لا تزال أغلب مضامين العقد الذي ستستثمر بموجبه شركة روسية مرفأ طرطوس مجهولة، إلا أن مصادر محلية أكدت للجمهورية أن العقد سيدخل حيز التنفيذ خلال الأيام القليلة القادمة، فيما تتواصل في المرفأ استعدادات متنوعة لاتخاذ هذه الخطوة، من بينها إعادة الهيكلة الإدارية، وتواصل دورات في أساسيات اللغة الروسية للعاملين في المفاصل الإدارية في المرفأ، كان قد تم الإعلان عنها على الموقع الرسمي لشركة مرفأ طرطوس في 22 نيسان الماضي، أي قبل نحو عشرين يوماً من مصادقة مجلس الشعب على العقد.
بالإضافة إلى هذا فإن ثمة استعدادات تتعلق بكتلة العمالة الفائضة الكبيرة في المرفأ، وستكون إحالة أعداد من الموظفين إلى التقاعد المبكر من بين الحلول المطروحة للتعامل مع هذا الأمر. وقالت المصادر التي تحدثنا إليها إن الخطوات التنفيذية الأولى ستكون على الأرجح تعميق أحواض رسو السفن قرب الأرصفة، واستبدال أو إصلاح آليات المرفأ المعطلة، وأيضاً تزويده بآليات جديدة.
وتبلغ مساحة مرفأ طرطوس الحالية أكثر من ثلاثة ملايين متر مربع، منها مليون ونصف المليون متر مربع هي مساحة الأحواض المائية، في حين تشغل الساحات والمستودعات والأرصفة والأبنية الإدارية مساحة مليون وثمانمائة ألف متر مربع. وكان المرفأ قد عاد على خزينة النظام السوري عام 2018 بإجمالي إيرادات قدره 11.3 مليار ليرة، في تراجع عن حجم الإيرادات لعام 2017، الذي بلغ أكثر من 14 مليار ليرة سورية.
وتعود أسباب انخفاض الإيرادات إلى العقوبات الأميركية والغربية المفروضة على النظام السوري، والتي تستهدف المرفأ والشركات المتعاملة معه والسفن الذي ترسو فيه والحوالات المالية التي تصل إليه، وكذلك بسبب تراجع حجم الصادرات السورية بشكلٍ كبير.
وأقرّ مجلس الشعب السوري في الثاني عشر من حزيران/يونيو الماضي «مشروع قانون خاص»، صادقَ بموجبه على العقد رقم 22، الذي جرى توقيعه بين الشركة العامة لمرفأ طرطوس وشركة إس.تي.جي. إينجيرينغ الروسية محدودة المسؤولية، يقضي بـ«إدارة واستثمار» مرفأ طرطوس لمدة 49 عاماً، ليصبح المشروع قانوناً سارياً، دون أن يطّلع أعضاء المجلس على نصّ العقد وطبيعته، حتّى أنّهم مُنعوا من تقديم تساؤلات عنه أو مناقشته من قبل رئيس المجلس حمودة صباغ.
ويبدو أن الاتفاق على الملامح العامة لهذا العقد جاء في جلسة للّجنة الحكومية السورية الروسية المشتركة في تشرين الثاني/نوفمبر 2018، إلا أن الإعلان الرسمي تأخر حتى العشرين من نيسان/أبريل 2019، عندما صرح نائب رئيس الوزراء الروسي يوري بوريسوف أنّ «الميناء سيتم استخدامه من قبل قطاع الأعمال الروسي، وسينعكس ذلك إيجاباً على التبادل التجاري بين البلدين، كما أنه سيخدم الاقتصاد السوري»، ولكن من دون الخوض في معنى وطبيعة هذا الاستخدام، لا سيّما أنّ الروس يستخدمون ميناء طرطوس منذ وقتٍ طويل لتزويد السفن الروسية بالوقود وصيانتها، ويتم استخدام المرفأ الحربي الملاصق له كقاعدة روسية منذ بدء التدخل العسكري الروسي في الحرب السورية.
لكن تمهيدات من النظام السوري كانت قد سبقت تصريحات بوريسوف، تمثّلت في إعلان وزارة النقل في حكومة النظام أواخر العام الماضي عن إجراء مباحثات مع الجانب الروسي لتوسيع مرفأ طرطوس وزيادة قدرته الاستيعابية لحمولات أكبر، وإقامة أرصفة ذات أعماق كبيرة «كي تكون سوريا مركزاً لتوزيع القمح الروسي في المنطقة في حال وافقت روسيا على ذلك»، في صفقةٍ اعتبرت الوزارة أنّها ستعود على سوريا بإيرادات جيدة، وسيعقبها تأهيل صوامع الحبوب والسكك الحديدية المتكفلة بنقل هذا القمح.
