العائدون ليلاً إلى بيوتهم، المستيقظون باكراً قبل الفجر للذهاب إلى عملهم، من يشق الطرقات مستعجلاً على دراجة ليوصل طلبات الطعام المتفرقة شمال وغرب المدينة، الصبيّة التي تُعدّ لنا القهوة وترسم بالحليب على الوجه وردة أو قلباً، الشاب الذي يجلي عدداً لا نهائياً من الصحون في المطعم، ومن يعبّئ لنا قطع الدجاج المقلي في كيس ورقي بحركة سريعة تفوق بدقتها وسرعتها أي آلة. هذه المهن «الصغيرة» التي تضع أصحابها تحت ضغط العمل الذي لا يرحم، وما يسببه من توتر وقلق نفسي، وبالرغم من أهميتها باعتبارها المفاصل التي تدير العجلة، إلا أن أصحابها هؤلاء، في مطاعم وبارات صغيرة أو شركات كبيرة، يعانون من أقسى أشكال التمييز في الأجور والحقوق بسبب شروط العمل «الأسود» أو غير المصرّح عنه. وعلاوةً على ذلك، لا ننسى الابتسامة التي يجتهدون في رسمها عند التعامل مع الزبائن المتطلبين وأرباب العمل المتنمرين.
أصبحنا نسمع تعبير «العمل الأسود» بكثرة في ألمانيا ، ومعناه العمل غير المصرّح عنه، وبالتالي غير القانوني . لا أعرف السبب وراء اختيار هذا التعبير العنصري واستخدام اللون الأسود كناية عن ما هو مخالف للقانون. على أيّ حال، العمل غير المسجل هو جزء من اقتصاد الظل، ومعناه تفادي أداء المستحقات الضريبية عن أموال العمالة السوداء، وبالتالي فهي أموال خارجة عن دورة الاقتصاد الألماني. وتشير إحصائية نشرها مركز الاقتصاد الألماني في كولن عام 2016 أن العمل الأسود، بالإضافة لمستلزماته، يُشكّل 211 مليار يورو من إجمالي عوائد اقتصاد الظل، التي وصلت إلى 340 مليار يورو في العام نفسه، أي 60% تقريباً من الحساب الإجمالي.
حدد قانون العمل الألماني الحد الأدنى لأجور ساعة العمل بـ 9,19 يورو في عام 2019، بعد رفعها من 8,50 يورو في عام 2017، إلا أن هذا الشرط لا يتحقق في أغلب حالات العمل غير المسجل. وتدفع الظروف الاقتصادية كثيراً من الشباب السوريين في ألمانيا إلى القبول بأجور أدنى من الحدّ القانوني، تتراوح عادةً بين 5 – 8 يورو/الساعة، خاصة أولئك المضطرين لإعالة الأهل في سوريا أو في دول أخرى، أو لمواجهة ضغوط معيشية لا تغطيها الإعانات المقدمة من الدولة الألمانية. أما السبب الآخر، والذي يلعب دوراً كبيراً، فهو التعقيدات البيروقراطية والقانونية التي يمكن أن يواجهها اللاجئون السوريون عندما يرغبون بالتصريح عن أعمالهم، والتي نادراً ما تتناسب مع تحصيلهم الأكاديمي أو الشهادات التي حصلوا عليها في سوريا، ما يجعل الشباب السوري ضحية لاستغلال أرباب العمل، ويضعه في مقدمة المتهمين بالعمل غير المصرح والمتهرب من الضريبة .
في البارات والمطاعم
تقدم المطاعم والبارات في برلين الفرص الأسرع والأسهل لطالبي العمل، وتستقطب بشكل خاص الطلاب والطالبات لمرونة ساعة العمل، مما يدفع كثيراً من الشباب للتوجه إلى هذا المجال بحثاً عن عمل ريثما يجدون فرصاً أنسبَ بعد الانتهاء من الدراسة الجامعية. تشاركنا إحدى الشابات السوريات، سلام يوسف (اسم مستعار)، تجربتها في هذا المجال: «من يعمل في مجال الخدمة في المطاعم يعرف صعوبات التعامل مع الزبائن، وتقديم أفضل خدمة في أقصر وقت وتحت الضغط، خاصةً في أيام العطل ونهاية الأسبوع. ويضاف إلى ذلك، بالنسبة لي، عائق اللغة الألمانية الذي كان أمراً صعباً في البداية، ما سبب لي كثيراً من المشاكل وسوء التفاهم مع الزبائن وأصحاب البار».
