فكرتُ كثيراً قبل أن أكتب هذه المادة، فكرتُ في مدى قدرتي على أن أكتب عن خطواتي الأولى، عن طفولتي وشبابي وعلاقتهما بالمكان، عن المكان ذاته مدينة وحيّاً وبيتاً، وعن جدوى ذلك في ظل اختفاء ملامح هذه الأمكنة واختفاء خطواتي فيها، وكأن كل ذلك كان مطر غيمة بيضاء عابرة، أمطرتنا قليلاً ثم مضت في طريقها وتركتنا وحيدين.
أعترفُ أنه لا قدرة كبيرة لديَّ لهذا الأمر، لا قدرة لي لأن ذاكرتي مملوءة بالحواجز والصواريخ والدم فقط، وهي وحدها من تسيطر عليّ الآن، تفصل بيني وبين حمص، بيني وبين بيتي، وبيني وبين الخالدية، الحي الذي ولدت ونشأت فيه وصدّتني عنه حواجز كثيرة، والآن تصدّني عن هذه الذاكرة حواجز مدينة إسطنبول التي تسعى إلى ترحيلنا من منفانا القسري إلى اللامكان، لكنني مع هذا سأحاول أن أستحضر ملامح ما بقي في الذاكرة.
*****
ولدتُ في حمص ولم أعرف غيرها مدينة، إلا حين كبرت قليلاً وكنت أسافر لبعض المدن السورية لساعات فقط وأعود. لاهثاً خلف فريق مدينتنا الأزرق الذي ورثتُ حبه عن أبي، ومن يكبرني من أفراد العائلة سناً.
نشأت في الخالدية، الحي الشعبي الكبير نسبياً في مدينة حمص، الحي الذي كنيّ نسبة لخالد بن الوليد ومسجده الواقع على طرفه الجنوبي الغربي والذي يعرف عند أهل حمص بـ «سيدي خالد»، بكسر السين وسكون الياء الأولى، هذا اللفظ، «سيدي خالد»، الذي لطالما استجلب النُكات على أهل حمص بتقليد إياه من بقية أبناء المدن السوريّة. المسجد الجامع الذي بٌني في القرن السابع الهجري من حجر البازلت الأسود بأمر من الظاهر بيبرس والذي هدم وأعيد بناءه على نمط الجامع الأزرق في إسطنبول بأمر من السلطان عبد الحميد الثاني عام 1908. ولم أكن لأفكر وقتها أبداً أو أتخيل أن أرى النسخة الأصل من «سيدي خالد» ولو في أحلامي التي لا أتذكر معظمها، «سيدي خالد» بقبابه الفضية اللامعة ومئذنتيه هو بداية الحي لمن يأتيه من مركز المدينة، وكأنه يقول أنا سدّ الحي المنيع وحارسه الأمين، قبل أن يدمروا هذا السد ويعيدوا ترميمه بطريقة تشوّه ذاكرتنا عمداً.
في الحي الذي كان امتداداً للمسجد الواقع خارج سور مدينة حمص القديمة، والذي بني في ستينات القرن الماضي كما قيل لنا، وكان قبل ذلك قرية صغيرة على أطراف الجامع، يقع بيتنا -الذي كان موجوداً- على الطرف الآخر من الحي.
يمتد حي الخالدية في الجهة الشرقية الشمالية لمدينة حمص، ويبعد عن مركز المدينة أقل من كيلو متر واحد، يحيطه من الجنوب حي الحميدية؛ ومن جنوبه الشرقي كرم شمشم، الحي المختلط سكانياً بين سنّة ومسيحيين وعلويين؛ ومن الشرق حي البياضة؛ ومن الغرب أوتستراد حماة ووراءه جورة الشياح والقصور؛ ومن طرفه الشمالي حي مساكن الضباط ومساكن التأمينات الصغيران نسبياً وهما نهاية المعمار في حمص من جهة الشمال.
*****
تقول لي أمي إنهم حين سكنوا بيتهم وليلة العرس، اضطر والدي لرصف الخفّان عشرات الأمتار ليستطيعوا المرور هم والمدعوون لحفل الزفاف، كانت ليلة ماطرة على ما يبدو والطريق كان موحلاً، كبداية حياتهم الصعبة، موحلاً كان طريق حياتهم إلا من جنينهم الأول الذي كنته.
