على الرغم من بيان ولاية اسطنبول الصادر يوم الإثنين الماضي، الذي تحدث عن مواصلة مكافحة الهجرة غير الشرعية في تركيا، وفي الوقت نفسه عن عدم ترحيل أي سوري قسراً، بما في ذلك غير المسجلين نهائياً، الذين سيتم نقلهم إلى ولايات تحددها وزارة الداخلية وفق البيان نفسه؛ وأيضاً على الرغم من تصريحات وزير الداخلية التركي اللاحقة، التي جاءت تأكيداً لمضمون بيان الولاية، إلا أن أجواء الخوف لا تزال تخيم على السوريين في اسطنبول، خاصة في ظل استمرار انتشار عناصر الشرطة التركية في نقاط عبور رئيسية في أحياء عديدة من المدينة، واستمرار احتجاز عشرات السوريين، وترحيل أعداد منهم إلى سوريا، وإن بوتيرة أقلّ.
وليس ترحيل سوريين من تركيا إلى الشمال السوري أمراً جديداً، بل كان يحدث باستمرار خلال السنوات القليلة الماضية، لكنه لم يكن يأتي على شكل حملات منظمة واسعة النطاق، وكان يشمل على وجه الخصوص من يتم إلقاء القبض عليهم قريباً من الحدود السورية بعد اجتيازهم تلك الحدود بشكل «غير شرعي»، بالإضافة إلى أشخاص متفرقين يتم احتجازهم وترحيلهم نتيجة ارتكابهم مخالفات متنوعة، تشمل الدخول في شجارات، أو قيادة سيارات ودراجات نارية بدون رخصة، أو عدم حصولهم على بطاقة الحماية المؤقتة، أو العمل بدون إذن قانوني.
لم يكن هناك اعتراضٌ نشطٌ أو مسموعٌ على هذه الإجراءات في السابق، ويرجع ذلك لأسباب عديدة من بينها أن معظم المرحلين كانوا يحاولون العودة مجدداً، ويعتبرون أن إثارة الضجيج ربما تعرقل محاولاتهم تلك، وأيضاً بسبب عدم وجود جسم تنظيمي معروف ونشط يعبّر عن حال اللاجئين السوريين في تركيا، وبسبب الهيمنة التركية على قرار مؤسسات المعارضة السورية، وأيضاً لأن الأمر كان، كما ورد أعلاه، لا يحدث على شكل حملات منظمة تخنق حياة عشرات آلاف السوريين دفعة واحدة.
أما ما يحدث في اسطنبول اليوم فهو حالة من الرعب العميم، ذلك أن عشرات الشهادات حول كيفية تصرف عناصر الشرطة التركية تقول إن بعض هؤلاء العناصر يعتدون بالضرب على المحتجزين، ويقومون بتنفيذ ترحيلات خلافاً للقرارات المعلنة، من قبيل ترحيل أشخاص خرجوا من بيوتهم ناسين اصطحاب بطاقة الحماية المؤقتة معهم، وترحيل أشخاص إلى سوريا رغم حملهم بطاقات حماية مؤقتة صادرة عن ولايات أخرى غير اسطنبول، وهذا ما يجعل جميع بيانات السلطات التركية التي تقول بعدم ترحيل أحد إلى سوريا قسراً غير مطمئنة.
لكن الأهم هو أن المُرحَّلَين يوقعون على أوراق تفيد بأنهم يوافقون على العودة إلى سوريا طوعاً، وتقول شهادات المرحلين إن هذه التواقيع تتم إما عن طريق عدم شرح مضمون الأوراق والإيحاء بأنها أوراق روتينية، أو عن طريق الإجبار من خلال استخدام مقادير متفاوتة من العنف والتخويف، ويعني هذا في نهاية المطاف أن الترحيل يمكن أن يستمر باعتباره عودة طوعية، وهو ما يُفقد مجدداً بيانات السلطات التركية أي أثر مُطمئن.
وقد حولت هذه الظروف حياة عشرات آلاف السوريين إلى جحيم، ذلك أنهم باتوا يخشون الخروج من منازلهم لممارسة أعمالهم، وباتوا يعيشون تحت كابوس احتمال تشتت شمل العائلات أو البقاء دون مصدر دخل، في وقت تتصاعد فيه مشاعر وتعبيرات الكراهية تجاه السوريين لدى قطاعات من الشارع التركي، لتزيد من وطأة هذه الكوابيس وقسوتها.
ولمواجهة هذا الواقع، نشط عشرات السوريين عبر مواقع التواصل الاجتماعي ومواقع صحفية متنوعة، من خلال حملات وكتابات تهدف إلى تعريف العالم بما يحدث، وتسعى لحشد التضامن اللازم لوقفه، ونقل هذا التضامن إلى مرحلة الفعل من خلال التواصل مع جهات تركية حكومية ومدنية. كما تحركت المعارضة السورية بعد أيام من بدء الحملة، وكان الاجتماع الذي ضمّ أنس العبدة رئيس ائتلاف قوى الثورة والمعارضة مع وزير الداخلية التركي سليمان صويلو، الذي نتج عنه تشكيل لجنة مشتركة لمتابعة أوضاع اللاجئين السوريين في تركيا.