ويدخل ميناء طرطوس في الاستراتيجية الروسية منذ زمن طويل، حتى أن روسيا كانت تفكر في نقل وحداتها العسكرية من قاعدة سيفاستوبول البحرية في الأراضي الأوكرانية إلى طرطوس العلاقة بين العراق ومحيطه الإقليمي والدولي بعد 2003م، جاسم الحريري، ما يمكّن روسيا من الإبقاء على تواجدها العسكري في «المياه الدافئة» بعد انتهاء عقد استئجارها لميناء سيفاستوبول عام 2017، إلا أنها لم تعد مضطرة لإخلاء القاعدة بعد ضمها شبه جزيرة القرم إلى الاتحاد الروسي.
تأجير أم استثمار
أثار الحديث عن عقد مرفأ طرطوس ردود فعل مستنكرة لدى شرائح واسعة من السوريين، لجهة ما تم اعتباره تنازلاً عن مقدرات البلاد، وتأجيراً لجزء من أراضيها لدولة أجنبية، خاصة أن نائب رئيس الحكومة الروسية قد استخدم في تصريحاته الأولى وصف عقد إيجار، وهي الصيغة القانونية نفسها التي كانت روسيا تستحوذ بموجبها على ميناء سيفاستوبول الأوكراني.
وقد زاد من هذه المخاوف الغموض الذي يلفّ بنود العقد، وعدم نشره من قبل أي جهة، وهو ما دفع وزير النقل علي حمود إلى نفي صيغة «التأجير»، قائلاً إنّ العقد هو فقط لاستثمار المرفأ وتشغيله لمدة 49 عاماً، بموجب الشراكة الاستراتيجية بين سوريا وروسيا، ووفق نظام العقود التشاركية بين القطاع العام والخاص المعمول به في سوريا. كما تحدّث عن المشروع بوصفه استثماراً كبيراً سيسهم في إعادة الإعمار وزيادة حجم ترانزيت البضائع إلى دول الجوار، وسينتج عنه فائدة اقتصادية «كبيرة جداً».
كما قدّم الوزير تطمينات للعاملين في المرفأ بأنّه لن يتمّ التخلي عنهم بعد تحوّل المرفأ للإدارة الروسية، بل إنّ المرفأ سيحتاج إلى اليد العاملة بعد توسعته، وستكون من السوريين، ما يعني خلق فرص عمل جديدة لهم، غير أنّ مصير العمال المياومين الذين يعملون في المرفأ دون عقود أو بعقود قصيرة الأجل أغلبها لا تزيد عن ثلاثة أشهر يبقى موضع تساؤل. وكذلك ثمة تساؤلات حول الجهة التي ستدفع رواتب الموظفين الحكوميين العاملين في المرفأ، بالإضافة إلى أنّه من الطبيعي أن يستجلب الجانب الروسي معدّات وتقنيات حديثة تقلّل من الحاجة لليد العاملة البشرية، ما يعني تحوّل كثير من العاملين إلى كتلة بشريّة مُعطّلة.
على أي حال، تشير جميع التسريبات، التي جاء بعضها من وسائل إعلامية معارضة للنظام السوري، إلى أن العقد أقرب ما يكون إلى عقد استثمار، باعتبار أن هناك شروطاً تتعلق بأن تكون إدارة المرفأ لمجلس يتألف من خمسة أشخاص، ثلاثة يمثلون الجانب الروسي واثنان يمثلان الجانب السوري؛ وأن تكون 85 % بالمئة من العمالة في المرفأ سوريّة؛ وأن تحصل حكومة النظام على نسبة مئوية من الإيرادات، تبلغ 25 % خلال السنوات الأولى التي ستقوم فيها الشركة الروسية بإصلاح المرفأ وتوسيعه على نفقتها، ثم 35 % في السنوات اللاحقة. وإذا كانت هذه الشروط تعني أن العقد ليس عقد تأجير، إلا أن عدم نشر العقد رسمياً يدفع إلى التفكير بأن هناك شروطاً مجحفة تصب في صالح الجانب الروسي، وتكبّل أي إمكانية مستقبلية لفسخ العقد أو تعديله، فضلاً عن أن كل ما قيل، بما في ذلك تصريحات وزير النقل السوري، سيبقى فاقداً لأي مصداقية.
