توقَّعَ المزارعون في سوريا أن محاصيل هذه السنة ستكون الأوفر منذ أكثر من عقد، إلا أن الحرائق التي طالت مساحات هائلة من الأراضي في أنحاء البلاد، والعمليات العسكرية التي قام بها النظام وحلفاؤه في محافظتي إدلب وحماة، أدت إلى تراجع تلك التقديرات بشكل كبير، حتى أصبحنا في مواجهة احتمال كارثة غذائية ضمن مناطق سيطرة فصائل المعارضة في محافظتي حماة وإدلب.

وكانت المناطق الخارجة عن سيطرة النظام في محافظات إدلب وحلب وحماة قد فقدت مساحات واسعة من الأراضي الزراعية خلال السنتين الماضيتين، نتيجة العمليات العسكرية وتقدّم النظام، من بينها كانت مناطق اشتهرت بزراعة القمح والشعير في ريف حلب الجنوبي، وكانت توفر لوقت طويل إمدادات جيدة من المحاصيل الزراعية الاستراتيجية للمنطقة، خاصةً عندما يتصاعد القتال على خطوط التماس على نحو يمنع دخول القمح من مناطق أخرى في سوريا إلى إدلب.

ومع إطلاق النظام عملياته العسكرية الأخيرة نهاية شهر نيسان الماضي، أصبحت هذه الخسائر أكبر بكثير، إذ تقدر منظمة REACH أن الحرائق طالت أكثر من سبعة آلاف هكتار في عدة نواحي من ريف حماة الشمالي وريف إدلب الجنوبي، مثل كفرزيتا وكرناز وخان شيخون، ما يعني خسارة مساحات كبيرة مزروعة بالقمح والشعير وغيرها، الأمر الذي تسبب بارتفاع فوري في أسعار عدد من المواد الغذائية الأساسية وصل في بعض الحالات إلى 35%.

المهندس مجد الحاج عمر، مدير تجمع التنسيق الزراعي في منطقة إيكاردا، قال للجمهورية إن «النظام عمد ضمن سياسة ممنهجة إلى قصف الأراضي المزروعة بالقمح والشعير التي تعد محاصيل استراتيجية، ما قد يؤدي إلى عزوف كثير من المزارعين عن زراعة أراضيهم في السنوات المقبلة خشية تكرار الأمر والخسائر المترتبة عليه، كما أن القصف يؤثر على حالة الأراضي وقدراتها الزراعية».

خسارة هذه المحاصيل لا تعني فقط ارتفاع أسعار المواد الغذائية وصعوبة الحصول عليها فقط، بل تعني خسارة عدد كبير من السكان لمصدر رزقهم الأساسي، إذ تعد الزراعة ثاني أهم مصدر للرزق في منطقة إدلب والأرياف المجاورة لها، الأمر الذي سينتج عنه عدم قدرة عدد كبير من السكان على الحصول على احتياجاتهم الأساسية نتيجة ارتفاع التكاليف وانخفاض القدرة الشرائية وتراجع المدخول المادي.

وحول هذا يضيف الحاج عمر: «خسارة هكتار المزروع بالقمح تعني خسارة المُزارع والسوق المحلية لأربعة أطنان من القمح»، واذا كان طن القمح الواحد يصل سعره التقريبي إلى 250 دولار، فإن حرق سبعة آلاف هكتار تعني خسارة ملايين الدولارات للمزارعين في المنطقة، وهي خسارة لا يوجد ما يعوضها.

ويكشف تقرير لمؤسسة بناء للتنمية حول الأمن الغذائي في إدلب، حصلت الجمهورية على نسخة منه، عن أن عمليات القصف الممنهجة التي يتبعها النظام لها تأثيرات واسعة النطاق على القطاع الزراعي في المحافظة، إذ أن نزوح الفلاحين وعائلاتهم يمنعهم عملياً من حصاد المحاصيل التي تقع ضمن المناطق الخطرة، كما أن تدمير البنية التحتية للزراعة، بما يشمل الأراضي والمعدات الزراعية الآلية، سيؤدي إلى انخفاض كبير في قدرة السكان على إعادة زراعة أراضيهم في المستقبل، ما سيساهم في تعطيل دورة الإنتاج الزراعي التي تؤمن جزءاً كبيراً من الغذاء للمنطقة.

