لا بدّ لأيّ حديث عن الفنّ والعمارة الحديثة أن يعرّج على تجربة «باوهاوس» لما تحمله من قيم ثوريّة تأسيسيّة في مسعى تحويل الفنون الجميلة من مجرَّد فنون نظريّة ذهنيّة إلى فنون تجمع النظرية بالتطبيق، أي إخراج الفن الجمالي من قصره العاجي ودمجه بالمجال الحيويّ المُعاش على الأرض. «الباوهاوس» مصطلح ألماني مركَّب يعني «بيت البناء»، مستوحى من مصطلح Bauhütte الذي يدلّ على ورشات بناء كاتدرائيات القرون الوسطى حيث كان يعمل الفنانون والحرفيون يداً بيد، وقد نشأت مدرسة الباوهاوس في ربيع العام 1919 على يد المعماريّ الألماني الفذّ ڤالتر غروپيوس في مدينة فايمار، وكان قيامها في تلك الفترة ومن ثمّ استقبالها لعدد كبير من الطلبة – بينهم قرابة مئة امرأة – حدثاً استثنائيَّاً، إذ لم يكن الناس آنذاك معتادين على مدارس فنيّة بهذا الشكل، يُدرَّس فيها الرسم والغرافيتي والتصوير والفنون الأدائية كالمسرح والرقص وغيرها.

اتخذت الباوهاوس الحداثة والواقعيّة كفكرتَين لازمتين لأيّ منجَز فنّي، وتعلَّم فيها الطلبة المزج بين الرسم والعمارة، أي مزاوجة الخيال بالمادة، وتجريب صيغ جديدة تماماً معتمدين على ربط الأشكال الهندسيّة الرئيسيّة كالدوائر والمثلثات والمربعات، بغية تصميم أعمال قيّمة وعمليّة في الوقت عينه، ليُستفاد منها تاليّاً في مجال الصناعة. كانت فكرة دمج الجماليّ بالوظيفيّ غايةً ساميّة لدى رواد هذه المدرسة، الذين كانوا يرفضون بشدَّة الفصل بين الفنان والحرفيّ، أي بين الذهني الخيالي والمادي الملموس. والشيء الأكثر فرادةً حينئذ كان التعاون الذي صنعته باوهاوس بين الصّناعة والفن، أي جعل كلّ منهما مُكملاً وظيفيَّاً للآخر، ما مكَّن بروز فلسفة جمال حديثة تُعنى بجمالية المنتجات الصناعية، أو ما يسمّى بالتصميم الصناعيّ (industrial design). وعملت المدرسة على تعليم طلبتها الحرف اليدويّة عدة أشهر قبل توجّههم إلى تعلُّم الفنون، ما عمَّق فكرة الربط بين الحرفة والفن، حتى غدت الحرفة بالنسبة إليهم أساساً يستند إليه الفن ويكتسب منه الواقعيّة التي تمثِّل قيمةً جوهريةً عليا في فكر وممارسة «الباوهاوسيين».

وكان ذلك عاملاً أساسيَّاً في نزعة الباوهاوس نحو العقلانية وبالتالي تخفُّفها الواضح من فائض الزخرفة السائدة حينذاك في الفن العالمي بعمومه والأوروبي على وجه التحديد. ونجد في استخدامهم للّون التركيز بصورة جليّة على الألوان الأساسيّة (الأحمر والأصفر والأزرق)، ونلمس تعمُّدَهم إلغاء المركزيّة في التصاميم من خلال إحلال الفراغ ومنحه مساحات تمكِّنه من تهشيم المركز. كما يتجلَّى في أعمال باوهاوس الأثر الفعّال للتيّارين التكعيبي والتعبيري. ويمكن الذهاب أبعد من ذلك باعتبار الباوهاوس امتداداً فكرياً يسارياً، من ناحية إعطاء القيمة للواقعية والتركيز على الجانب الوظيفي الحرفي والمزج بين الفنون المختلفة، رغم كلّ النقد والتشكيك الذي طالها في مراحل مختلفة باعتبارها تساهم في تمكين «العقلانية الصناعيّة».