الشركة المُستأجرة أو المُستثمرة
شركة ستروي ترانس غاز هي فرع الهندسة والبناء لشركة الطاقة الروسية العملاقة غازبروم، وهي الذراع الاستثماري الروسي الأبرز حالياً في سوريا، كما أنه كان لها تعاملٌ قديم ومشروعات سابقة في البلاد، وهي اليوم تضع يدها شيئاً فشيئاً على الثروات السورية الطبيعية، وسبق لها بناء محطتين لمعالجة الغاز في منطقة تدمر، بقدرة مشتركة تبلغ 9 ملايين متر مكعب في اليوم، كما أنها بنت الجزء الأول من القسم السوري من خط الغاز العربي، الذي يمتد من الحدود الأردنية إلى محطة ضخ الرّيان بالقرب من مدينة حمص.
وكذلك وضعت الشركة يدها مؤخراً على مجمع الأسمدة الوحيد في سوريا بمعامله الثلاث، وهي: معمل السوبر فوسفات، ومعمل اليوريا، ومعمل نترات الأمونيوم، وذلك من خلال عقد طويل الأجل لمدة 40 عاماً، تشبه آليته ما حصل بالنسبة لمرفأ طرطوس. وأيضاً أنجزت الشركة مشروع معمل غاز شمال المنطقة الوسطى في تدمر، بالإضافة إلى العديد من المشاريع الأخرى.
تبريرات وحقائق
فضلاً عن التبريرات المذكورة أعلاه، التي ساقها وزير النقل في حكومة النظام السوري، ذهبت تبريرات أخرى صادرة عن دوائر موالية للنظام السوري إلى أنّ هذا العقد سيؤدي إلى كسر الحصار المفروض على النظام السوري، عبر تجاوز العقوبات الأميركية والغربية. ولكن هذا غير صحيح بصرف النظر عن طبيعة العقد، ذلك أن العقوبات تشمل الشركة العامة لمرفأ طرطوس وكل جهة تتعاقد معها، بصرف النظر عن طبيعة هذا التعاقد.
يضاف إلى ذلك أن أياً من هذه المزاعم لا يمكن أن يبرر إجراء عقد مدته 49 عاماً، وبالنظر إلى الأرقام التي أعلنها وزير النقل في حكومة النظام نفسه، فإنّ تكاليف الانفاق الروسي على عمليات التوسعة وتشييد المباني وبناء المراسي العائمة وتعميق القاع ستبلغ أكثر بقليل من 500 مليون دولار، فيما ستبلغ إيرادات الخزينة السورية السنوية من العقد 84 مليون دولار، وهو ما يمثّل 25% من الإيرادات الكلية للمرفأ، وما يعني أنّ هذه الإيرادات تبلغ أكثر من 320 مليون دولار سنوياَ، حصة الشركة الروسية منها ستزيد على 230 مليون دولار سنوياً، أي أنها ستكون قد استعادت ما أنفقته خلال سنتين أو ثلاثة سنوات من العمل فقط.
تقول مصادر من عاملين في مرفأ طرطوس للجمهورية، إن المبرر العملي الوحيد لإبرام هذا العقد هو تراجع قدرة الشركة العامة لمرفأ طرطوس على استثمار المرفأ وتشغيله بسبب العقوبات المفروضة عليها، وعدم قدرتها على إصلاح كثير من الآليات والروافع المعطلة رغم إعلانات المناقصات على الموقع الالكتروني لمرفأ طرطوس، والتي يشير تكرار بعضها بحذافيره عدة مرات إلى أن أحداً لم يكن يتقدم لتنفيذها، وهو ما كان يمكن أن يؤدي خلال سنوات قليلة قادمة إلى إيقاف العمل في المرفأ تقريباً.
بالمقابل، يبدو واضحاً أن روسيا قد استغلت هذه الأوضاع، واستغلت هيمنتها على مفاصل القرار في النظام السوري، وبدلاً من أن تساعد في إصلاح المرفأ وتزويده بآليات جديدة أو إصلاح الآليات القديمة، اتجهت لإبرام عقد شامل مجحف، تقول جميع التسريبات إن أحد بنوده ينص على أنه لا يحق للشركة العامة لمرفأ طرطوس فسخ العقد بإرادتها المنفردة في أي وقت.
ويبقى السؤال مفتوحاً حول إمكانية فسخ هذا العقد في حال تغيير النظام السوري مستقبلاً، وهو سؤال تجيب عليه السياسة أكثر مما يجيب القانون، إذ ستتحكم طريقة رحيل النظام بمدى إمكانية فسخ هذا العقد وعشرات العقود المماثلة المبرمة مع شركات روسية وإيرانية، لكن يبقى أن القانون الدولي يتيح فسخ العقد أو تغيير بعض بنوده في حال إثبات أن إبرامه كان تحت الإكراه، وهو ما لن يكون إثباته صعباً في حال توفرت ظروف سياسية مواتية.