أسخر من الرؤية الساذجة دي، لإن الدولة بتفكر كده فعلاً. بتفكر بمشروع المليون وحدة سكنية، وبقناة السويس الجديدة، وبالعاصمة الجديدة، وبالبدائل دايماً، بالحل الأسطوري. والواضح إن الهدف من الطريقة دي مش حل المشاكل بقدر إشعار الناس إن حصل شيء، إن نحن عملنا حاجة، وإنت مالكش حق تشتكي وتقول إن نحن ماعملناش حاجة، إحنا غيّرنا الجغرافيا من حواليك.
لما بتواصل مع الناس من خلال المقالات اللي كنت بكتبها زمان ومن خلال بوستات الفيسبوك، كنت بحاول ألفت النظر إن الحياة مش كده، وإن نحن محتاجين نفضل نحاول ونفضل نغلط ونفضل نجرّب، وإن حتى التغيير السياسي مش الغرض منه إن نحن نجد الأخيار عشان هن يحكمونا بدل الأشرار. التغيير السياسي إن نحن نحط نفسنا في وضع متغير بالضرورة، وضع فيه أخطاء دائمة وتجريب دائم.
إحنا شايفين أهو، إن ما فيش حاجة في التاريخ أسوأ من «البريكسيت» أو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، بس هو شي عظيم برضه: إن مجموعة من البشر قرروا كده يعملوا غلطة بمنتهى الغباء، وقاعدين يتعاملوا معاها بالتفاصيل دلوقتي. شي مبهر الحقيقة! بلد بالكامل قاعدين بيفكروا، كم شهر كمان؟ وهنجيب أكل منين ودواء منين؟ وبنزين وعربيات منين؟ فيه شجاعة. الديمقراطية بيجي معاها شجاعة بتحمّل مسؤولية خيار ما. ونحن مش عارفين إذا الخيار صح ولا غلط. بمصر في حالة اضطراب ما بعد الصدمة، إن نحن اتفشخنا فمش عايزين نتعب تاني بقى، عايزين نرتاح، شوفولنا حدّ طيّب يجي يحكمنا بقى واليومين اللي فاضلين لنا نقضّيهم على خير وخلاص. دول الناس ماعندهاش القدرة على خوض الحياة وخوازيقها ومفاجآتها بقى. ومقولة «عارفينه وهو عارفنا» بنسمعها من أيام مبارك.
يمكن من تجربتنا السورية ممكن ننصحكم بعدم تجريب المفاجآت، أحياناً الأثمان التدميرية للمفاجآت بتكون بحجم مهول!
بصراحة قصة سوريا دي مثلاً تم توظيفها بشكل عالمي كدرس إن اللي بيحاول يعمل كده بيحصل فيه كده. بس لمّا تجي تبصّي على اللي حصل من أول ما شويه طلبة طلعوا من المدرسة وعملوا مظاهرة لحد النهار ده، كمية المجهود اللي بُذل من أجل إفشال هذا المشروع، وكمية التدخل والتآمر فعلاً، ولن أخجل هنا من استخدام كلمة «تآمر»، عشان الناس تندم، هو مجهود غير عادي! وكأن الشعب السوري نزل من بيته وراح جاب سلاح… وكده يتم تجريم الضحية. أنا شفت ده في مصر على مستوى مصغّر في تصور السيناريوهات القيامية لأي تغيير.
أنا نفسي كنت أقعد أفكر إن مثلاً هيحصل إيه لو صحينا ولقينا مبارك مات، أو وزارة الداخلية انهارت، أو الحكومة انهارت؟ فكرة القيامية وانبعاث الشر دي كانت مسيطرة عليّ جداً، وخلال 18 يوم والكم شهر اللي بعديهن، شفت ازّاي إن البشر بطبيعتهم عايزين الاستقرار وعايزين الأمان والتعاون. وإنك تقنعي الناس إن فيه كابوس أو فيه كارثة، ده شي صعب. لازم تبذلي مجهود عشان تزرعي الخوف في عقول الناس. شفت ازّاي في الميدان كيف الناس فعلاً الاتجاه الأقوى فيهن هو التعاضد، وإن يحموا بعض ويتعاونوا مع بعض. البشر لو سبتيهن لغريزتهن هيتصرفوا بشكل ذكي. إحنا بالطبيعة نأنس ونألف لبعض أكثر مما نتوجس من بعض. التوجس محتاج إن واحد يضل يزنّ في دماغك إن في حد عاوز يئذيك.
ذكرت قبل شوي إنك بتنتبه للبنية السايكولوجية والفرويدية، بس الملفت كمان كيف بترصد وبتنتبه للّغة والحُمولات العاطفية والعنفية باللغة، يعني مثلاً بحلقة «إنت البلبيسي» فيه شي رهيب بالقدرة على إظهار كيفية استبدان السلطة والعنف، حتى لغوياً.