كذلك، بدأت جهات تركية فعاليات متنوعة للتضامن مع اللاجئين السوريين، جاءت أول الأمر على شكل كتابات ومواقف فردية تضامنية من أكاديمين ومثقفين متنوعين في تركيا، ومن مختلف التوجهات السياسية، ثم تطورت لتأخذ شكل بيانات صدرت عن جهات عديدة، من بينها بيان صادرٌ عن واحدة من أهم منظمات حقوق الإنسان في تركيا، وهي Turkey Human Rights Foundation، قالت فيه إن الترحيل الجماعي والترحيل القسري إلى سوريا يجب أن يتوقف فوراً، وإن حق التنقل هو حق أساسي لكل إنسان. كما صدرت بيانات مشابهة عن حركات ومنظمات أخرى، من بينها منظمة علماء النفس للتضامن الاجتماعي، ومنظمة Hevi LGBTI للدفاع عن حقوق مجتمع الميم، ومنظمة المحامين المعاصرة، وغيرها، وقد اتفقت كلها على رفض الإجراءات التي تقوم بها السلطات التركية. كما نفذت ناشطات نسويات من تركيا اعتصاماً مساء أمس الخميس في مدخل محطة ميترو عثمان بي في اسطنبول، تحت شعار «سنعيش معاً»، رفضاً لإجراءات الترحيل.
بالإضافة إلى ذلك، عقدت مجموعة من الحقوقيين والنشطاء في تركيا اجتماعاً مصغراً مساء الأربعاء الماضي، بهدف مناقشة سبل التضامن مع اللاجئين السوريين لمواجهة هذه الأوضاع المعقدة، وقد ضم الاجتماع محامين ونشطاء من تيارات يسارية وعلمانية متنوعة، ونشطاء في مجالات حقوق الإنسان وحقوق اللاجئين وناشطات نسويات، بالإضافة إلى عدد من النشطاء والصحفيين السوريين والسوريات.
في حديث لها مع الجمهورية، قالت الأنثروبولوجية شناي أوزدن إنه تم التركيز خلال الاجتماع على ثلاث مسائل رئيسية؛ أولها وأهمها كيفية تقديم الدعم العاجل للاجئين السوريين المحتجزين المعرضين لخطر الترحيل إلى سوريا، وذلك عن طرق العمل على تأسيس شبكة منظمة من المحامين للعمل على وقف هذه الترحيلات عبر اللجوء إلى القضاء.
وتجدر الإشارة إلى أنه يمكن لعائلات الأشخاص الذين تم ترحيلهم إلى سوريا اللجوء إلى مكتب المساعدة القانونية في نقابة محامي اسطنبول، بهدف اتخاذ إجراءات قانوينة قد تؤدي إلى إعادة من تم ترحيلهم، وأيضاً لاستصدار قرارات قضائية بوقف ترحيل الأشخاص المحتجزين الذين يُحتمل أن يتم ترحيلهم إلى سوريا، باعتبار أن تركيا من الدول الموقعة على الاتفاقيات الدولية التي تمنع ترحيل اللاجئين إلى مناطق قد يتعرضون فيها لخطر يهدد حياتهم.
تتابع أوزدن حديثها عن المسـألة الثانية الرئيسية التي ناقشها الاجتماع، والتي تتعلق بمقاومة العنصرية والكراهية ضد اللاجئين في تركيا، عبر وسائل متنوعة منها الوسائل القانونية، ومنها فتح نقاشات عامة حول الخطاب العنصري وخطورته على اللاجئين والمجتمع التركي نفسه، والعمل مع النقابات والاتحادات المهنية والبلديات على هذه القضية، بالإضافة إلى توسيع النقاش بخصوص هذه المسألة في أوساط التيارات العلمانية واليسارية المعارضة في تركيا، لتحفيزها على الوقوف في وجه الخطاب العنصري.
أما المسألة الرئيسية الثالثة في الاجتماع، فكانت تتعلق بضرورة التواصل مع منظمات دولية وأممية بهدف الضغط على السلطات التركية من أجل دفعها للالتزام بالاتفاقات الدولية التي وقعت عليها. وبالإضافة إلى ذلك، تطرق الاجتماع إلى قضايا متفرقة أخرى، منها اقتراحات بتأسيس شبكات لدعم العائلات السورية التي سيتم ترحيلها من اسطنبول إلى ولايات تركية أخرى، وضرورة التواصل بشكل أوسع مع اللاجئين السوريين وإشراكهم في هذا النوع من النشاطات. كما تحدث المجتمعون أخيراً عن أنهم سيعملون على تنظيم اجتماع أوسع بخصوص هذه المسائل كلها يوم غد السبت، وأنه سيتم توجيه دعوة عامة لجميع الجهات والأفراد الراغبين بالمشاركة في وضع الخطط والاستراتيجيات.
لا يزال شبح الترحيل وتشتيت شمل العائلات والخنق الاقتصادي والحرمان من العمل يخيّم على السوريين في اسطنبول، وفي تركيا كلها، وربما تخفف حملات الضغط الإعلامي والإجرءات المتنوعة التي تقوم بها جهات عديدة في تركيا وخارجها من حجم الكارثة قليلاً، لكنها لن تكون كافية ما لم يتم الضغط على السلطات التركية بشكل جدي وفاعل يدفعها إلى وقف التجاوزات التي يتعرض لها السوريون، وإلى التخلي عن سياسة الضغط الخانق الذي يفضي إلى مأساة إنسانية كبيرة، والاتجاه بدلاً من ذلك إلى سياسات طويلة الأمد تحترم حقوق الإنسان وتترك للسوريين مساحة للعيش بلا خوف، الخوف الذي بات جزءاً يومياً من حياة النسبة العظمى من السوريين داخل البلاد وخارجها.