وعند سؤالنا عن ساعات العمل أجابت: «من المفترض أن أعمل 60 ساعة في الشهر، إلا أنني أعمل أحياناً أكثر من ذلك. أحياناً أعمل 8 ساعات في اليوم، أبدأ مساءً في الساعة 8 وأبقى قليلاً بعد مغادرة الزبائن حتى أنظف الطاولات وأعيد كل شيء إلى مكانه». وبحسب القانون، تعمل سلام حوالي 11 ساعة أكثر من الحد القانوني الشهري المسموح به لساعات عمل الطلاب، والذين غالباً ما يسجلون بعقد «ميني-جوب»عقد العمل الصغير: هو عقد عمل مُسجّل، حدّ أجره الأعلى هو 450 يورو شهرياً. والدوام جزئي فيه، سواء في القطاع العام أو الخاص. وله الحقوق نفسها التي يتمتع بها عقد العمل الكامل، منها استمرارية الدفع في حالات العطل والإجازات المرضية.، سقف أجوره هو 450 يورو شهرياً. وبالنتيجة تتلقى سلام 7.50 يورو على الساعة بدلأً من 9.19 ، لذلك يتعين عليها العمل 60 ساعة بدلاً من 49 ساعة في الشهر، وعن هذا تقول: «نعم. أعرف ذلك، وبالرغم من أن الفرق أقل من 2 يورو، إلا أن هذا الفرق في الأجر ‘يعملي غصة’، خاصة عندما صرتُ ألاحظ أنهم يطلبون مني العمل لساعات متأخرة ليلاً لأن أجر ساعتي أرخص من ساعة عمل زميلتي الألمانية. لكني أفكر أن 2 يورو لا تستحق أن أخسر عملي، خاصةَ وأني مضطرة فعلاً للعمل».
تُرجّح سلام أن السبب وراء تفاوت أجرها في الساعة مقارنة مع زملائها هو عدم إتقانها اللغة الألمانية، لكن بعد الاطلاع على مجموعة من تجارب الشباب، يمكننا القول إن أرباب العمل لا يجرؤون عادةً على التلاعب بأي رقم أو تجاوز أي شرط من الشروط التي ينص عليها العقد مع عاملين ألمان، لأن العامل الألماني مدرك لحقوقه ويعرف أن القانون يحميه في هذه الحالات، وهو يحمي العامل السوري ايضاً، إلا أن العامل السوري قد يقبل بشروط العمل تحت ضغوط معينة. وفي حالة البارات والمطاعم، من الممكن أن يعوض البقشيش قليلاً عن الفرق بين الأجور وعن ساعات طويلة من العمل المتعب في إرضاء الزبون، إلا أنه لا تتم مراعاة أي فرق بالأجور عند توزيع البقشيش الذي يُجمع في صندوق حتى آخر اليوم، ويُقسَّم على العاملين.
في شركات نقل الأثاث
يمكن للباحث عن عمل أن يجد فُرصاً عديدة على صفحات فيسبوك التي تخص الجالية السورية في ألمانيا، وهناك تكثر الإعلانات التي تطلب رجالاً يعملون في العتالة والتنقيل. عمل عماد قاسم (اسم مستعار) في إحدى شركات النقل دون تسجيل ولا تصريح، وكان ذلك في الفترة الأولى التي تلت قدومه إلى ألمانيا، فحينها لم يكن بعد قد حصل على تصريح الإقامة أو حق اللجوء، وبالتالي لم يكن لديه ما يكفي من الإعانات أو المال، فاضطر للقبول بالعمل وشروطه الصعبة.
لم تكن ساعات العمل محددة أو منتظمة، ولايوجد أي نوع من الضمان الصحي يقابل العمل المُجهد الذي كان يقوم به: «أحياناً أعمل يومياً، وأحياناً تمرّ أيام لا أعمل فيها، بل أبقى منتطراً اتصالاً منهم»، وهذا من الأمور الصعبة التي يواجهها العمّال غير المسجلين، الذين يقبضون أجورهم بشكل يومي بدلاً من الشهري، لأنهم في الأيام التي لا يعملون بها، لا يوجد لديهم دخل، ويظلون فعلياً مرتبطين باتصال أو رسالة حتى عندما يكونون خارج ساعات العمل. أما عن أجره في الساعة فقد يصل إلى 12 يورو، وهو مبلغ جيد مقارنة بالحد الأدني المحدد للساعة، لكن ليس بعد أن نعرف أن الحد الأدنى لساعة العمل في هذا النوع من الأعمال والتي تتطلب قوة جسدية، هو 15 يورو، وذلك قانونياً أمر مبرر، لأن الإنسان يستثمر صحته في الأعمال التي تتطلب قوة بدنية، ولأن العمل غير مسجل، فهو بالضرورة لا يشمل أي نوع من أنواع التأمين الصحي، أو بدل للطعام أو مواصلات.