أنا عندي علاقة معقدة شوية مع اللغة. أنا والدي كان قصّاص، ووالدتي بتكتب شعر عاميّ. والدي كان بيكتب بالفصحى، ووالدتي كانت بتكتب بالعاميّة. وكنت بتساءل وأنا طفل عن قيمة ده وده. بالنسبالي كانت اللغة الفصحى هي اللغة الحلوة بقى، واللغة العاميّة هي اللغة الوحشة. الفصحى هي القرآن والشيخ الشعرواي وكده، بنفس الوقت لاقيت والدتي بتكتب شعر بالعاميّة وبينطبع في كتب وكده، فاستغربت جداً؛ إن ازّاي الكلام ده بينكتب بالشكل ده مع إن المفروض إن هو كلام أقل قيمة. فتعلمت إن قيمة اللغة مش في كونها عاميّة أو فصحى، بس إن اللغة بتقول إيه أو بتعمل إيه. وأنا ما بحبش الشغل ده، شغل والدتي ووالدي. أنا قضيت طفولتي في المنتديات وشغل مثقفين والحاجات دي، وأنا بالنسبالي كان الكلام ده تعذيب. ماكنتش خالص بحب حالة الحفاوة باللغة والاختباء وراء بذخ اللغة. إن أي حد ممكن يقول كلام تافه بس المهم تكون لغته رصينة ومنضبطة. كل التجارب دي خلقت عندي اهتمام عميق بمسألة سطوة اللغة دي، قد إيه الإنسان يقدر يتلاعب بقدرته على الإقناع لو امتلك اللغة الصحيحة، وده شفته في الخطاب الديني وشفته في الخطاب السياسي وشفتو في الكوميديا وفي المزيكا، وشفته في حاجات كتيرة قوي.
أنا مهتم باللغة من زمان وعشان كده نوعية الأدب اللي بيستهويني هو الأدب اللي فيه تمكّن من اللغة بس بنفس الوقت في حالة سخرية من اللغة. بحس إن اللغة العربية انغرست في حالة ما من التقديس للغة، وبتقديس اللغة كوعاء أكثر من الأفكار نفسها. الأفكار أفلست، فأصبحنا نفرط في حماية هذا الإفلاس وهذا الخواء بلغة متقعرة جداً، وبقى في إخلاص للقشور اللغوية على حساب الفكرة نفسها. ومعظم ما يُكتب هو إنشائي وخشبي ومكرر ومزخرف، وخاصة برا مصر. في مصر الناس عندها مخزون واحترام للعامية شوية، نتيجة السينما والمزيكا والحاجات دي، بس بحس إن في الشام والخليج ومناطق تانية فكرة الخواء اللغوي دي موجودة أكثر، وليها علاقة بالإسلام على ما أعتقد.
بالمختصر، أنا كان عندي اهتمام باللغة بس بنفس الوقت تمرد عليها، فلما جيت أعمل البرنامج ده، كنت حريص إن صناعة اللغة تاخد حقها، يعني ما يبقاش الكلام هو مجرد كلام، على قد ما يبقى في لفت لنظر الناس لدور اللغة في صياغة الخطاب، وعشان أنا بنبسط قوي لما بلاقي تعليقات من جمهور ماهواش بالضرورة مثقف أو مهتم بالفنون، ناس عادية يعني، بيعلقوا على السكريبت بكلام زي «مصطلحات غريبة!» أو «السكريبت ده فشيخ قوي!». لأني بحس إن البرنامج قدر يثير الناس على مستويات مختلفة عن مستوى «البرنامج حلو عشان قدر يشتم الرئيس» أو «حلو عشان بيقول كلام قبيح». لا، البرنامج حلو عشان في طبخة معينة بتستثمر باللغة بطريقة هن مش متعودين عليها. في واحد لفت انتباهي، بس ده كان مثقف، إن المزج بين العامية والفصحى في «أخ كبير» كان بيفكره بالشيخ الشعرواي، وهو برأيه إن جزء من فتنة الشعرواي عند عموم المصريين إن هو كان بيتأرجح ما بين مستوى عامي شديد البساطة وشديد البدائية ومفهوم بالنسبة للفلاحين واللي ما عندهمش أي تعليم، وبين مستوى ثاني شديد التعقيد والتخصص. والصديق ده كان برأيه إن الحالة دي بتزبط على عقلية وذائقة المشاهد العربي وبيحس إن فيه طيف واسع في الشغل، ماهوش شوارعي بالكامل ولا نخبوي بالكامل، هو شغل يمزج بين الشيئين. لاحظي كمان إن في مصطلحات بالانكليزي جوا العمل وأنا بتعمّد إنها تكون موجودة.
سؤال أخير عن اليوتيوب والمنتج اليوتيوبي العربي؟
بحس ان الإنترنت عموماً أشبع جوع كبير جداً عند كتير من العرب للحق في التواصل والتعبير عن الذات، اللي كان شيء مش متاح من خلال قنوات التواصل التقليدية. لكن حاسس إنه في مساحة لاستغلاله أكبر بكتير، والمفروض يكون في منتجات ثقافية أكتر وأكثر تنوعاً، تستفيد من ديمقراطية الإنترنت كوسيط بدل ما تحاول تحاكي المنتج التليفزيوني. أنا بحب جداً الأعمال الرخيصة البسيطة اللي بيعملوها ناس عادية ومش مشهورين عشان يشاركو خبراتهم في الحياة مع العالم: آراء، طبخ، تجارب حياتية عادية وهكذا. ما بحبش شهوة النجومية السريعة بتاعة الإنترنت، وباشوفها منتج رأسمالي أمريكي جداً، والتشبه العربي بيه شيء ساذج ومضحك شوية، خاصة واحنا عايشين في قاع النظام الرأسمالي العالمي وفي المكان اللي بيثبت فشله.