تحتل هيئة تحرير الشام موقعاً رئيسياً ضمن خطة الدول المؤثرة في سوريا اليوم، فبعد أن انتزع التنظيم الجهادي السيطرة على معظم إدلب والأرياف المحيطة بها، وقام بتنصيب حكومة الإنقاذ كجهة إدارية رئيسية فيها، بات هو الطرف الأكثر نفوذاً في آخر منطقة سورية تقع خارج سيطرة النظام وخارج السيطرة المباشرة للقوى الدولية والإقليمية. وعلى الرغم من أنّ اتفاق سوتشي الذي وقعته أنقرة مع موسكو خريف العام الماضي، يتحدث عن إبعاد التنظيمات الجهادية، إلا أن تركيا لم تتخذ في أي وقت إجراءات جدية لتقويض سيطرة التنظيم، حتى خلال المعارك التي قضى فيها تباعاً على فصائل في الجيش الحر وفصائل إسلامية أخرى، والتي جاء بعضها بعد توقيع اتفاق سوتشي.
وتُظهِر عدّة مؤشرات إقليمية ودولية، وأخرى محلية مرتبطة بالتنظيم، أن هناك خططاً تسير باتجاه تسهيل الطريق أمام تحول الهيئة إلى طالبان سوريا، بما يعنيه هذا التشبيه من تعميق البنية الجهادية المحلية ضمنه وابتعاده عن الجهاد العالمي، مقابل فتح قنوات للحوار معه، حتى أن هناك تسريبات تحدثت في الآونة الأخيرة عن نية واشنطن شطب اسم الهيئة من قوائم الإرهاب، وهو ما أعلنت موسكو رفضها له أو لمجرد النقاش بخصوصه عدة مرات.
وكان الهدف المعلن من جميع التحولات التي دخلت فيها جبهة النصرة، بِدءاً من فك ارتباطها بالقاعدة، وصولاً إلى التغيير التدريجي في خطابها وحملها اسم هيئة تحرير الشام بعد تحالفها مع فصائل محلية، هو سحب ذرائع موسكو وطهران ونظام الأسد في عملياتهم العسكرية الوحشية في مناطق سورية عديدة. كما أن الهدف المعلن لأي إجراءات جديدة نحو رفع الهيئة من قوائم الإرهاب، في حال صحة التسريبات، سيكون نفسه، أي وقف عمليات القصف التي تنفذها موسكو وقوات النظام على أرياف حماة وإدلب وحلب، مُسببةً أزمة إنسانية هائلة.
ولكن الوقائع تشرح كيف أن هذه التحولات لم تكن مفيدة على هذا الصعيد في أي وقت، والأرجح أنها لن تكون مفيدة في المستقبل أيضاً، ذلك أن روسيا وحلفائها واصلوا حربهم دون هوادة على جميع المناطق المتمردة على النظام السوري بذريعة الحرب على الإرهاب، بما في ذلك مناطق لم يكن هناك أي سيطرة للجهاديين فيها. وفي ظل هذه الوقائع، لا يبدو أن التحولات باتجاه ابتعاد هيئة التحرير الشام عن الجهادية العالمية، وباتجاه اعتراف جهات إقليمية ودولية بهذا الابتعاد، ستؤدي إلى أي شيء سوى تعميق ما فعله غض البصر الدولي عن تغوّل جبهة النصرة، التي أصبحت لاحقاً هيئة تحرير الشام، على المناطق المحررة في سوريا، هذا التغول الذي كان واحداً من أسباب الاستعصاء الكارثي الذي نشهده في إدلب اليوم.
ولقد كان القصف الأميركي بداية شهر تموز/يوليو الجاري على مقر لتنظيم حراس الدين (اتضح لاحقاً أن المقر كان يضم عناصر منشقين بدورهم عن تنظيم الحراس، لتشددهم حتى بنظر هذا التنظيم)، مؤشراً على نتائج التحول الشكلي الذي أنجزته الهيئة، والذي انتهى بانشقاق الكتلة التي تضم مهاجرين وقاعديين سوريين، وإنشاء تنظيم مستقل يرفع علم القاعدة هو حراس الدين. وتقول هذه الغارة إن ثمة موقفاً عملياً أميركياً يسير باتجاه إخراج الهيئة من دائرة الحرب على الإرهاب، بصرف النظر عن مسألة بقائها على قوائم الإرهاب الأميركية نظرياً، لتصبح الهيئة في موقع جديد تماماً، فالتنظيم الذي كان فرعَ القاعدة في سوريا، بعد أن كان الفرع السري لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق، بات يحاول اليوم الحصول على اعتراف، وإن كان ضمنياً، بسلطة الأمر الواقع التي فرضها على إدلب ومحيطها.
