يجهز نفسه للخروج من المنزل. يفكر كثيراً بالملابس التي سيرتديها. الجو بارد في الخارج. تتدافع احتمالات شتّى إلى ذهن أحمد خ، ويريد أن يكون حاضراً لأسوئها. الآخرون لا يحارون مثله أمام دولاب الملابس. هم يعرفون أنهم سيخرجون لمدة ساعتين أو ثلاث ثم يعودون، ولكنه غير متأكد من ذلك. يضع احتمالات جدية بأنه سيتم القبض عليه، وأنه سينام في السجن لفترة لا يعرفها. يريد أن يكون جاهزاً لبرد الزنزانة، لا لبرد الشارع. الخروج من المنزل عموماً هو مسألة تحتاج إلى تأمل طويل، والبقاء فيه أيضاً مشكلة. هناك على الدوام أصوات سيارات تمر قرب المنزل. ماذا لو كانت إحدى هذه السيارات تابعة للشرطة؟ كلما سمع إغلاق باب سيارة في الشارع يندفع إلى الشباك ليرى إن كان العناصر ينزلون منها بالأصفاد والهراوات ويتوجهون إلى باب عمارته. لا يعرف إلى أين سيهرب، هل سيقفز من الشرفة الخلفية، التي تؤدي إلى مكان مغلق؟ ماذا لو كان عناصر الشرطة يحاصرون كامل المجمّع السكني؟ لعلّه سيمشي حافياً داخل المنزل دون أن يصدر أي صوت. ولكن ماذا لو خلعوا الباب ووجدوه في الداخل؟ هل هذا يزيد ورطته؟ لا يعرف إن كان سيفتح الباب أم لا. إدراكه أن السيارة في الشارع ليست سيارة شرطة يُخرجه من عاصفة الأفكار التي التهمته ووضعته في مواجهة الخطر الذي لم يحصل، وقد لا يحصل أبداً.

كان قد اعتُقل مؤخراً في تركيا وأُفرج عنه بسبب مشكلة صغيرة في الأوراق، فتحت أبواب الخوف الكامن من كل ما له علاقة بالشرطة والسجون، والذي راكمه على مدى سنوات في سوريا جبالاً من الرهبة المدفونة. كان عناصر الشرطة  لدى اعتقاله يضعون احتمال الترحيل إلى بلاده في الحسبان. أحدهم يسأل الآخر: هل نرحّله أم لا؟ يفتح عينيه مذهولاً على اتساعهما منتظراً جواب الشرطي الآخر، الذي يجيب بأنه لا يعرف كيف سيتم التعامل مع “قضيته”. يتذكر «ك» بطل رواية القضية لفرانز كافكا، الذي سيق إلى موته بسبب مشكلة لا يعرفها، وواجه «إجراءات إدارية» مشابهة لهذه. يخاف من تحول السوريالية إلى واقع، أو الواقع إلى سوريالية. كان وهو يقرأ هذه الرواية في السابق يظن أن كافكا يكتب عنه. دائماً كان يشعر أنه مجرم دون أن يستطيع تحديد ما الذي فعله بالضبط. هذا الشعور المبهم تولد لديه منذ أن كان فتياً في بلاده، التي تقف فيها السجون على بعد خطوات ممن يفتح فمه بالشكوى. سجون تشبه الثقب الأسود يختفي فيها البشر، وتتكسر فيها العظام وتُثقب الجلود وتشرف على خط إنتاج لتحويل البشر إلى أرقام على الجباه الصفراء والأبدان المتيبسة. سجون رهيبة شكلت لديه فوبيا من كل ما له علاقة بالشرطة والمحاكم والسجون والسير مستسلماً بالأصفاد.

Slug Signorino- Washington City Paper
Slug Signorino- Washington City Paper

يخرج من المنزل بعد أخذ كافة الاحتياطات. يؤشر للتاكسي ويركب. يقطع نصف المسافة إلى هدفه، ثم يرتبك بعد أن يضع يده على جيبه ويعرف أنه نسي الهوية في المنزل. يطلب من السائق بعينين ضارعتين أن يعود إلى نقطة الانطلاق فوراً. يركض إلى المنزل ويضع الهوية في الجيب الداخلي للمعطف ويغلق عليها السحّاب كي لا تقع أبداً. ستكون مصيبة لو أوقفته الشرطة وهو لا يحمل الهوية، فقد سمع عن عدة حالات ترحيل لمن لا  يحملها، وآخرون تحدثوا عن أن حتى من نسي هويته في المنزل يتم اعتقاله. هناك حواجز للشرطة في كل مكان. استنفار الشرطة يؤشر على فزعهم من خطر ما، وهذا بالمحصلة يزيد احتمالات الشكوك به، حسبما يستنتج راضخاً لآثار صدمة الاعتقال الأخيرة، التي تؤثر على حيادية الإدراك لديه، وتدفعه للانحياز للتركيز على مكامن الخطر. الشبهة التي تتلوها أسئلة الشرطة كفيلة بدفعه للإجابة بارتباك من ارتكب جرماً. الأيام التالية للاعتقال سارت على هذا النحو، كرر فيها تجربة الاعتقال بحذافيرها في رأسه وهو صاحٍ، ورآها تحدث مجدداً بنهايات أوخم في الكوابيس. لم يستطع قول كل هذا لمعارفه، فالقلق الزائد قد يتحول إلى مادة للسخرية لدى الآخرين، وكان ذلك يدفعه للانطواء بسبب شعوره بالعار، ومواجهة تدفق المشاعر السلبية وحيداً دون دروع.

