شكّل اعتصام المتظاهرين السودانيين في ساحة القيادة العامة منذ بداية شهر نيسان/أبريل الماضي، واحداً من أقوى أوراق الضغط التي استخدمتها قوى المعارضة السودانية في صراعها مع السلطة الحاكمة هناك، وهو الصراع الذي كان قد بدأ أواسط كانون الأول/ديسمبر 2018 بإضرابات واحتجاجات، راحت تمتد سريعاً حتى شملت سائر أنحاء البلاد. وحتى بعد إطاحة الجيش بالرئيس عمر البشير في انقلاب الحادي عشر من نيسان/أبريل 2019، استمر الاعتصام بهدف تحقيق مطالب الثورة، وأبرزها تسليم السلطة لحكومة مدنية تشرف على فترة حكم انتقالي تجري بعدها انتخابات عامة في السودان.
أدى استمرار الاعتصام والاحتجاجات بعد الإطاحة بالبشير إلى الإطاحة بخلفه وزير الدفاع وقائد الانقلاب عوض بن عوف، وتسلم الفريق عبد الفتاح برهان رئيساً للمجلس العسكري، لتبدأ مفاوضات خجولة بين المجلس العسكري وتجمع إعلان الحرية والتغيير، المظلة التي تضم أبرز قوى المعارضة السودانية، بالتزامن مع استمرار القوى المدنية والسياسية بقيادة التظاهرات والاحتجاجات في البلاد، وعلى رأسها تجمع المهنيين السودانيين والحزب الشيوعي السوداني، أبرز مكونات إعلان الحرية والتغيير.
بعد أيام من انقلاب الجيش، أعلنت قوى إعلان الحرية والتغيير عن محاولة قامت بها ميليشيات «التدخل السريع» لفض اعتصام ساحة القيادة العامة، إلا أن فشل تلك المحاولة وضع القوى المدنية في موقف تفاوضي أفضل. غير أن مسار التفاوض بين الطرفين لم يصل إلى نتائج حقيقية، نتيجة الخلاف الجوهري بين رؤية المجلس العسكري ومطالب القوى المدنية التي تقود الثورة في السودان، إذ كان المجلس العسكري يرى أن دور القوى المدنية يجب ألا يتجاوز حدود المشاركة في حكومة يشكلها المجلس مع بقائه على رأس هرم السلطة في البلاد، بينما ترى قوى الثورة ضرورة تسليم كامل السلطات لحكومة مدنية تقود مرحلة انتقالية، وأن يتم حصر صلاحيات المجلس في الشأن العسكري مع مشاركته في إدارة الملف الأمني.
مع استمرار الصدام بين الطرفين، جاءت زيارة رئيس المجلس العسكري عبد الفتاح برهان إلى مصر في الخامس والعشرين من شهر أيار/مايو الماضي، وزيارة نائبه محمد حمدان دقلو الملقب بـ «حميدتي» قائد «قوات التدخل السريع» قبلها بيومين إلى السعودية، واستقباله من قبل ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، وهي الزيارات التي أمّنت دعماً سياسياً من السعودية ومصر للمجلس العسكري في مواجهة القوى المدنية. بعد تلك الزيارات بعشرة أيام فقط، قامت «قوات التدخل السريع» التي يقودها حميدتي بارتكاب مجزرة بحق المعتصمين في ساحة القيادة العامة وسط العاصمة السودانية الخرطوم.
في صباح يوم الإثنين الثالث من حزيران/يونيو، قامت تلك الميليشيات باقتحام ساحة القيادة العامة وتصفية عدد كبير من المتظاهرين فيها، وقد أصدرت القوى المدنية بيانات منذ صباح الإثنين تعلن فيها عن قيام المجلس العسكري بفض الاعتصام في الساحة، وارتكاب مجزرة بحق المعتصمين، وخلال ساعات بدأت تنتشر أخبار عن انقطاع خدمة الإنترنت في السودان، ما أدّى إلى كبح سرعة انتقال المعلومات من ساحة الاعتصام، التي حولتها ميليشيات المجلس العسكري السوداني إلى ساحة مذبحة.
خلال الأيام التالية بدأت تقارير صحفية وحقوقية عديدة بالصدور مظهرة فداحة الكارثة، إذ كان عدد شهداء فض الاعتصام أكبر بكثير من الرقم الأولى الذي أعلن عنه بعد ساعات وهو ثلاثون شهيداً، بينما تحدثت عدة تقارير عن عمليات اغتصاب ممنهجة قامت بها الميليشيات بحق المعتصمين والمعتصمات تحديداً، كما ذكر ناشطون أن عمليات القتل والاغتصاب تركزت على معتصمين هم بالأصل مهجرون من ولاية دارفور، التي سبق وارتكبت فيها الميليشيا ذاتها عمليات إبادة عرقية خلال حكم الرئيس المخلوع عمر البشير.