البناء الذي كنّا نسكنه يتألف من أربعة طوابق كمعظم أبنية الحي، وبيتنا في الطابق الأخير منه، كبرتُ في البيت وهو بدوره كَبر معنا، ولأن الطفل يرى الأشياء من منظوره الخاص، كنتُ أشعر أن البيت كَبُر معي، هكذا كنت أظن وما زلت، ورغم تغير نظرتي للكثير من الأشياء خلال فترة مراهقتي ثم شبابي، لكنني في الحقيقة لا أرغب في تغيير هذه النظرة تحديداً. كبرتُ مع البيت وكبرُ معي، وكأننا ولدنا من رحمٍ واحد، رحم أمي، تلك العروس التي منحتني الروح، ومنحت منزلها الجديد جزءاً من روحها أيضاً، تآخينا حتى أصبح المنزل رفيقي الوحيد طيلة 24 سنة، قبل أن أغادره وتغادره العائلة في رحلة نزوحها الداخلي.
مع مرور الوقت، ورغم تحسن الأوضاع المادية لوالدي، لم يفكر بتغيير المنزل الذي سكنّاه هذه السنين الطويلة من أجل أن نسكن في منطقة أرقى من الحي الشعبي الذي نسكنه، لأنه كان يظن أن فنجان قهوة على «الفرندة» التي تطل على حديقة طولها يصل إلى عشرات الأمتار، كافية لتشعره وكأنه في الجنة، ومن يبّدل الجنة؟ كنت أتفق مع رأيه رغم عدم اقتناع أمي.
أمام «سيدي خالد» بعد صلاة الجمعة- 2010
يتألف بيتنا من أربع غرف، كبيرة كمعظم بيوت حمص، وأصبحت خمسة عند إعادة تقسيم إحدى الغرف بعد خمس عشرة سنة، لإجراء بعض التغييرات على المنزل حتى يستوعب عدد أفراد الأسرة؛ يومها طلبت من أبي أن يكون لون جدران غرفتي على ألوان الفريق الذي ورثت حبه عنه، فتحولت من الأبيض إلى الأزرق والبرتقالي، لون فريق مدينتنا حمص، فريق الكرامة، بالرغم من عدم رضا أمي ومعارضتها؛ ليس كرهاً في الفريق الذي لا يهمها أمره، إنما لأنه سلب عقل ابنها الكبير، وزوجها – أبي؛ الذي أورثني جينات النادي وألوانه.
في غرفتي تلك بنيت عالمي الذي كان عبارة عن مكتبة صغيرة، بدأتْ بكتاب صغير وقع بين يدي صدفة، يتحدث عن تاريخ معالم متفرقة في المدينة، كانت المرة التي أتعرف عليها، منها «سيدي خالد» الذي صلّيتُ فيه عشرات المرات وكنتُ أظن أنني أعرفه حقاً لكن ظني خاب وقتها. زاد عدد الكتب التي تتحدث حمص عندي عن الأربعين كتاباً، تجولتُ في المدينة وعشتُ تاريخها وأنا جالسٌ في غرفتي الزرقاء، تعرفتُ على حمص وتاريخها من خلال الكتب قبل أن أعرفها حقيقة، إضافة إلى بعض الروايات التي كنت أعيش تفاصيلها وأسكنها إن صح القول عند كل قراءة لواحدة منها، هرباً من واقع لم أدركه قبل عام 2011.
لم أعرف الحي كثيراً في صغري لأنني كنت مدلَّلَ العائلة، ومن نافل القول كما ذكرت أنني لم أعرف حمص أيضاً، ممنوع من الخروج إلى الشارع واللعب في الحديقة المقابلة لمنزلنا. خوف الأهل ذاك كان مبالغاً فيه إلى درجة أن ملامح الحي تُختصر عندي بشارع واحد من البيت إلى المدرسة الابتدائية، ثم اتسعت ملامحه قليلاً مع انتقالي إلى مدارس أخرى، الإعدادية والثانوية، لتشمل كل الحي.