الذاكرة وأشباحها

تسير الحياة ولا تتوقف. تندفع إلى الأمام كنهر أو طلقة. الناس يأكلون ويذهبون إلى وظائفهم ويستمعون للموسيقى ويتضاحكون ويسيرون في الأسواق. لكن ثمة على الهامش أناس آخرون، يظنون أن الحياة تسير بعيداً عنهم. ثمة جدران من الرهبة والخوف تدفعهم للحذر من الغوص فيها: عيونهم مفتوحة. يترصدون الأصوات. يلتفتون في الشارع. ينظرون من العين الساحرة إذا طُرق الباب. الحاضر في عيونهم مسربل بإشارات الماضي، متورمٌ من ضرب هراواته، يتهادى كالغول، يتكثّف في لحظة خوف إلى حجر في الحلق، يبتعد كلما أطبقت الأجفان على دفق الكوابيس، وانفتحت في جوف الليل على عرق النواصي وانخطاف الأنفاس. هذا هو «الجرح الخفي»، المسمى علمياً «اضطراب ما بعد الصدمة».

كثيرون هم السوريون والسوريات الذين احتكّوا بالموت والخطر الجسدي، أو اعتقلوا وتعرضوا للتعذيب أو تعرضو للاعتداء الجنسي، ثم عادوا إلى الحياة مرتبكين، يعانون بعد التعرض للصدمة من آثارها، ويعيشون بقلق مع الاضطراب النفسي الذي يليها، خائفين من تكرارها وتسرب الخطر الكامن في الهدير والهمسات ونظرات العيون والصراخ البعيد. منطوين على أنفسهم ومنعزلين عن محيطهم، ومفكرين في الانتحار إذا تطور الأمر.

الصدمة هي الموقف العنيف الخارج عن المألوف، الذي يمر به الإنسان، وتتضاعف فرص التعرض لها في الظروف الاستثنائية التي يعيشها السورويون منذ أعوام. ثمة عنف منفلت ينصبّ جحيماً على الملايين، عنف جسدي ونفسي يخلّف اضطرابات نفسية، لا تزيلها مراهم الجروح، ولا تمسحها من الذاكرة محاولات النسيان، ولا تنحلّ بالتجاهل أو الهروب أو ادّعاء الصلابة.

حين يقترب الخطر من الإنسان، يتهيأ نفسياً وعصبياً للدفاع. الدفاع الذي يتجلّى في مواجهة الخطر أو الهروب منه: يبدأ الدماغ بإرسال إشارات تتحول إلى هرمونات تتحكم بالجسد وتحضره للمواجهة، تنشدّ الأعصاب، ويزداد خفقان القلب، وتتوسع حدقات العين، وتنشد العضلات، وتتسارع الأنفاس.

في الحروب والكوارث الطبيعية والحوادث، للصدمة، بحسب شدتها، آثار قصيرة الأمد قد تزول خلال أيام معدودة، وأخرى تستمر كلما تم تذكر الصدمة على المدى الطويل وتسبب تغيّراً طارئاً في السلوك. بعد انقضاء الصدمة  تستمر هرمونات التوتر بالتدفق، مسببة القلق والذكريات المؤلمة، والكوابيس، والأفكار السوداوية.

إلى جانب الأفكار السوداوية التي يعيشها الشخص بعد الصدمة، تساهم نظرة المجتمع القاسية في ازدياد معاناته. فهو إن كان رجلاً يسمع كثيراً من العبارات الجاهزة من قبيل: «خليك رجال» أو «شد حيلك». فيما إذا كانت أنثى وكانت الصدمة لها علاقة بالاعتداء الجنسي أو الاغتصاب، تزداد وخامة الأمر جراء رؤيتها سيوف «الشرف» و«العفة» مرفوعة في وجهها، ما يؤدي في بعض الأحيان إلى تطور المعاناة لمراحل خطيرة تتراود فيها الأفكار الانتحارية.يحتاج من تعرض للصدمة إلى الدعم والتفهم من المحيط القريب، دون إدانات وتقريع ورفض وتبرّم.

