ظلت الأراضي التركية، حتى مطلع العام 2016، ملاذاً ومعبراً هو الأيسر لشرائح واسعة من السوريين، الذين تتنوّع أسباب تركهم للبلاد باختلاف الظروف والأطراف الحاكمة لحيواتهم والمتحكّمة بها. فمنهم من خرجوا نجاةً بأنفسهم من الأعمال الإبادية المديدة للتحالف الأسدي الروسي الإيراني، ومن الاعتقالات التي يفضي كثيرٌ منها إلى الموت تعذيباً في سجون النظام. ومنهم أولئك الذين أجبرتهم مضايقات وقوانين الجماعات الجهادية على البحث عن مساحات أصلح للعيش، أو اضطروا لترك البلاد جراء ملاحقة هذه الجماعات لهم، بعد أن صار لبعضها سجونٌ وأجهزة أمنية. أطيافٌ أخرى من السوريين كانت ظروف التجنيد القسري في صفوف قوات النظام، أو بشكلٍ أقل لدى بعض المليشيات، هي العصا التي دفعتهم بعيداً عن ديارهم. كذلك أرغمت الظروف المعيشية السيئة كثيرين على مغادرة البلاد من أجل إطعام أولادهم، وإذا لم يكن ثمة تهديد مباشر دفع هؤلاء إلى الخروج، فإنهم كانوا قد يجدون أنفسهم مهددين بالموت كسواهم حين تصل نيران المعارك إليهم.

تحت هذه الخطوط العريضة، التي لا تُجمل بحالٍ من الأحوال أسباب ارتحال «المهاجرين» السوريين إلى أرض إخوانهم «الأنصار» في تركيا، فإنّ هنالك كمّاً لا ينتهي من القصص والحوادث الفردية التي يروي بعضَها على مسامعنا أقاربُ وأصدقاء، تجعل من الصعب تقديم إجابة عن السؤال الألمعي لدى مُضيّفينا: «لماذا تركتم بلادكم؟ لماذا أنتم هنا بيننا؟». لكن دون عناء البحث عن تقاطعات بين القصص التي نسمعها يومياً، فإنّ ألماً كبيراً يربط بين هذه القصص جميعها، كما يربط بينها شعورٌ غامرٌ بانعدام الحيلة. هذه الثنائية، الألم وانعدام الحيلة، باتت لشدّة عاديّتها في يومياتنا نوافذ مازوشيّة يُطلّ منها الضحك على بعض سهراتنا! وفي العموم، هذه القصص جميعها لا تدخل في حسبان مُضيّفينا، حكومياً وحتى شعبياً في أحيان كثيرة، حين يقرّرون أن يقولوا لنا أهلاً وسهلاً أو مع السلامة.

ومع دخول مسلسل اللجوء السوري عامه الثامن، لم يعد الحضور السوري في تركيا حدثاً طارئاً على المستوى الشعبي والرسمي، بل بات ثقيلاً ملموساً ويتخطّى الحيّز الإنساني أو رابطة الدين اللتين تعامل على أساسهما بدايةً جلّ الأتراك مع السوريين حين فتحوا لهم الحدود والبيوت، كما صار قسمٌ من الأتراك، اليوم، يرون في السوري طارئاً يقاسمهم بلادهم وجنسيتهم ويصبغ مناطق من وطنهم بثقافته وعاداته التي حملها معه.

في الوقت ذاته، راح قسمٌ من الأتراك يذهبون إلى رفض وجود السوريين كذكور، إذ أنّه طالما يوجد رجالٌ قادرون على حمل السلاح من السوريين، فلماذا يموت أولادنا هناك في قضيّةٍ لا تعنيهم، بينما يهرب هؤلاء إلى هنا كي يأكلوا ويشربوا ويعملوا آمنين على أنفسهم! يتجاهل هؤلاء، أو ربما لا يعرفون إذا افترضنا حسن النوايا، أنّ الجيش التركي ذهب إلى سوريا من أجل ما تعتقد السلطات التركية أنه متطلبات أمنها القومي، وليس دفاعاً عن السوريين بحال.

الأسباب السابقة وغيرها أدت إلى تنامي الخطاب العنصري ضدّ السوريّين، حتّى بات أيسر ما يمكن تحريض ألوف من الأتراك على الاعتداء عليهم وعلى أرزاقهم بعنفٍ بالغ، في أيّ وقت وعلى وقع أيّ خبر؛ حقيقياً كان أو مُختلقاً عبر منصّات التواصل الاجتماعي. وبينما تصدر اليوم وزارة الداخلية التركية مجموعة قراراتٍ تتعلق باللجوء السوري غير المُقنّن، تراها باتت لازمةً وتشرع في تطبيقها مباشرةً، يحق لنا أن نسأل إذا كان من العدل تحميل السوريين نتائج سنوات من التعامل الرسمي التركي معهم بشكلٍ عشوائي يتعامى عن النتائج التي يفرزها وفود ملايين «الضيوف»، الذين لم تشأ الحكومة التركية يوماً اعتبارهم لاجئين، ولم تفكّر على مرّ السنوات الماضية بتنفيذ سياسات تدريجية تُفضي إلى تشريع قوانين تنظّم حياتهم وإقاماتهم، دون أن يؤدي فرضها بين يومٍ وليلة إلى ترحيل بعضهم دون التفكير بالمصير الذي سيلاقونه في بلادهم التي ما تزال غير آمنة ومعرّضة للتصعيد العسكري في كلّ وقت.

