أعلنت دار أوبرا لا سكالا الإيطالية، قبل أيام، إنهاء عقد مديرها الفني ألكسندر بيريرا، بعد إجرائه مفاوضاتٍ مع السعودية أثارت جدلاً في الأروقة السياسية الإيطالية، وتناولتها وسائل الإعلام الغربية بكثافة. وكان المقترح المعروض خلال المفاوضات الجارية بين الطرفين، أن تقدم السعودية 15 مليون يورو للدار الإيطالية الشهيرة، مقابل توفير مقعد لوزير الثقافة السعودي بدر بن عبد الله آل سعود في مجلس الإدارة.
وأدت هذه المفاوضات، التي استغرقت عدّة أسابيع، إلى إحداث جدلٍ سياسي في البلاد؛ بسبب رفض شريحة واسعة من السياسيين والنشطاء لها، وذلك على خلفية انتهاكات السعودية لحقوق الإنسان، وخصوصاً جريمة اغتيال الصحفي جمال خاشقجي داخل القنصلية السعودية في إسطنبول أواخر العام الماضي، والتي أفاد تقرير صادر عن الأمم المتحدة مؤخراً بأنّ ولي العهد السعودي محمد بن سلمان قد يكون ضالعاً فيها، أو هو على علمٍ بها على الأقل، حيث فصّل التقرير، المؤلّف من حوالي 100 صفحة، كيف تحدّث فريق التصفية عن الطريقة التي سيُقتل بها خاشقجي بدءاً من اللحظات التي تسبق دخوله إلى القنصلية، فضلاً عن آلية القتل في مراحلها كافة، والتصرفات التي يجب اتّخاذها عقب تنفيذ العملية.
وكان بيريرا يسعى من خلال هذه الصفقة لإضافة مبلغٍ سنوي قدره ثلاثة ملايين يورو لخزينة الدار، بموجب عقد شراكة يستمر لخمس سنوات على الأقل، نتجَ عن مفاوضات أُجريت بشكلٍ مباشر مع كلٍّ من الحكومة السعودية وشركة أرامكو النفطية العملاقة، استجابةً لاقتراحاتٍ قدّمها أفرادٌ ينتمون إلى تيار يميني متطرف في إيطاليا.
وبغية تنفيذ هذه الصفقة، بدأت لقاءات جمعت وزير الثقافة الإيطالي ألبرتو بونيسولي بنظيره السعودي بدر بن عبد الله، اعتباراً من شهر كانون الأول نهاية العام الماضي، ثم توالت الاتصالات الهادفة لإتمام الصفقة بين الطرفين، لكنها تعطلت أخيراً بسبب الصدى الإعلامي وضغط السياسيين والحقوقيين لإيقافها.
بنتيجة الجدل الذي أثارته الصفقة، اتخذَ جوزيي سالا، عمدة ميلانو ورئيس مجلس إدارة لا سكالا، قراراً بعدم تمديد عقد بيريرا للعام المقبل، وتعيين شخصٍ آخر كخلفٍ له في منصب المدير الفني للمسرح المشهور. وقال نائب أوروبي من الحزب الديمقراطي الإيطالي (وسط يسار) إن «دخول سعوديين إلى لا سكالا يمثّل صفعةً لحقوق الإنسان في ميلانو»، مضيفاً أنّه «يتفهّم ضرورة الحصول على أموال، لكن لا يمكن السماح إطلاقاً بتعاون رموز ميلانو مع شخصٍ يدوس القوانين والحرية في بلاده كلّ يوم».
من جانبه، علَّقَ ماوريتسيو غاسباري، النائب في حزب سيلفيو برلوسكوني (فورتسا إيطاليا)، على المفاوضات بالقول إنّ «من واجب الحكومة الدفاع عن تاريخ مسرح لا سكالا وهويته»، طالباً من وزير الثقافة بونيسولي «توضيح موقف الحكومة من ذلك».
وكان بيريرا، المدير الفني للدار، قد برّر الصفقة التي يريد إتمامها مع السعوديين بالحاجة إلى المال وقدرة السعوديين على تقديمه، ملوحاً بإمكانية ضياع هذا المال أو توجيهه إلى مكان آخر، وصرّح أنّ «الأمير بدر مصمم، ويمكنه أن يمول لا سكالا بطريقةٍ خاصة، أو أن يعيد توجيه اقتراحه الى مكان آخر… في فرنسا لا ينتظرون أكثر من ذلك». وأضاف بيريرا: «أتابع برعبٍ شديد قضية خاشقجي، ولا أعلم جيداً أيّ نظام استبدادي هو النظام السعودي، ولكن، بصرف النظر عن هذا، أنا مقتنع بالقوة الإيجابية للموسيقى والالتزام المعنوي للمدراء بتشجيع معرفتها».