بدت الباوهاوس غريبة عن محيطها في وقت تصاعد النازيّة والنزعة الانغلاقيّة المحافظة في عموم ألمانيا، إذ كان يُنظَر إليها بوصفها شيئاً خارجيَّاً دخيلاً، غير «وطني»، ويجب التخلُّص منه بكل السبل. عالميّة الباوهاوس وانفتاحها كانا بمثابة شوكة في عين التيارات اليمنية الفاشية الصاعدة، التي ما إن ربحت في انتخابات ڤايمار 1925 حتى سارعت إلى إصدار قرار بإغلاق المدرسة، ما أرغم ڤالتر غروپيوس على البحث عن مكان بديل. بعد وقت وجيز قدَّمت له بلدية مدينة ديساو التي كان يحكمها الاشتراكيون الديمقراطيون فرصة بداية جديدة بإنشاء مقر جديد لأكاديميته هناك. فصمَّم غروپيوس مركزاً جديداً في ديساو، شكَّل – على عكس المبنى القديم العاديّ – حالة فريدةً بسبب قيمته العمرانيّة وغرابة تصميمه، حيث كان يتألَّف من عدّة أبنية متناثرة ترتبط ببعضها دونما انتظام أو تماثل، وزادت زواياها القائمة مع أسقفها المسطّحة وجدرانها الزجاجيّة في تميّزها واصطدامها مع الصيغ والتصورات الكلاسيكية المألوفة. بعد الانتهاء من المركز الجديد في ديساو أقاموا حفل افتتاح استثنائي، وراحوا مع مجيء الليل يضيئون الغرف بطريقة احترافية فذة، ما جعلها تُبرق في ليل ديساو المظلم وكأنّها بزوغ فجر جديد في سماء العمارة والفن.

مع مرور الوقت التحق بالمدرسة عدد من الأسماء اللامعة، وعمل فيها كلّ من الرسام الألمانيّ باول كْلي والروسيّ واسيللي كاندينسكي كمُدرّسين، وتشاركا معاً أحد منازل المعلمين المدهشة التي قاما بتصميم طوابقها حسب تصوّرهما الخاص. في البدء كان كْلي يدرّس تجليد الكتب، بعدئذ استلم ورشات تعليم الصياغة ومن ثم ورشة تعليم الزجاج المعشق وأخيراً ورشات الحياكة. كان عمل كْلي التدريسي يخصّ تلك الدورات الحرفيّة الأوليّة، التي كانت موجَّهةً للطلبة المبتدئين. فيما بعد أصبح ابنه فيليكس ذو الأربعة عشر ربيعاً أصغر طالب يدخل مدرسة باوهاوس، إلى أن صار بدوره لاحقاً مدرّساً فيها. بينما كاندينسكي كان يدير قسم التصاميم اللونيّة، وأدار الرسام الألماني-الأميركي ليونيل ڤاينينغر، الذي عاش بدوره في أحد تلك البيوت المدهشة، ورشات الطباعة.