خطوات أولى خارج الكهف

يحتاج تشخيص الاضطراب للمختصين، الذين لا يعد اللجوء إليهم عيباً ولا عاراً ولا مدعاة للخجل. الخطوة الأولى هي دائماً الأهم والأصعب.

الأعراض قد لا تتواجد جميعها بالشدة ذاتها، وهي تشمل الكوابيس وتجنّب ما يذكر بالصدمة، إضافة للأفكار والمشاعر السلبية، كالخوف أو الغضب أو الشعور بالذنب، ومواجهة صعوبات في النوم. استمرار هذه الأعراض لأكثر من شهر يزيد من ضرورة اللجوء إلى المختصين القادرين على التشخيص والعلاج.

يقول م.ح في حديث للجمهورية إنه اعتُقل عام 2015 لمدة 9 شهور من قبل النظام السوري، وخرج بعد هذه التجربة القاسية عن طريق التهريب إلى تركيا: «بعد وصولي إلى تركيا، كانت صديقتي هي أول شخص يخبرني عن اضطراب ما بعد الصدمة وتشرح لي ما الذي يعنيه، وذلك بعد عام من تجربة الاعتقال. كنت قد ظننت أنني تجاوزت آثار الصدمة. الخوف الذي بدأت شرارته لدى سماع عناصر الأمن ينادون على اسمي، واستمر مع جلسات التعذيب والإيداع في السجن، وصولاً إلى رحلة التهريب القاسية، التي لم أكن لأقدم عليها لولا ما حدث. هذا الخوف كنت أحمل آثاره دون أن أدري، ولجأت مؤخراً إلى جلسات علاجية، كشفت لي كثيراً مما كنت أجهله».

يضيف ح: «كنت خلال الشهور الماضية أخاف كثيراً عند رؤية الشرطة التركية. ارتباكي الشديد يدفعهم في كثير من الأحيان إلى إيقافي وطلب هويتي. إضافة إلى ذلك كنت أرى الكوابيس لمدة شهور حتى بعد خروجي من سوريا. كنت اعتُقل في كل ليلة وأستيقظ فزعاً، رغم وجود آلاف الأميال بيني وبين سوريا.. مرة أخبرتني صديقتي أنني كنت أهذي وأنا نائم قربها».

يتابع الشاب قائلاً: «كنت محتاجاً لأحد ما حتى يخبرني أن ما أمر طبيعي ولكنه يحتاج إلى أخذ خطوات لتجاوزه لأني لست مضطراً للمعاناة بسبب استمراره. لقد ضربت فيّ الصدمة كافة أنواع الأحاسيس. تحولت إلى شخص آخر بسببها ولم أكن على دراية بذلك. بعد الخروج من السجن ورحلة التهريب واستقراري في تركيا، كنت آكل وأشرب وأنام دون أن أستمتع بأي شيء في حياتي. ما زاد الأمر سوءاً أنني كنت أكتم ما أشعر به ولا أتحدث عنه، ما يخلف لدي شعوراً بالانعزال والوحدة، والغربة عن محيطي. الأمر كان أشبه بلعبة، تشاهد فيها الحياة وهي تسير دون أن تكون قادراً على التحكم أو الإحساس بشيء.  أول مرة أتحدث عن التجربة كانت عندما طلبت مني زميلة أن توثق شهادتي حول تجربة الاعتقال. تحدثت عن تفاصيل كثيرة، ومواجهة تفاصيل التجربة من خلال التحدث عنها أراحتني في الحقيقة. بعد ذلك أخبرني صديق لي أنه كان يعاني من اضطراب ما بعد الصدمة لسنوات دون أن يدري، وأشار إلى أنه ارتاح كثيراً بعد الجلسات العلاجية. تواصلت مع معالج وبدأنا جلسات منذ فترة. أصبحت قادراً على رؤية هذه التجربة من بعيد وتخفيف سطوتها عليّ. أصبحت إيجابياً أكثر، وأنصح من مرّ بتجارب مشابهة أن يلجأ إلى العلاج دون تردد أو تأجيل».

الصدمة.. الاضطراب.. وما بينهما

بيركو سلمو، أخصائي نفسي مقيم في ألمانيا، قال في حديث للجمهورية، إن هناك فرقاً بين تعرض الشخص للصدمة، وإصابته باضطراب ما بعد الصدمة: «قد تكون آثار الصدمة مختلفة، والصدمة هي حدث عنيف يحصل للشخص، وقد نكون جميعنا معرضين له خلال الحياة، وهذا أمر طبيعي. هناك نسبة من الأشخاص تستطيع تجاوز الصدمة، ولكن آخرين قد لا يكونون قادرين على ذلك، وهذا متعلق بشدة الصدمة ومعطيات أخرى».