على الرغم من صدور عدد كبير من التقارير التي توثق الانتهاكات في مجزرة ساحة القيادة العامة، إلا أن استمرار تقطّع خدمة الإنترنت في السودان، ومحاولات التعتيم التي يقوم بها المجلس العسكري، منعت خروج عدد كبير من التفاصيل المروعة التي حدثت هناك إلى العلن. وتمتلك «قوات التدخل السريع» سجلاً بالغ السوء والسوداوية، وعلى الرغم من أن تأسيسها رسمياً كان في عام 2013، إلا أن المعارضين في السودان يعتبرونها استمراراً لميليشيا الجنجويد، التي تشكلت من تحالف مسلحين من قبائل عربية في دارفور عام 1987، وتمت رعايتها عبر السنوات من الحكومة المركزية لمحاربة القوى المناوئة لنظام الحكم هناك.
وعلى الرغم من أنه تم اتهام تلك الميليشيات، من قبل المحكمة الجنائية الدولية ومنظمات حقوقية عديدة، بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وأعمال إبادة عرقية في دارفور وجنوب السودان، وعلى الرغم من أن قائدها شخصياً متّهم بتنفيذ عمليات إبادة وانتهاكات جسيمة، إلا أنه يظهر الآن باعتباره صاحب القوة الضاربة في الجيش السوداني. وبعد أن كانت قواته تتبع للرئيس السوداني بشكل مباشر منذ العام 2017، يجد حميدتي مكانه البارز على طاولة المجلس العسكري باعتباره الرجل الأقوى في البلاد اليوم، حتى أن أنصاره قاموا بتصويره بطريقة يحاول فيها محاكاة الرئيس المخلوع عمر البشير، راقصاً باستخدام العصا على نحو قد يكون كاريكاتورياً، إلا أنه كاريكتور تسيل منه الدماء، دماء السودانيين.
من خلال فض الاعتصام في ساحة القيادة العامة، يبدو أن المجلس العسكري كان يراهن على ضرب مركز ثقل الاحتجاجات الرئيسي في السودان، بهدف إخماد صوتها بشكل نهائي، خاصةً بعد أن دعت القوى المدنية إلى إضراب عام في السودان نهاية شهر أيار الماضي، لدفع الجيش إلى قبول مطالبها. ولكن على العكس من ذلك، أصبحت مجزرة القيادة العامة، نقطة تصعيد كبيرة في الصراع بين الجيش والقوى المدنية، التي دعت بعد أيام منها إلى عصيان مدني شامل في السودان، وهي الدعوة التي لبتها النقابات المهنية وعلى رأسها تجمع المهنيين السودانيين، بالتزامن مع تواصل الاحتجاجات والتظاهرات في سائر أنحاء البلاد.
وقد كانت نتائج هذا العصيان كبيرة للغاية على صعيد الخدمات العامة، إذ توقفت الملاحة بشكل مؤقت في مطار العاصمة الخرطوم، كما توقف العمل في البنك المركزي والمصارف، وجرى توثيق عمليات إغلاق المحلات في الأسواق، ونشر عشرات التسجيلات كإثبات على نجاح الإضراب الشامل في البلاد.
يحاول الاتحاد الإفريقي أن يدخل على خط الأزمة في السودان، لتفادي تفاقم الأحداث التي بدا أن مجزرة القيادة العامة ليست سوى بداية لها، ويبدو أن الوساطة التي قام بها رئيس الوزراء الأثيوبي عبر مبعوثه إلى السودان قد استطاعت كسر بعض الجمود، إذ تم الإعلان عن موافقة كل من المجلس العسكري وتجمع إعلان الحرية والتغيير على العودة إلى المفاوضات، وأعلن الجيش عن نيته الإفراج عن المعتقلين كبادرة حسن نية، بينما دعت قوى إعلان الحرية والتغيير إلى تعليق الإضراب الشامل في السودان لإفساح المجال أمام المفاوضات.
يسعى المجلس العسكري السوداني إلى تعميم المذبحة بوصفها أداة حكم في السودان، وإلى نقل خبرته في إدارة الإبادة والقتل المعمم من جنوب السودان ودارفور إلى بقية أنحاء البلاد، مستفيداً من الدعم الإقليمي الذي يوفّره له النظامان الحاكمان في السعودية ومصر، فيما تواصل قوى المعارضة ومئات آلاف المتظاهرين كفاحهم من أجل الحرية، في مواجهة احتمال المذبحة القائم في كل وقت.