مع تنامي شعبيّة النازيّة وتتالي انتصاراتها في شتى بقاع البلاد، أضحت الباوهاوس موضع جدال بين بلدية ديساو اليساريّة والنازيين الذين كانوا يرونها مجرّد قذارة بلشفية كوزموبوليتية لن تجلب سوى الانحطاط. وبالفعل تمكَّنت النازية بعد وصولها سدة الحكم سنة 1933 من إقفال هذه الأكاديمية الفنيّة الحديثة في ديساو، فهاجر على إثر ذلك الكثير من الفنانين البارزين إلى بلدان مختلفة كفرنسا وبريطانيا وسويسرا والولايات المتحدة. وصل غروپيوس بلد أحلامه، الولايات المتحدة، وسقط مبنى الباوهاوس في يد أعدائه. حار النازيون في البداية بشأن هذه السقوف المسطَّحة التي كانت تمثل في نظرهم تحريضاً خارجيَّاً ضدّ كلّ ما هو ألماني، واقترح بعض متحمّسيهم تسقيف المبنى على الطريقة «الجرمانية»، وأراد البعض الآخر إجراء تغييرات بنيويّة في التصميم ليأخذ هيئة رمز النازيّة (الصليب المعقوف)، غير أنهم تخلَّوا في النهاية عن أفكارهم هذه واستخدموا المبنى كمدرسة نسائية لتعليم الخياطة والطبخ. خلال الحرب العالمية الثانية سقطت قذائف حول بناء الأكاديمية فتحطمت واجهاتها الزجاجيّة. ولما وضعت الحرب أوزارها وقُسّمت الجغرافيا الألمانية، صار مبنى الأكاديميّة في ديساو ضمن حدود جمهورية ألمانيا الديمقراطية (الشرقية الشيوعية)، التي لم تعترف بدورها بأية أهمية لهذا التيار الفني الحديث الذي كانت تمثله الباوهاوس، بل عدته توجُّهاً معمارياً متدنّياً يخدم الميول الصناعية، وأغلقت السلطات تلك الواجهات الزجاجية المحطمة بالقرميد. توفي غروپيوس سنة 1969 في الولايات المتحدة بعد أن ترك أثراً لا ينسى في العمارة الأميركية وحظي بشهرة واسعة هناك. بعد توحيد ألمانيا، صار مبنى الباوهاوس مفتوحاً لعامة الناس كمؤسسة فنية ومتحف، وعُدّ من قبل اليونيسكو واحداً من مواقع التراث العالمي.

الحداثة مع الباوهاوس

تَدين عمارة الحداثة للباوهاوس لبساطة تصاميمها وعمليّتها واعتمادها على ما هو سهل ومتين وممكن، كما أفضت هيمنة هذه المدرسة الثوريّة إلى تغيير هيكليّة المدن الحديثة، مشكّلةً بذلك قطيعة مع العمارة الأوروبيّة الكلاسيكيّة، المعتمدة بشكل أساسي على غزارة الزخارف وتماثُل الأشكال والكتل الصلبة المستقرة الساكنة. وبإلقاء الضوء على عمارة القرن العشرين، يتجلَّى أن أثر باوهاوس تجاوز ألمانيا وانتشر في أماكن كثيرة، ولا سيما الولايات المتحدة حيث لمع اسم غروپيوس، فيما أسَّس موهولي ناغي معهد «نيوباوهاوس» (أو باوهاوس الجديدة) في مدينة شيكاغو، متبنياً النظام التعليمي المتبع في ڤايمار من قبل غروپيوس – تغيَّر اسم المعهد لاحقاً ليصبح «معهد التصميم». وهنا ذاع صيت فن التصوير واكتسى أهمية خاصة، كما تبنّت العديد من الجامعات الأميركية المنهجية المتبعة في معهد نيوباوهاس مع إجراء تعديلات طفيفة، ما أدّى إلى تراجع إرث عمارة الفنون الجميلة الذي كان سائداً في الولايات المتحدة بشكل كبير. كما نلحظ توغُّل أفكار ومبادئ الباوهاوس في بلدان عديدة كفنلندا، خصوصاً بعد الحرب العالمية الثانية، إضافةً إلى تأثيرها البالغ في عمارة وفنّ كلّ من سويسرا وروسيا وبلدان أخرى، فنرى المباني السكنية المكعبة ذات السقوف المسطحة البسيطة بحيث تكون ملائمة للإمكانات الإقتصاديّة المتوفّرة، وهذه بدورها واحدة من أهمّ أفكار باوهاوس الداعية إلى جعل العمران بسيطاً موائماً للحالة الاقتصاديّة والابتعاد عن المواد المكلفة، شرط ألا يكون ذلك على حساب المتانة والجودة والعمليّة. ولا يمكن بأيّ شكل إغفال الرواج العالمي الذي لاقته (ولم تزل) تصاميم الباوهاوس للأثاث المنزلي كالكراسي والمصابيح وطاولات الكتابة وغرف النوم والحُلي والمجوهرات والمنتجات الصناعية ذات الأشكال المكعّبة الصارمة، وكذلك محاولات غروپيوس في جعل الأجهزة التقنية في المباني ظاهرةً للعيان وإبرازها كجزء من العملية التكاملية في البناء. ولعل أفضل الأمثلة على ذلك هو تعليق مشعاع التدفئة على الجدران ليبدو كلوحة معلّقة في الغرف والردهات. وينسحب ذلك على تفاصيل كثيرة كان يحاول البناؤون والمصممون على الدوام إخفاءها، وهذا ما ناقضه مفهوم الباوهاوس الرامي إلى الوضوح والبساطة وجعل الجمالي ممكناً في كلّ تفصيل. وبذا تكون الباوهاوس قد قدَّمت بالفعل صورة جديدة للعالم تنسجم مع عصر التقنية الحديثة وتخدم إنسانَه. كان غروپيوس يقول مراراً لتلامذتِه: «نحن رواد؛ وفي الباوهاوس تُنجَز تصاميم المستقبل». ويمكن القول إنّ مشروع الباوهاوس تمكَّن من تحقيق تطلّعه الجوهري في إحداث تغيير في المجتمع بواسطة الفن، وكذا في تحقيق وئام بين الفن والصناعة، ما ساهم في إنجاز فن جديد مغاير وفاعل في عملية الإنتاج. كما أنّ المحفِّز الأهمّ لانذياع اسم الباوهاوس بدايات القرن المنصرم لم يكن مجرد إنتاجها فنّاً جيّداً، إنما وقبل كل شيء ثوريّتها ونزعتها إلى التحرّر من القيود الكلاسيكيّة التي تقف عائقاً أمام كلّ مسعى حداثيّ يصبو إلى إنجاز ما هو مختلف. كانت الباوهاوس مكاناً لامعاً لصناعة ما يصطدم بقوَّة مع التقليد، فشكَّلت بذلك جذباً للشبّان الساعين إلى إبداع متفرّد وخلع الطاعة عما هو موروث واتباعيّ. إذن، يمكن القول إنّ نجاح الباوهاوس وانتشارها لم يكن فقط بسبب جودة ووظيفيّة ما يُنتَج فيها، بل وبالدرجة الأساسية بسبب هامش الحرية والابتكار وفسحة التمرّد المصونة في مبادئها وأسلوب عملها.