يقول بيركو إن الصدمة «ترفع عرضة الإنسان للمعاناة النفسية، والتي قد تتجلى بصورة اضطرابات معينة، كالقلق والاكتئاب. هناك ثلاثة سيناريوهات في المجمل تحصل للإنسان بعد التعرض للصدمة: أن يتجاوزها، وهذا لا يعني أن لا تترك لديه أي أثر، ولكن هذا الأثر لا يرقى لتشكيل معاناة نفسية على شكل اضطراب. الاحتمال الثاني هو أن تؤدي الصدمة إلى الاكتئاب أو اضطراب آخر. الاحتمال الثالث، هو أن يمر الشخص باضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، وهذا الاضطراب هو الأكثر شيوعاً في هذه الحالة».

يضيف بيركو أنه إذا كانت الصدمة على درجة معينة من الشدة، يحصل خلال الشهر الأول بعد مرورها حالة من التوتر الحاد، وهي حالة مشابهة في أعراضها لاضطراب ما بعد الصدمة، إلا أنها قد تزول بمرور شهر، وإذا لم يحدث ذلك فهناك فرص أكبر لتشخيص الاضطراب. قد يتأجل ظهور أعراض الاضطراب إلى شهور أو أعوام بعد الصدمة، التي من أسبابها وجود الشخص في ظروف استثنائية تدفعه للتركيز على النجاة في الظروف الصعبة التي يعيشها. هناك على سبيل المثال سوريون بدأت أعراض اضطراب ما بعد الصدمة بالظهور لديهم بعد وصولهم إلى ألمانيا، أي بعد شهور على مرور الصدمة.

يتابع سلمو قائلاً إن «الملامح الأساسية للاضطراب تتجلى في ذكريات إقحامية، كالتذكر اللاإرادي أو الفلاش باك، والرغبة في تجنب ما تخلفه هذه الذكريات من رد فعل عاطفي عنيف يتجلى بالمشاعر السلبية، كالقلق والخوف والتوتر». مشيراً إلى أن أكثر الطرق المستخدمة في علاج الاضطراب هي العلاج المعرفي السلوكي، الذي يتضمن التعريض أو «المواجهة السردية» مع الحدث مجدداً، وتستمر لعدة جلسات، باستثناء الحالات الشائكة، التي تكون فيها التجربة الصادمة قاسية وطويلة الأمد.

«يُفترض أن يبدأ معظم الأشخاص بالشعور بالراحة بعد عدة جلسات»، يقول بيركو. منوهاً إلى أن هذه الجلسات «تستمر حتى الوصول إلى القدرة على تحييد الصدمة ودمجها بسياق الذكريات العامة في مكانها الطبيعي، وليس محوها من الذاكرة… الغاية من العلاج في العموم هي تمكين الشخص من خلق مسافة بينه وبين الصدمة، وتخفيف آثارها السلبية على سلوكه. هذه الآثار التي تكون سيئة وصعبة، إلا أنها تتضمن في بُعدٍ من أبعادها بعض الملامح الإيجابية أيضاً، التي لها علاقة بالنضج والتعلم من التجربة.

يوضح بيركو أن هناك قيم مجتمعية موجودة في الخطاب والثقافة الشائعة، تحث الناس على كتم آلامهم والمعاناة بصمت، وتدفعهم للمكابرة وإظهار الصلابة وتساهم في قمعهم، ما يؤثر بشكل سلبي على كل أنواع الاضطرابات النفسية ويفاقمها، وقد يشكل آثاراً كارثية مباشرة: «هناك على سبيل المثال من تراوده أفكار انتحارية بسبب وجود معاناة نفسية ما، وقدرته على الحديث عن ذلك تزيد فرص التدخل لمنع حدوثه. يجب أن يجد من يعاني من أي مشكلة نفسية آذانا صاغية، دون تجاهله أو التقليل من شأن معاناته أو السخرية منها، ذلك أن كل ما يمر به الإنسان في هذه التجارب هو أمر طبيعي».

«من المهم الإشارة إلى أن هناك الكثير من الأشخاص الذين يظنون أنهم تجاوزا الصدمة، ويعزون المشاعر السلبية التي يعيشونها إلى مصادر أخرى. الإنسان ليس مضطراً إلى حمل آثار المعاناة معه إلى فترة طويلة، وعليه أن يكسر عتبة التردد ويأخذ خطوات عملية للبدء بالعلاج إذا كان متأكداً من وجود المعاناة النفسية أو شاكّاً بذلك. عليه التفكير جدياً بذلك إذا كان ثمة أعراض لا يستطيع تفسيرها، من قبيل الغضب والمشاعر السلبية والكوابيس»، يقول بيركو.

توجد مبادرة مجانية للعلاج النفسي عبر الانترنت لتسهيل الأمر على الراغبين باللجوء للمختصين في حالات كهذه.