يعاني السوريون في لبنان عمالاً ولاجئين أوضاعاً بالغة القسوة، نتيجة ممارسات عنصرية متنوعة من قبيل القيود على الحركة ليلاً، والقيود على العمل، وتحريم الزواج من لبناني/ة، مترافقة مع خطاب كراهية يحقن السم في المجتمع اللبناني، ويزيد ملحاً على جراح السوريين. وفي الأشهر الأخيرة راحت هذه الممارسات والخطاب المرافق لها تصير أكثر فأكثر جزءاً من السياسة الرسمية المعلنة للدولة اللبنانية، عبر مزيد من القوانين والإجراءات التي تخنق اللاجئين السوريين، ومزيد من الخطاب العنصري الصريح الصادر عن مسؤولين لبنانيين.
وكان الرئيس اللبناني ميشال عون قد تحدث في الرابع عشر من حزيران الجاري عن ضرورة عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، وعن أنهم «قد يبدؤون بالعودة تدريجياً إلى مناطق باتت آمنة في سوريا، وإنه ينبغي حدوث ذلك قبل التوصل لحل سياسي». وقبلها بأيام، قال وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل إن اليد اللبنانية العاملة أهم وأولى بالعمل من أي جنسيات أخرى على الأرض اللبنانية، بالإضافة إلى تصريحات أخرى أشد فجاجة، من قبيل الحديث عن أن الانتماء للبنان هو «انتماء جيني»، في تعبير يستحضر أشد الخطابات فاشية في التاريخ.
أثارت هذه التصريحات الرسمية الأخيرة مخاوف السوريين، الذين باتوا يستعدون لسيناريوهات أسوأ، من بينها ما تناقلته الصحف بتاريخ 20 حزيران الجاري، عن ترحيل أكثر من ثلاثين شخصاً، بينهم خمس نساء، وتسليمهم مباشرة إلى الأمن السوري على الجانب السوري من الحدود، ونقلهم إلى فرع المخابرات الجوية في دمشق. لكن على الجانب الآخر، أثارت هذه التصريحات العنصرية المترافقة مع ممارسات تعسفية متشددة غضباً لبنانياً، عبَّرَ عنه نشطاء لبنانيون متنوعون، وجاء على شكل مبادرات وحملات ووقفات احتجاجية منظمة أو عفوية، ظهرت كفسحة ضوء وسط الخطاب الإعلامي العنصري المهيمن، الموجه ضد اللاجئين السوريين في لبنان أساساً، والذي يحمل في الوقت ذاته رسائل عنصرية تمييزية لبنانية- لبنانية، ويعمّق انقسامات سياسية وطائفية موجودة أصلاً في المجتمع اللبناني.
ومن أولى هذه المبادرات بعد التصعيد الأخير في الخطاب والممارسات العنصرية، كانت الوقفة الاحتجاجية التي جاءت بعد أيام قليلة من تصريحات عون وباسيل المناهضة للاجئين، عندما تجمع لبنانيون وسوريون في ساحة الشهيد سمير قصير في العاصمة بيروت، وحملوا شعارات تندد بالتصريحات الرسمية، بالإضافة إلى لافتة صفراء تحمل شعار #ضد_خطاب_الكراهية، وهي اللافتة التي صارت خلال الشهر الماضي واحدة من التصميمات التي يمكن إضافتها إلى الصورة الشخصية على فيسبوك، والتي تحمل الهاشتاغ الذي صار يستعمل بكثرة على منصات التواصل الاجتماعي في كل ما يخص الأخبار المتعلقة باللاجئين السوريين في لبنان.
وفي سياق المجابهة الإلكترونية لخطاب الكراهية، أعلنت منصة ميغافون الإعلامية اللبنانية، في الثامن عشر من حزيران الجاري، عن حملة تشاركية لمراجعة التعليقات المناهضة للاجئين السوريين على المنصات الافتراضية، وذلك من خلال إرسال رابط لهذه التعليقات أو صورة عنها إلى إدارة المنصة، كي تتمكن من التدقيق فيها وكشف التضليل المتعمد الذي تحتويه.