الباوهاوس في الولايات المتحدة

كلية بلاك ماونتن

يقول جوزف آلبرز، الرسام والمنظّر الفنّي الألماني وأحد ركائز الباوهاوس، إنّ الهدف الأسمى الذي وضعه نُصب عينيه بإصداره لكتابه تفاعل الألوان بعد نفيه إلى الولايات المتحدة كان «فتح الأعين». وهذا الكتاب عمل تأسيسي في الفن الحديث، بلغ غايته بجدارة ونجح في «فتح الأعين» على آخرها، إذ مكّن قرّاءه من رؤية مختلفة للألوان، وساهم في تغيير زاوية نظرهم للأشياء من حولِهم. إن قراء ذاك الكتاب يتحوّلون بعد قراءته إلى أشخاص آخرين بصريّاً، كما يقول بريان بوتلر. اكتسب آلبرز شهرة واسعة في الولايات المتحدة كأحد أهمّ سفراء الباوهاوس في الجامعات والمعاهد الأميركيّة، ما سرَّع أيضاً في انذياع اسم الباوهاوس في كافة أنحاء البلاد، ومن هناك إلى العالم بأسره. لكن ذلك لم يمرّ بيُسر تماماً، فالكلية التي عمل فيها آلبرز مع عدد من روّاد الباوهاوس المهجّرين في بلدة بلاك ماونتن – والتي كان يرتادها أناس من أعراق مختلفة، ولا سيما السود – أثارت ريبة سكان البلدة، الذين أخذوا يتداولون شائعات حول كونها مؤسسة «شيوعية معادية»، وخرجوا في تظاهرات ضدّ وجودها هناك. وعلى غرار المدرسة الأم، الباوهاوس، لم تدُم كليّة بلاك ماونتن طويلاً، وأُقفلت سنة 1956. غير أنها تركت أثراً كبيراً في الفن الحديث، لأنّه من دون وجودها لاستحال مثلاً بروز فن «البوب» بمُبدعيه المتميزين كراي جونسون وروبرت راوشنبيرغ اللذَين درسا في الكلية، ولما انبثقت التعبيريّة التجريديّة، ولا حتى أنماط موسيقيّة معينة مثل موسيقى جون كيج الذي درّس بدوره فيها. كانت كلية بلاك ماونتن المنبثقة من رحم الباوهاوس حجر أساس لكثير من مجالات الفن المعاصر.