كما ينبغي التفكير جدياً بالجهة التي ينبغي أن تدافع عن السوريين في تركيا أو غيرها من بلدان اللجوء إزاء ما يتعرّضون له أو يتهدّدهم، إذ لا يعدو السوريون اليوم كونهم أفراداً مُتناثرين في دول العالم، بلا ممثّل لهم أو مُدافع عن حقوقهم في وجه سياسات الدول المُضيفة، وكذلك في وجه الخطاب العنصري اليميني المتنامي في الدول التي يحضرون فيها، والحملات المُتطرّفة التي تبني جزءاً من خطابها اليومي والانتخابي على أكاذيب مُلفّقة.

يتنامى اليوم شعورٌ بالخديعة لدى شرائح واسعة من السوريين المُقيمين في تركيا وخارجها، على خلفية القرارات والممارسات الصادرة عن الجانب الرسمي التركي، حتى بين أولئك الذين كانوا شديدي الولاء لرجب طيب أردوغان، وكانوا يرون فيه حامياً ومخلصاً لهم من عذاباتهم، وفي حزبه نموذجاً للطرف الذي يرغبونه حاكماً في سوريا. ويمكن القول إنّ هذا الشعور بالخديعة أخذ يتسلّل إلى النفوس مع القرار الرسمي بإغلاق الحدود عام 2016، وراح يزداد مع الإحساس بأن هذا الإغلاق دائمٌ وليس مؤقتاً، ودفع إلى ترسيخه استخدام أقدار رهيبة من العنف والقتل المباشر بحقّ المتسللين عبر الحدود، وصولاً إلى جملة القرارات الفجائية الأخيرة، التي نقلها وزير الداخلية التركي لمجموعة من الناشطين والإعلاميين السوريين كي يوصلوها ويشرحوا مضامينها لأهلهم.

لقد بات واضحاً أنّه كلّما أصبحت السلطات التركية أكثر حضوراً في الداخل السوري، أصبح السوريون أكثر اختناقاً في الداخل التركي. وأيضاً، بات السوريون يتحسسون عدم استقرارهم في تركيا كأمرٍ واقع، وصار الضيق والخوف هما الشعوران المُلازمان لهم، فبعد الصفقة التركية مع الاتحاد الأوروبي، لم يعد هنالك بحرٌ يلقون بأنفسهم فيه حتى يعبروا إلى بلادٍ تُعاملهم كلاجئين وفق ما تنصّ عليه القوانين الدولية، ولم تعد تركيا محطّةً أو نقطة عبور. لقد باتت تركيا المكان الذي يبيعون كل ما يملكونه في بلادهم ليبدأوا حياةً آمنةً فيه، وكذلك المكان الذي يُطردون منه أو يُحاصرون فيه لتنفتح مصائرهم على العدم والمجهول.

لا تقتصر الريبة من مستقبلٍ مجهول على السوريين الذين يعيشون في تركيا، إنّما هي حالهم في كلّ مكانٍ وصلوا إليه. بات السوري على قلقٍ من غده، وأصبح حضور ملايين السوريين الذي توزّعوا في أنحاء الأرض طاغياً كأنّهم مئات الملايين، كأنّ العالم بأسره لم يعد يحتمل حضورهم فيه سوى على شكل أشلاء تفيض بها الصور ومقاطع الفيديو، أو كأن أكثر من سبعة مليارات من البشر ليسوا قادرين على استيعاب بضعة ملايين من اللاجئين بينهم.

بات السوريون اليوم تحت مجاهر كبيرة تُعملق حضورهم وتداعياته حيثما وجدوا، ويتشارك أصحاب هذه المجاهر أشكالاً من المخاوف التمييزية والعنصرية بالغة التناغم في بواعثها، وفي توقيتها أيضاً على ما يشرح مثال لبنان خلال الأشهر الأخيرة؛ مخاوف محمولة على بشاعة يستتر منها أكثر مما يظهر، بشاعة عابرة للظروف والحدود، وغير مبالية بارتدادات ممارستها على السوريين وعلى البلدان والشعوب التي استقبلتهم على السواء.

إنّ نظرةً سريعةً على حال السوريين وتفاصيل يومياتهم، والعوائق الفردية والجماعية التي يصارعونها في بلدان اللجوء على اختلافها، تكفي لتقدير مرارة ما يعيشونه باختلاف الظروف والأمكنة، لكن رغم المرارة البادية للعيان، ورغم الكارثة المستمرة في سوريا، يواصل العالم تنصّله من الملف الإنساني السوري، واستقالته الأخلاقية من النظر في أحوال السوريين التي لا تُحتمل، ليكون ذلك استمراراً ونتيجة للاستقالة السياسية التي تتركهم فريسة لنظام الإبادة في دمشق.