ترك عماد العمل بعد إصابته بـ «الديسك»، وبمجرد أن تعلم اللغة وجد عملاً آخر في شركة ألمانيّة، وصار يقبض مثله مثل الألمان (على حد تعبيره)، بالإضافة للتأمين الصحي، والإجازات وكافة التعويضات وبدل المواصلات.
في مطعم للأكل السريع
ليس بالضرورة أن تكون التجاوزات القانونية في بارات أو شركات صغيرة، بل تحدث أحياناً على مستوى شركات أو سلسلة مطاعم كبيرة نسبياً، بالرغم من كل التشديدات القانونية والعقوبات التي يفرضها قانون العمل الألماني على العمل الأسود. ويمكنك أن تجد في ألمانيا شركة للأكل السريع، مرخصّة ونظامية، إلا أن أجر ساعة العمل ضمنها لا تتجاوز الـ 5 يورو. في هذه الحالة غالباً ما يتم التلاعب بالأجور المسجلة في العقود والأجور الفعلية للعاملين، أو أنه يتم تسجيل ساعات عمل أقل من الساعات الفعلية.
مرّ الشاب أيهم العجمي (اسم مستعار) وهو طالب في جامعة برلين التقنية بتجربة كهذه، عندما حدثت له مشكلة في تحويل الإعانات التي كان يستلمها من الدولة، حيث اضطر في أحد الفترات للعمل في سلسلة للأكل السريع في برلين. حصل على العمل بسرعة، وبسبب الظروف المالية الصعبة وافق على أن يعمل مقابل 5 يورو في الساعة، الذي هو سعر وجبة صغيرة عند المحل ذاته؛ يقول لنا : «إذا أردت التعجيل بانتحار الناس المكتئبين، أرسلهم للعمل هنا في هذا المكان، فالعمل يبدأ من الساعة الثامنة حتى الساعة الثانية عشرة يومياً مقابل 80 يورو في اليوم بدلاً من 140 يورو، لا استراحة ولا وقت غداء ولا سيجارة، 16 ساعة من العمل المتواصل في إمبراطورية الدجاج هذه».
غالبية من يعملون في هذه المطاعم هم من الجنسيات العربية، ومعظمهم تقدموا إلى هذا العمل بسبب مشاكل مادية، أو مشاكل في الإقامات التي تتطلب أحياناً عقود عمل لمن يريد الانتقال من مدينة أخرى إلى برلين، وتحملوا رائحة الدجاج المشوي والمقلي على مدار الساعة، وسلسلة لانهائية من طلبات الزبائن، وصوت الموسيقى الصاخبة الذي لا يسمح لأحد أن يسمع أحداً، وغيرها من التفاصيل التي يسردها لنا أيهم، والتي تُشجّعُ فعلاً على المزاج الانتحاري. وعند الحديث عن بدل الأكل، يقول لنا أيهم «كان يُسمح لنا إذا توفر لدينا الوقت أن نأكل وجبة دجاج من المحل ذاته، لكن بعد نهار طويل من قلي الدجاج بكل أنواعه، والبطاطا، غالباً يقرف الواحد منّا أن يأكل وجبته».
لحظة الوعي بالحقوق
ليس مصادفةً أن الشباب الثلاثة الذين شاركونا قصصهم يعملون عند أرباب عمل من جنسيات عربية من المهاجرين الأقدم، وليس مصادفة أن يكون أغلب العاملين في الأماكن التي ذُكرت فيما سبق هم من السوريين. وليس ذلك ناتجاً فقط عن احترام الفرد الألماني للنظام الاقتصادي الذي ينتمي إليه أو عن أخذه بعين الاعتبار العقوبات المالية التي من الممكن أن تفرض عليه في حال انكشف العمل الأسود، بل هو ناتجٌ عن حرص العامل الألماني على حقوقه التي يحفظها له عقد العمل القانوني، الضمان الصحي، والتأمين الاجتماعي وتعويضات الإجازات وبدل المواصلات، بالإضافة إلى حق حمايته في حال تعرضه إلى أي معاملة سيئة في مكان العمل.
هذه الحقوق، أوغيرها من الحقوق، قلّما يتمّ تطبيقها في العمل لدى القطاع الخاص سوريا، وباستثناء عقود العمل التي يوقعها العاملون في شركات كبيرة، أو مع شركات نظامها الداخلي يتبع للنظام الداخلي للشركة الأم خارج سوريا، نادراً ما كنّا نسمع عن أحد يوقع عقد عمل نظامي، ما يجعل سوق العمل الخاص في سوريا «أسوداً« في الغالب، إذ تتم الاستعاضة عن العقود إياها بمفردات لا تمتّ للمهنية بصلة، وهو ما أدى إلى انحسار اهتمام العامل السوري بحقوقه، لصالح التركيز على الواجبات والمسؤوليات خوفاً من خسارة عمله في أي لحظة.