متحف الفن المعاصر في نيويورك

بعد بلدة بلاك ماونتن، حملت نيويورك شعلة الباوهاوس، وأضحت مكاناً محوريّاً لنشر ثقافة فنية عمرانية ثوريّة. واتُخِذَت مدرسة الباوهاوس نموذجاً أساسيّاً حين بُني وتأسَّس متحف الفن المعاصر في نيويورك (MoMA) الذي يعد اليوم واحداً من أهم متاحف الفن المعاصر في العالم. اتّبع المتحف تصوُّر الباوهاوس للحداثة، ومضى على خطاها باعتبار الفن أشمل من «الفنون الجميلة»، متضمناً العِمارة والتصوير والتصميم. وانطلاقاً من متحف الفن المعاصر والمعارض التي كانت يروَّج فيها لتصاميم الباوهاوس وأسلوبها وأفكارها، وكذلك عبر الطلبة والمعلمين اليهود الذين فرُّوا من محارق النازية إلى مختلف أصقاع الأرض، انتشرت الباوهاوس فكرةً فنيّة حيّةً لم تخمد بداخلها روحيّة الثورة والتمرُّد والتجديد.

الباوهاوس في شرق آسيا

على بعد آلاف الأميال من ديساو وبلاك ماونتن ونيويورك، وفي إحدى أهم ميتروبولات شرق آسيا، تحديداً في العاصمة اليابانيّة طوكيو، ضربت فلسفة الباوهاوس جذورها في الأرض بعد مساعٍ حثيثة من البروفيسورة يوكو كوفازافا لجلب الباوهاوس إلى الأرض اليابانية. نجحت كوفازافا في مسعاها، وسافر ڤالتر غروپيوس بنفسه في منتصف الخمسينيات إلى طوكيو لهذا الغرض، وافتُتحت مدرسة كوفازافا للتصميم هناك؛ تلك المدرسة الباوهاوسية التي ما زالت تؤثر في العمران الياباني لجهة التركيز على العَمَلانية في البناء والحصول على مساكن ملائمة لاحتواء ملايين البشر في كبرى المدن. أسّس هذا الانتقال الى القارة الآسيوية المجال لوصول الباوهاوس الى أبعد من طوكيو، حيث انتشرت في بعض المدن الآسيويّة كمدينة هانجتشو الصينية، التي افتَتحت فيها الأكاديمية الصينية للفنون «متحف الباوهاوس»، غير أن هذا الانتقال ظلّ محصوراً بالأطر الشكلانية للباوهاوس، فلم تصل جل أفكارها الأصيلة حول مختلف الفنون ولا رؤاها الاجتماعيّة والثقافيّة.

بعض الأعمال الباوهاوسيّة

بعد عودته من اليابان صمَّم غروپيوس مبنى پان آم (Pan Am) في نيويورك، والذي صار فيما بعد مركزاً لمؤسسة مِتلايف (MetLife)
بعد عودته من اليابان صمَّم غروپيوس مبنى پان آم (Pan Am) في نيويورك، والذي صار فيما بعد مركزاً لمؤسسة مِتلايف (MetLife)

في الشارع نفسه شيّد نظيره ميس ڤان ديروه المبنى الأيقونة سيگرام (Seagram)
في الشارع نفسه شيّد نظيره ميس ڤان ديروه المبنى الأيقونة سيگرام (Seagram)

كما صمّم غروپيوس أول بناء حديث في حرم جامعة هارڤارد، هو مركز الدراسات العليا في الجامعة
كما صمّم غروپيوس أول بناء حديث في حرم جامعة هارڤارد، هو مركز الدراسات العليا في الجامعة

وازداد إثر ذلك عدد الأبنية الحديثة ذات الواجهات الزجاجيّة المصمَّمة وفق أسلوب الباوهاوس في كلّ من مدينتَي شيكاغو ونيويورك.