أما على مستوى العمل الحقوقي، فقد أعلن موقع المفكرة القانونية، بتاريخ 24 حزيران عن ورقة موقف قانوني، نظمتها ثمانِ منظمات حقوقية لبنانية من بينها المفكرة القانونية نفسها، بالإضافة إلى روّاد الحقوق، ألف، المركز اللبناني لحقوق الإنسان، أمم للتوثيق والأبحاث، دعم لبنان، منظمة تبادل الإعلام الاجتماعي، والمرصد اللبناني لحقوق العمال والموظفين. وترفض هذه الورقة القانونية مختلف أشكال الترحيل القسري للاجئين السوريين من الأراضي اللبنانية، لا سيما القرارين الجديدين اللذين ينّصان على «ترحيل المواطنين السوريين الداخلين عبر المعابر غير الرسمية وتسليمهم إلى السلطات السورية، بموجب أصول موجزة ومن دون احترام الأصول القانونية، وهما قرار المجلس الأعلى للدفاع بتاريخ 15/4/2019، وقرار المدير العام للأمن العام بتاريخ 13/5/2019، الذي قضى بترحيل جميع المواطنين السوريين الداخلين إلى لبنان خلسة بعد تاريخ 24/4/2019».
وتعتمد هذه الورقة على محاججة قانونية تكشف عن عدم شرعية القوانين التي تنص على ترحيل السوريين، أولاً لأنها لا تأخذ بعين الاعتبار قرار مجلس شورى الدولة الذي أبطل القرارات الصادرة عن المديرية العامة للأمن العام في بداية العام 2015، والمتعلقة بتعديل شروط دخول وإقامة السوريين في لبنان، بالإضافة إلى أنها تتضمن تجاوزاً صريحاً وعلنياً للدستور اللبناني أولاً، ومن ثم القوانين الدولية والاتفاقات التي وقّعت عليها الدولة اللبنانية.
على الرغم من أجواء الشحن والتوتر الشديد التي تنذر بالأسوأ، لا يبدو أن السلطات اللبنانية بصدد التراجع عن سياساتها الخانقة للاجئين السوريين، رغم كل الاحتجاجات والمجابهة من قوى مدنية لبنانية؛ وفي هذا السياق يخبرنا ناشطٌ مدنيٌ لبناني فضّل عدم ذكر اسمه، عن جولات قام بها عناصر من فوج حرس بيروت في شارع الحمرا خلال الأيام القليلة الماضية، استهدفت المحلات التجارية التي تشغّل السوريين، طالبة إبراز أذون العمل والإقامات القانونية للعمال السوريين، التي يكاد يكون استخراجها شبه مستحيل، أو إيقافهم على العمل.
وقد دفعت هذه الأوضاع عشرات النشطاء والصحفيين والإعلاميين والحقوقيين اللبنانيين إلى التوقيع على بيان عن العنصرية في بلدنا يوم الخامس والعشرين من حزيران الجاري، معلنين فيه استنكارهم ورفضهم للسياسات التمييزية بين الأفراد السوريين واللبنانيين، محذرين من خطورة هذه القرارات والإجراءات التي ترعاها الحكومة اللبنانية، ومن أنها تفتتح «طوراً بالغ البشاعة في التاريخ اللبنانيّ الحديث، وفي العلاقات اللبنانيّة – السوريّة المستقبليّة، وقبل كلّ شيء في ما يخصّ إنسانيّتنا نفسها».
يؤسس هذا البيان، وقبله وبعده سائر النشاطات التي تحمل الأهداف نفسها، لمقاومة حقوقية ومدنية منظمة لخطاب الكراهية الرسمي، الذي تكمن خطورته في أنه يشرّع الخطاب العنصري ويدافع عنه أمام الرأي العام اللبناني، معتمداً على حجج كاذبة ومعلومات مضللة وتجاوزات قانونية. وعلى الرغم من أن الطبيعة الطائفية والتمييزية للنظام السياسي اللبناني تحمل في ذاتها الاستعداد لاحتضان هذه الأنماط من خطاب الكراهية، إلا أن الأصوات المدنية اللبنانية تقول إن هناك ما يمكن فعله من أجل لبنان نفسه، ومن أجل اللاجئين فيه أيضاً.