وإذا كانت الأوضاع التي خلفتها الحملة الوحشية للنظام والروس على المدنيين في إدلب، تستبعد فتح مثل هذا النقاش بشكل جدي وعلني اليوم، إلا أن التصرفات الأميركية ستشجع التنظيم على مزيد من الابتعاد عن الجهادية العالمية، نحو مزيد من تعميق مشروعه الأصلي، وهو إنشاء تنظيم جهادي محلي يحكم بسلطة السلاح مساحات من سوريا، المشروع الذي بدأه أبو ماريا القحطاني في دير الزور، وانتقل إلى إدلب بعد اكتساح تنظيم داعش للمناطق الشرقية في سوريا.
وستدفع الرسائل الإيجابية من القوى الإقليمية والولايات المتحدة الهيئة إلى مزيد من المحلية، فبعد خروج التيار الأردني (بخلاف أو اتفاق) من الهيئة ليكون أحد أركان تنظيم حراس الدين، تستهدف الهيئة اليوم العناصر الأجنبية المصرية ضمنها. وعلى الرغم من أن هذه العناصر لا تنتمي بمعظمها إلى التيار الجهادي العالمي، بل إلى التيار السلفي المصري الحديث، وكان عدد منها يعمل في تنظيمات سلفية ذات صبغة محلية بشكل واضح، وبالتحديد حركة أحرار الشام، مثل الشرعي السابق في الهيئة أبو اليقظان المصري، إلا أن هامش الحضور العلني للمهاجرين يضيق إلى أقصى حد حتى بالنسبة لهؤلاء. وفيما يجد عدد كبير من المقاتلين الأجانب، تحديداً من السعودية، أن نفوذهم بدأ بالتراجع منذ ما قبل هذه التطورات، فإن الشكل الطالباني للهيئة يصبح أوضح يوماً بعد يوم.
سيشكّل ترسيخ هذا التوجه في الهيئة مخرجاً للقوى الدولية والإقليمية، وذلك في حال فشلت روسيا في السيطرة على المنطقة، إلا أن هذا يفتح الباب أمام تسليم إدلب، التي يقطنها أربعة ملايين سوري، للهيئة التي ستفرض نظامها الخاص فيها، ذلك أن حكم الجهاديين المحليين للسوريين قد لا يكون مزعاجاً لأحد، طالما أن هؤلاء لا ينوون القيام بعمليات خارج مساحة سيطرتهم.
ويبدو أن حرب الإبادة التي يشنها النظام على إدلب اليوم تعطي هذه الاستراتيجية الشرعية اللازمة، فمن الذي سيتحدث عن الهيئة عندما يُقتل المدنيون في أريحا ومعرة النعمان، وعندما يتم تهجير مئات الآلاف من بيوتهم. وحتى أولئك المنخرطون في المقاومة المجتمعية لهذا التنظيم في تلك المناطق، لن يجدوا الفرصة للتعبير عن مخاوفهم بينما يهربون بأطفالهم من تحت نيران البراميل المتفجرة إلى العراء، أو الأسوأ من ذلك، عندما يرون أهلهم يقتلون بنيران الطيران الروسي وطيران نظام الأسد.
تستهدف الحرب الروسية المجتمع بأكمله في إدلب، ويقاومها المجتمع كله ببسالة، سواء عن طريق الأعمال المدنية الطبية والإغاثية والإعلامية وغيرها، أو من خلال الوقوف على الجبهات وخوض المعارك التي تشترك فيها سائر الفصائل المسلحة المتنوعة، لكن مجمل السياسات الدولية تنتهي إلى أن تكون هذه الحرب فرصة لا تقدر بثمن للتنظيم الجهادي كي يلعب دوراً في الخطط الموضوعة لسوريا، بعد أن كان مصيره موضوعاً على المحك طوال الفترة الماضية.
ولا يتعلق الأمر بالولايات المتحدة وتركيا وخططهما فقط، بل إنه سبق لمجرمي الحرب في موسكو أن صنعوا تفاهمات مع تنظيمات مماثلة للحكم باسمهم في الشيشان، وذلك بعد حربهم التي قضت على كل نزعة استقلالية هناك من خلال نهج الإبادة، ليبدو واضحاً كيف أن النهج الدولي في الحرب على الإرهاب يترك خلفه في حال نجاحه الكامل مجتمعات مدمرة كلياً، أما في حال نجاحه الجزئي، فإنه يترك تلك المجتمعات تحت حكم التنظيمات التي تمّ شنُّ الحرب أصلاً بذريعة القضاء عليها.