أما في ألمانيا، موطن الباوهاوس، فقد افتُتحت سنة 1953 جامعة أولم للتصميم بمبادرة من أوتل آيشر وإنغه شول، لتكون استمراراً للباوهاوس التي قمعها النازيون وتمثل روح الباهاوس في ألمانيا الغربية:

ومن الأبنية الأخرى ذات الطراز الباهاوسي كنيسة الصليب في شتوتغارت المبنية سنة 1929
ومبنى الجامعة الكاثوليكية للعلوم الاجتماعية في برلين
ومبنى بلدية نويهاغن شرق برلين
ومتحف الفن الآسيوي في برلين

وغيرها من الأبنية المتأثّرة بالعمارة الباوهاوسية التي لم يتمكن الزمن من إطفاء بريقها.

راهنيّة الباوهاوس

لم يبقَ تأثير مدرسة الباوهاوس محصوراً في المجال العمراني فحسب، بل تعدّى ذلك إلى عالم التصاميم الصناعية والتقنية. فنجد مثلاً شركة شهيرة مثل براون للمنتجات الاستهلاكية متأثرة بجلاء بتصاميم الباوهاوس، ومثل ذلك في تصاميم شركة آپل للهواتف المحمولة والأجهزة الإلكترونية التي تظهر أثراً جليّاً للباوهاوس من حيث اعتمادها على الوضوح في الشكل الهندسيّ والزوايا القائمة والخطوط المستقيمة والتخفُّف من الزخرفة الزائدة. إذن، لم تتوقّف الباوهاوس عند حيِّز جامد، بل تفاعلت وتطوّرت وتجدّدت مع التحولات التاريخيّة الاجتماعيّة والعلميّة، وأثّرت باستمرار في تيارات فنية متنوعة، بل أدّت بصورة مباشرة إلى ظهور تيارات فنية مختلفة وتصاميم صناعية لا تقتل وظيفيّتُها قيمتَها الفنية الجمالية.

اليوم وبعد مُضِيّ مئة عام على نشوء الباوهاوس، التي بدأت كمدرسة داخلية للفن، حيث سكن وعمل ودرّس الفنانون والحرفيون جنباً إلى جنب، لا يزال اسمُها حاضراً بقوَّة في ميادين الفن المختلفة، وما برِحَ يتزايد اهتمام المؤسسات والشخصيات الثقافيّة والصناعيّة بها، ما يُحيلنا إلى طرح تساؤلات حول أسباب هذه الراهنيّة وبواعث تنامي الاكتراث بهذه المدرسة الفنيّة.