لسنا بصدد مقارنة واقع وقوانين العمل في واحدة من أكثر الدول احتراماً لحقوق الإنسان مع واقع العمل في سوريا، لكن لا بدّ من التوقف عند تعاطي الفرد السوري مع مسألة الحقوق التي لم تكن في أغلب الأحيان متاحة، وإذا كانت متاحة فلم تكن مسألة الوعي بها محط اهتمام أي رب عمل، فعلى سبيل المثال، لم تكن يوماً قضية تعيين الأجر الأدنى لساعة العمل حديثَ الشارع السوري.
ولأن مسألة المطالبة بالحقوق مغلّفة بالخوف، ويرافقها تهديد بقطع الرزق والطرد من الوظيفة، يضطر العامل أو الموظف في سوريا للتحايل و«الشطارة» من أجل تحصيل أبسط الحقوق، ولهذا النوع من السلوك أثر كبير على طريقة تعامل السوريين مع عقود العمل غير المسجلة في ألمانيا، بعدما كانت أمراً اعتاده العاملون في سوريا قبل مجيئهم إلى ألمانيا، وعليه طورا مجموعة من الأساليب وطرق التعامل مع حالة عدم الاستقرار والاستغلال، وهي غالباً طرق غير مهنية وتبدأ أولاً بالتنازل عن بعض الحقوق، وينسحب ذلك على طريقة تعاطي السوريين مع حقوق العمل في ألمانيا، والمشكلة في ذلك أن التساهل والتسامح مع الحقوق يتبعه تنازلات أكثر.
على المقلب الآخر، نجد أنه بالرغم من تذمر كثيرٍ من الألمان من نظام وحجم الضرائب، وانزعاجهم أحياناً من طرق استخدام وتوظيف الدولة لهذه الضرائب، إلا أن فهم نظام الضرائب متاحٌ للجميع، ويمكن لأي شخص أن يطلب استشارة لتوضيح نظام الضريبة وكيفية حسابها، وأحياناً تحصيل جزء منها في نهاية العام وتوثيق ذلك بالمستندات والفواتير المطلوبة. وبالمقابل فإنه لم يكن هناك اهتمام عام في سوريا بفهم نظام الضريبة ومعرفة تفاصيل حسابها، بل كان يتم التعامل معها كأمر من المسلمات، والاهتمام به لا يقدم ولا يؤخّر.
بعيداً عن فخ المظلومية
لا شكّ أن الظروف الاقتصادية الصعبة لفئة واسعة من اللاجئين السوريين والطلاب في ألمانيا تدفعهم للقبول بشروط عمل صعبة وأجور متدنية، لكن في الوقت ذاته هناك فئات تسعى للعمل غير المسجل من أجل تحقيق مكتسب إضافي إلى جانب الإعانات، لأن هذه الإعانات بالنسبة لحالات كثيرة هي مساعدات محدودة، ولا بدّ من انتهاز أي فرصة مُتاحة لزيادة الدخل. وفي هذا المجال يمكن الحديث عن نوع آخر من الأعمال، نشطت على هامش واقع الشتات، مثل التجارة بين الدول أو السمسرة في المجال العقاري والشقق السكنية، والأجور في هذا النوع من الأعمال تفوق الأجر الأدنى للساعة بأشواط، وهو شكل آخر مختلف من العمل الأسود، يشمل فئة من الناس الذين يستفيدون من واقع اللجوء من ألمانيا.
تترك حكايات «العمل الأسود» الكثيرة داخلنا شعوراً بالبؤس وإحساساً بالغصة، خاصة أن الجهل بالقوانين يدل على ماض طويل من العيش خارج حماية القانون، الأمر الذي جعل من التفريط بالحق لحماية بعض المكتسبات بديلاً عن المطالبة به، غير أنه ليس أمام اللاجئين من خيار سوى استخدام الطيف الواسع من الحقوق المتاحة للعاملين في كثير من بلدان اللجوء، ومواجهة التحديات التي تعترضهم في سوق العمل الجديد بالنسبة لهم، والتي لا تشبه بأي حال من الأحوال التحديات التي كانوا يواجهونها في البيئة التي جئنا منها. وباستثناء السلوك الانتهازي لبعض الأشخاص المستفيدين من واقع اللاجئين، لا يمكننا إلّا تقدير محاولات هؤلاء الشباب والشابات لإيجاد فرص عمل تسمح لهم بتحقيق مستوى معين من الاستقلالية، وأيضاً تقدير إحساسهم العالي بالكرامة، الذي يهوّن عليهم تعبهم.