وفي المحصلة، أعادت الدار الإيطالية مبلغ 3 مليون يورو الذي كانت قد تلقّته من السعودية، غير أنّها ستعمل على تأسيس مدرسة موسيقية في العاصمة السعودية، وهو البند الوحيد في الاتفاقية الذي لم يشمله قرار الإلغاء.
الأمير بدر بن عبد الله، الذي يشغل منصب وزير الثقافة في السعودية منذ حزيران/يونيو 2018، والذي كان يفاوض عن الطرف السعودي على المقعد المقترح في دار لا سكالا، هو أمير شاب من مواليد 1985، وسبق أن جرى تداول اسمه على نطاق واسع ، بعد أن اشترى لوحة الفنان العالمي الشهير ليوناردو دافنشي «مخلّص العالم» بمبلغ 450 مليون دولار أميركي، وذلك بالنيابة عن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، وقد اعتُبر سعر هذه اللوحة هو الأغلى في التاريخ، وذلك وفق تقرير نشرته صحيفة وول ستريت جورنال.
بالإضافة للشأن الثقافي، كانت العلاقة مع السعودية في مجالات عدة؛ كالتسليح والاقتصاد، محور نقاشات ساخنة على المستوى العالمي خلال الأسابيع الماضية، وذلك بسبب الدعوات الحثيثة لوقف التعاون مع المملكة، على خلفية الانتهاكات التي تمارسها في اليمن، وأيضاً جريمة اغتيال الصحفي جمال خاشقجي.
وقد دفعت هذه النقاشات ألمانيا إلى فرض حظرٍ على تصدير الأسلحة للسعودية بعد مقتل خاشقجي، فيما حكمت محكمة بريطانية بأن الحكومة خالفت القانون حين سمحت ببيع أسلحة للسعودية، بسبب استخدام هذه الأسلحة في جرائم ضد اليمنيين، غير أنّ هذا الحكم لن يوقف صادرات السلاح، وإنما سيمنع الحكومة البريطانية من إصدار تراخيص جديدة لبيعه إلى السعودية حتى «يتم التأكد من العمليات التي سيُستخدم فيها».
كذلك، صوّتَ مجلس الشيوخ الأميركي لصالح مشروع قرار يقضي بمنع بيع أسلحة متطورة إلى السعودية والإمارات، لكنّ ترامب لجأ إلى قانون الطوارئ الوطنية لتعطيل اعتراض النواب ومواصلة تنفيذ صفقات تسليح بمليارات الدولارات مع هاتين الدولتين. وأشار ترامب، بعد سؤاله عن تحقيق الأمم المتحدة بخصوص خاشقجي، إلى رفضه إجراء تحقيق فيدرالي في الحادثة، وأضاف أنّ «المال هو المهم»، مُحدّداً بذلك ملامح السياسية التي يريد لها أن تسود عالم اليوم.
يصلح إلغاء صفقة دار أوبرا لا سكالا مثالاً على فعالية قوى ودوائر في العالم تسعى إلى مقاومة الإفلات من العقاب، وترفض التطبيع مع القتلة، غير أن تصريحات وسياسات قادة مثل ترامب، تدفع بقوة باتجاه تدعيم عالم الإفلات من العقاب، عندما تضع وراء ظهرها أيّ اعتبارٍ للقضايا ذات الأبعاد الأخلاقية والإنسانية. ويمكن لتعليق ترامب على مبيعات الأسلحة الأميركية أن يلخّص النتائج التي تترتب عن إدارة رجل أعمال جشع لأكثر دول العالم سطوةً وتأثيراً: «هم يشترون أسلحة بمبالغ ضخمة، 150 مليار دولار من المعدات العسكرية، على عكس البلدان الأخرى التي ليس لديها أموال وعلينا أن ندعمها بكل شيء. السعودية هي مشترٍ كبير لمنتجات الولايات المتحدة، وهذا يعني الكثير بالنسبة لي».