في البدء، ولكي نعثر على إجابات معقولة، لا بدّ من النظر إلى الجوهر وعدم البقاء عند القشريّ والشكلِيّ، لأنّ راهنية الباوهاوس تتعدّى في اعتقادنا مجرّد تصاميم ومنتجات منجزة وفق «ستايل» الباوهاوس – سواء أكانت منتجات قيّمة وتصاميم منجزة تبعاً لتصورات الباوهاوس الأصيلة، أو تلك السطحية البسيطة كالمنازل مسبقة الصنع والمبنيّة وفق مبادئ «الباوهاوس» الشكلانيّةِ. فالأهميّة التي تحظى بها الباوهاوس راهناً ليست مرتبطة بأشياء أو أشكال محدّدة، إنّما وبالدرجة الأولى بمنهجيَّتها وأفكارها ومبادئها؛ وهي البواعث التي من شأنها أن تجعل الباوهاوس حاضرة وحيويّة بلا انقطاع. ما شكّلته الباوهاوس من فرادة وتميّز إثر انبثاقها من رحم المدرسة «الكلاسيكيّة الحديثة» ما كان ليتحقّق فعليّاً لو لم تكن قد نجحت بالفعل في الجمع بين أنماط التصميم الحداثيّة بكلّ اختلافاتها وتناقضاتها ضمن مشروع واحد، أي اعتمادها على أساليب وأنماط عديدة مغايرة في عمليّة الإنجاز. من جهة أخرى لا يمكن إغفال الدور الأساسي الذي لعبه تواجدُ الرسامين والمعماريين والخطاطين والمسرحيين والبنّائين ومصمّمي المنتجات، وكذلك العلماء والتقنيين والمهندسين، في مكان واحد وعملُهم على ذات المشروع، ما ساهم في توفر كمّ هائل من الخبرات والأفكار والتصوّرات وبالتالي إنتاج أعمال مشتركة قيمة تستند إلى تيارات فكرية وفنية متنوعة بالغة الثراء. لقد تخطّت الباوهاوس بأعمالها القوالب الجاهزة والتصنيفات المرتّبة مسبقاً للتيارات والتوجّهات الفنيّة والعمرانيّة، وتمكّنت بسلاسة من المزج بين التيارات الطليعيّة المختلفة للحداثة، كالتعبيريّة والتفكيكية والوظيفية و«دي ستايل» والموضوعية الجديدة، وحتى الدادائية، وغيرها. كلّ هذه التيارات، على اختلافاتها وتناقضاتها، ظلت موجودةً داخل الباوهاوس على مدار تاريخها، ولم تخلُ في أي وقت من هذا المزيج «غير المتجانس» من الأفكار والرؤى، رغم سطوع شمس إحداها وخفوت أخرى خلال مسيرتها الطويلة والحافلة بالتجدّد والتحوّل.

إن الباوهاوس في عمقها تمثّل حالة حيويّة كثيفة لأشياء كانت منفصلة ومتباعدة قبلها: تفاعلاً بين فروع وتيارات مختلفة، ومزجاً بين الفني والعلمي والتقني، ومزاوجة للنظريات الذهنية بالممارسات التطبيقية. إنها تجربة عمليّة تدحض التصنيفَات الجاهزة وتعمل على تحطيم الحدود بين الأشياء. لذلك فإن تاريخ الفن مَدين لما قدّمته الباوهاوس من إضافات جوهريّة في مساق الفنون، ولعلّ أكثرها أثراً هو إبرازها لعدد هائل من الاحتمالات والإمكانات الجديدة في فضاءات الإنتاج الفني، وجعلها للصناعة ساحة مفتوحة أمام مختلَف الفنون، تساهم في تنميتها وتحفيزها بدل القضاء عليها وإقصائها بحجة العملانية والوظيفية. ولايمكن بأيّ حال تجاهل هذه العلاقة السببيّة بين راهنية الباوهاوس المتجددة ونزعتها المستمرة إلى ربط أقطاب متنافرة، ما يصنع حقلاً متوتّراً لا يتوقف عن إنتاج أفكار وتيارات وصياغات جديدة. ربما أمكن تشبيه الباوهاوس بمحطة مشحونة دوماً بالطاقات، لا تني تُضيء الزمن وتُغيّر صوره وألوانه في سيرورة إبداعيّة مستمرة. وفي النهاية لا بد لنا من التأكيد على أن الباوهاوس أكثر من مجرد «ستايل»، وأن سرّها كامن في موقفها الجذري من الفنون وعلاقاتها البينيّة، وكذلك علاقاتها بالمجتمع، بالإضافة إلى مرونتها وقابليّتها المذهلة للتفاعل مع التقدّم بكلّ سياقاته ومن ثم إعادة صياغتها لما تطمح لبلوغه، أي تجديدها بصورة متواصلة لليوتوبيا الخاصة بها، ما يمنحها قدرة على البقاء ويمنح روّادها حافزاً على العمل والمثابرة.