*****
ليس للخالدية ذكريات كثيرة عندي في هذه المرحلة من عمري الحالي الذي بلغ ثلاثين عاماً، وأستطيع أن ألخّصَ 24 عاماً من عمري عشتها في الخالدية بساقية الري وجسرين من الحديد لعبور الساقية التي تطوّق الحي من الغرب، وكأنها تحميه من أوتستراد طريق حماة وزحمته التي لا تطاق. الساقية التي بناها الفرنسيون قبل وجود الحي خلال انتدابهم لسوريا. والذكرى الأخرى الأكثر وقعاً لدي هي جارنا في المحل، أبو إسماعيل، وهو من السلمية، عرفته طاعناً في السن، هرماً لا يعرف من الواقع إلا ما حصل معه في الماضي، كان يروي لي شيئاً عن جدي الذي لم أعرفه ولم يعرفني، وكيف كان يجلس على مصطبة حجر على طرف محل أعمامي قبل أن يصبح لأبي بعد ذلك؛ مصطبةٌ مبنيةٌ من الحجر البازلت الأسود الذي تشتهر بها حمص وبُنيت به بيوته القديمة، كان يؤتى بها من منطقة وعرة ملأى بهذه الأحجار وسميت لأجل ذلك «الوعر»، قبل أن تصبح امتداداً طبيعياً للمدينة التي بدأت تكتظ بسكانها منذ الستينات. صرتٌ أجلس على المصطبة لاحقاً لأستحضر ذكرى جدي، ولم أعرف أنني سأجلس على أحجار بازلتية مشابهة لتلك المصطبة لأكثر من أربع سنوات، هي سنوات حصاري في الوعر، الحي الذي أختار أهلي اللجوء إليه مؤقتاً في 15 آذار 2012، كان عمري وقتها 24 سنة. ودعتُ البيت، ودعتُ رفيقي على أمل العودة بعد عدة أيام، لكن هذه الأيام طالت عليّ وعلى أهلي حتى الآن.
*****
لم تكن الخالدية تعني لي شيئاً قبل 2011، أو في الحقيقة لم أشعر بالانتماء الكامل لها خلال طفولتي ومراهقتي وبداية شبابي. لا أكرهها بالطبع، لكنني أيضاً لم أكن أحبها، المعادلة صعبة، صعبة حقاً، ربما من الأفضل القول إنها لم تعن لي الكثير وقتها، هذا التعبير أدق وأكثر قرباً لما كنت أشعر به؛ أما الآن فأنا أفتقدُ الحي، أفتقدُ بيتي، غرفتي ومرجوحتي وحارتي وأهل حارتي؛ وإنني أخجل من القول أنني تعرفت على حارتي وأهلها عن قرب مع بداية الثورة السورية سنة 2011، سنة واحدة فقط عرفتُ فيها الحي وأهل الحي الذي تربيتُ فيه، لم تكن المدة كافية بالتأكيد، لكن تطور الأمور خلال هذه السنة وتحول الحي إلى كتلة من الغضب وقِبلة للمحتجين والمتظاهرين، كان كفيلاً بأن أعرف معدن من يسكنه. سنةٌ واحدةٌ كانت كافية لأعرفهم ويعرفوني.
أما بيتي فآخر مرة رأيت فيها ملامحه قبل أن تغتصبه الصواريخ، كانت عند عرض فيلم العودة إلى حمص عام 2014، كنتُ في حمص وقتها لكنني لم أر البيت، حتى عندما أخلي المحاصرون من حمص القديمة والأحياء التي يسيطرون عليها لم أستطع زيارته مع أنه بعيد عشرت الأمتار، لكن المسافات في حمص كانت تقاس بالحواجز لا الأمتار. لم يتغير شيء الآن وأنا في إسطنبول، رغم ظني بأنني تحررتُ من عُقد الحنين إلى البيت والحي والمدينة، وتحررتُ من الحواجز والصواريخ والدم، لكنها الآن تأتيني خلال كل حلم، تطلب مني أن أحافظ عليها، أنا أحافظ على ذاكرتي قصيرة النفس وأنا الآن في حصاري الثاني، لكن هذه المرة في منزلي المؤقت، هارباً من حواجز الترحيل في إسطنبول.