وتتجه الأوضاع إلى مزيد من التدهور في ظل استمرار القصف، مع تزايد أعداد المحتاجين لمساعدات فورية وثابتة، خاصةً النازحين الذين يعيش عشرات الآلاف منهم حتى اللحظة في العراء، في وضع تجاوز قدرة المنظمات الإنسانية المحلية، التي لم تحظَ حتى الآن بدعم دولي على قدر الكارثة في المنطقة. وعن هذا يقول أنس الإدلبي، المتحدث باسم فريق منسقو الاستجابة، للجمهورية: «أكثر من سبعين في المئة من سكان محافظة إدلب والأرياف المجاورة لها بحاجة إلى مساعدات غذائية اليوم، في حين أن أكثر من 600 ألف نازح منذ شباط الماضي، من مناطق ريف حماة وريف إدلب الجنوبي، هم الأكثر احتياجاً لهذه المساعدات».

كذلك فإن ارتفاع المخاطر، نتيجة العمليات العسكرية، يحول دون القدرة على الوصول إلى أعداد كبيرة من النازحين والسكان لتقديم المساعدات، وقد قالت مروة عواد الناطقة باسم برنامج الغذاء العالمي في سوريا في حديث للإذاعة الوطنية الكندية إن العمليات العسكرية أعاقت فعلاً توزيع المساعدات، تحديداً جنوب إدلب.

وعلى الرغم من موجات النزوح الكبيرة، إلا أن جنوب إدلب لا يزال يضم أعداداً كبيرة من السكان والنازحين الذين هربوا من قراهم التي تقع مباشرة على خطوط التماس وضمن مجال العمليات العسكرية، وبينما وصلت أعداد كبيرة من النازحين إلى تجمع المخيمات في أطمة على الحدود مع تركيا، فإن المخيمات هناك قد تجاوزت قدرتها الاستيعابية بمستوى كبير، إلى درجة أن الخيمة الواحدة قد تضم أربع عائلات في بعض الحالات.

وتشير تقديرات المنظمات الإنسانية اليوم إلى أن استمرار التصعيد العسكري في المنطقة سيؤدي إلى كارثة على مستوى الأمن الغذائي للسكان، إذ وعلى الرغم من أن إدلب تقع على الحدود مع تركيا، الأمر الذي يمنع حصارها تماماً من قبل النظام، إلا أن أعداد السكان المعتمدين على المساعدات يزداد، في مقابل تراجع القدرة لدى المنظمات الإنسانية على الوصول إلى جميع المناطق، وتراجع الدعم عموماً، بالإضافة إلى اقتصاره في أغلب الأوقات على مشاريع الإغاثة الطارئة، مثل تقديم سلل غذائية واحتياجات أساسية لمرة واحدة تكون كافية عادة لمدة شهر. ويعني هذا في الواقع عدم وجود خطة واضحة لتقديم الدعم لأكثر من 365 ألف نازح هربوا من بيوتهم وقراهم فقط منذ بداية شهر أيار الماضي، يضافون إلى أعداد كبيرة من النازحين خرجت من مناطقها على مراحل متقطعة وبقيت على حالها، مثل موجة النزوح التي سببها قصف النظام لجنوب وشرق إدلب في شهر شباط الماضي.

في حال لم يتم الوصول إلى تهدئة في الأشهر القادمة، تعقبها إجراءات منظمة لضمان الأمن الغذائي في المنطقة، فإن هذه الأوضاع ستتفاقم في فصلي الخريف والشتاء القادمين، إلى درجة ستترك آثارها لسنوات على القطاع الزراعي والأمن الغذائي في إدلب ومحيطها، ذلك أن المزارعين المنكوبين لن يكون باستطاعتهم زراعة أراضيهم من جديد بمفردهم، كما أن استمرار المعارك يعني ازدياد أعداد السكان الذي يحتاجون إلى مساعدات طارئة قد لا يجدونها.